تشارلز ديكنز ينسى حبه الأول.. طفولة مسحورة بقصص ألف ليلة وليلة

تشارلز ديكنز ينسى حبه الأول.. طفولة مسحورة بقصص ألف ليلة وليلة

وحيدة المقدادي
تحتفل مدينة (برودستيرز) الانجليزية في نهاية شهر حزيران من كل عام بذكرى زيارة الروائي تشارلز ديكنز وإقامته فيها. و(برودستيرز) مدينة ساحلية صغيرة قلما يعرفها العالم الخارجي إلا أنها تشكل أهم المحطات الأبداعية في حياة ديكنز، إذ أقام فيها مايقرب من عقدين من الزمن وأستلهم من أجوائها أشهر رواياته.

وقد تعرضت هذه المدينة في الماضي لغزوات (الفايكنغ) القادمين من الأصقاع الأسكندنافية، وهي اليوم واحة هادئة تمتزج فيها العَراقة بالبساطة، ويتجلى تاريخها (الديكنزي) بقوة في حاضرها، حتى يخيل للزائر أن الروائي الكبير مازال يقيم فيها وأنه قد يطل في أية لحظة بلباسه الفيكتوري ولحيته الطويلة!
بدأت إقامة ديكنز في (برودستيرز) من عام 1839 ولغاية عام 1859. وكان يجد في مناخها المعتدل وهدوئها الحالم واحة للتأمل والكتابة، إضافة الى ماتشتهر به من ينابيع وعيون صحية جعلته يشيد بها ويعتبرها (المنتجع الأول في انجلترا) وهو وصف مازال يردده بفخر سكانها. إلا أن إقامة ديكنز في المدينة، على مايبدو، جذبت اليها حركة ونشاطا لم تألفهما، فغدت مقصدا للباعة والحرفيين والصيادين الذين أصبحت اصواتهم تقلق سمعه وتحول بينه وبين ممارسة الكتابة، وهو ما أفصح عنه في احدى رسائله الموجهة الى صديقه وكاتب سيرته جون فورستر..
كتب ديكنز في (برودستيرز) عددا من أشهر رواياته منها رواية (نيكولاس نيكلبي)، وقد أصبح البيت الذي أقام فيه أثناء كتابتها جزءا من فندق (ألبيون هوتيل) الموجود بهذا الأسم حاليا. وكتب فيها أيضا رواية (ديفيد كوبرفيلد) الشهيرة، حيث أستقى من شخصية صاحبة البيت (ماري بيرسون سترتوود)، الشخصية الرئيسية في الرواية. وقد أصبح هذا البيت متحفاً مهماً يعرف اليوم بـ (ديكنز هاوس) ويقع على بعد أمتار من فندق (ألبيون هوتيل) المشار أليه.
وكتب ديكنز في(برودستيرز) روايته الأخرى (بليك هاوس) وهو أسم البيت الذي أقام فيه خلال كتابتها والذي لا يزال يرتفع شامخا فوق الأخاديد الصخرية المحاذية للشاطئ. هنا كان يواصل الكتابة في الغرفة المشرفة على البحر لثماني ساعات يوميا. ومع أن الأسم الأصلي للبيت هو (فورت هاوس) نسبة الى الزقاق الموجود فيه، إلا أنه بمرور الزمن اكتسب أسم الرواية واصبح يسمى حاليا (بليك هاوس). وقد تم الأبقاء على البيت كما تركه ديكنز، بما في ذلك شجيرة الجيرانيوم ذات الزهور الحمر الأثيرة الى نفسه.
كذلك كتب ديكنز في (برودستيرز) روايته الأقل شهرة والأكثر سوداوية والمسماة (دكان العجائب القديم) الصادرة في عام 1851. وقد أعيد تقديم هذه الرواية منذ عدة أشهر في عمل تلفزيوني جديد أنتجته قناة (آ.تي.في) البريطانية.
إبن الشعب
اينما يتوجه الزائر في (برودستيرز) تستقبله ابتسامات الأهالي العفوية وترحابهم. وتراهم يتحدثون عن كاتبهم الشهير كما لو أنه لايزال معهم، ويحفظون الكثيرمن التفاصيل عن أبطال رواياته، بل وحتى حياته الزوجية وعلاقاته الأجتماعية. ولكن يبدو أنهم لايُلمون بشيء يذكرعن جذور ثقافته الأدبية وقراءاته لقصص الف ليلة وليلة وتعلقه بها منذ طفولته، الأمرالذي كان له الأثر الكبير في شحذ خياله وإذكاء موهبته وتعليمه أسلوب السرد المتسلسل المشحون بالترقب الذي تتسم به قصص ألف ليلة، والذي يعد من أهم أسباب شهرته وتعلق القراء برواياته!
وقد اعتادت إدارة المهرجان، والذي يحتفل هذا العام بمرور واحد وسبعين عاما على إنطلاقه، على أستضافة بعض أحفاد ديكنز، لاسيما الحفيد السادس (جيرالد ديكنز) والذي يثير حضوره دائما دهشة كبيرة نظرا لما يحمله من شبه مذهل بجده! ومن الصعب أن نتصور أن الحفيد، وهو ممثل ومنتج مسرحي، لم يعتمد على التشابه بينه وبين جده في تدعيم نشاطه الفني الذي يتضح أنه يتمركز في الولايات المتحدة الأميركية، حيث الجمهورهناك متحمس حتى النخاع لكل مايمت بصلة للتاريخ الانجليزي!
ويعد متحف (ديكنز هاوس) الذي يقع بمواجهة الساحل، من المعالم الديكنزية الرئيسية في مدينة (برودستيرز). هنا يقف سيل دائم من السياح الذين غالبا مايكونون من المسنين، في أنتظار دورهم لقطع تذكرة الدخول الى المتحف الذي كان في أيام ديكنز منزلا للسيدة التي أصبحت فيما بعد بطلة لرواية (ديفيد كوبرفيلد). ويحتوي المتحف على مجموعة من المقتنيات الشخصية لديكنز من بينها طاولة الكتابة والقرطاسية وشماعة الملابس التي مازالت تحمل قبعته. وعندما يصل الزائرالى قاطع التذاكر في صالة الأستقبال يشرع الأخير على الفور برواية تاريخ المتحف بطريقة روتينية وبصوت جهوري لايخلو من نبرات الفخر التي ترتفع بشكل ملحوظ حين يكون الزائر من بلد أجنبي! عندئذ لايملك الزائر إلا أن يمعن النظر في هيئة مُحدّثه الذي يبدو بحد ذاته شخصية من شخصيات ديكنز المثيرة!!
بعيدا عن المهرجان الذي يقام في أواخر شهر حزيران، يشعر المرء أن ديكنز حاضر في حياة المدينة على مدى الأيام والشهور. ففي احتفالات عيد الميلاد (الكريسماس) التي تقام طوال شهر كانون الأول، يتجدد الأهتمام بقراءة أدب ديكنز لاسيما كتابه الشهير(ترانيم عيد الميلاد) الذي صدر لأول مرة في 17 كانون الأول من عام 1843 في فترة وصفها المؤرخون بتدهور القيم الروحية والأخلافية وانتشار القيم المادية للمجتمع الصناعي الجديد، فجاء الكتاب ليعيد للمناسبة أهميتها المعنوية والروحية، ولاقى إقبالا منقطع النظير منذ الأسبوع الأول لصدوره. ونلمس اليوم شعورا متأصلا لدى الشعب البريطاني بأن ديكنز له الفضل في تحويل (الكريسماس) من مناسبة بسيطة ومقتضبة الى مناسبة أجتماعية حافلة بالهدايا واللقاءات والولائم والقصص الشعبية التي خلدتها روايات ديكنز.
وعندما نتمعن جيدا في النسيج الاجتماعي لمدينة (برودستيرز) نكتشف أن العديد من الأسر تتوارث العمل منذ عشرات السنين في ميدان الصناعات (الديكنزية)، إن صح التعبير، ومنها على سبيل المثال صناعة مستلزمات المهرجان السنوي بما يتضمنه من عروض مسرحية وتحفيات وأزياء من العصر الفيكتوري. هناك أيضا صناعات الدمى التي تجسد شخصيات ديكنز الروائية، والخدمات السياحية المرتبطة بتوفير السكن والنقل والمطاعم لزوار المدينة. وما يلفت النظر في (السوق الفيكتوري) الذي يقام سنويا في خيمة على ساحل البحر، مظهر السيدات والفتيات العاملات في السوق بلباسهن الفيكتوري وقبعاتهن المكللة بالورود والأرياش. ومن هؤلاء المسز (جوون ببام) الخبيرة بالأزياء الفيكتورية. ونكتشف من خلال الحديث معها وجود علاقة كبيرة بين أناقة المرأة في العصر الفيكتوري وبين التقسيم الطبفي السائد أنذاك. كما نكتشف بعض الملامح المشتركة بين التقاليد الانجليزية القديمة وبين تقاليدنا العربية! توضح المسز ببام قائلة: " كانت التقاليد الأجتماعية تحث على ظهور المرأة بمظهر الحشمة والوقار سواء فيما يتعلق بتصميم الفستان أو تصفيف الشعر. فكان يحبذ إرتداء الفساتين الطويلة ذات الأكمام الكاملة وعدم الظهور بشعر منثور أو حتى مقصوص، لا بل كان يتعين على المرأة التحفظ في الكلام والضحك والأختلاط مع الغرباء... أما من الناحية الجمالية فكان يحبذ ان تحافظ على بياض بشرتها وتبتعد عن أشعة الشمس، ومن هنا ظهرت فكرة إرتداء قفازات الدانتيل الطويلة، وأستعمال المظلة المطرزة الصغيرة، وكلاهما يعتبرمن مكملات الأناقة الرئيسة بالنسبة لنساء الطبقة العليا في المجتمع الفيكتوري". وتضيف السيدة ببام قائلة: "كان لباس سيدات الطبقة العليا يتألف من العديد من القطع لأن زيادة عدد القطع يدل على علوّ المنزلة الاجتماعية، اما سيدات الطبقة الففيرة فليست لديهن بطبيعة الحال القدرة على إقتناء قطع كثيرة، فكان لباسهن بسيطا ومختصرا".
ديكنز والمرأة
قد لا تروق صورة المرأة في أدب ديكنز للمنادين اليوم بالمساواة بين الجنسين. وتدلل كتب السيرة والأبحاث على أن ديكنز استقى آراءه حول المرأة ودورها في المجتمع من شخصيتين أساسيتين في حياته، هما والدته (اليزابيث) التي كانت مثالا للمرأة المتفانية في خدمة أسرتها و توفير مستلزمات الراحة والاستقرار لها، على الرغم مما عانته من اسراف الزوج وسوء تدبيره ودخوله السجن لعجزه عن تسديد الديون! أما الشخصية الثانية في حياة ديكنز فهى زوجته (كاثرين هوغارث) التي انجب منها أولاده العشرة.
تعرض ديكنز للانتقاد من قبل العديد من الباحثين الغربيين بسبب ماأعتبروه موقفا سلبيا من المرأة. فهو يضع المرأة التي تحاول الخروج عن دورها التقليدي في مكانة متدنية. ولا تستعيد أهميتها عنده إلا بالعودة الى الدورالمنزلي. وفي تحليلها لصورة المرأة في رواية ديكنز (آمال كبيرة) تقول الباحثة لوريت راسيت:
"يتضح من رواية (آمال كبيرة) أن ديكنز يفضل النموذج المنزلي للمرأة. ومع أنه يقدم للقارئ أحيانا نماذج نسائية متمردة وأكثر تعبيرا عن ذاتها، وربما مستبدة، إلا انه يجعلهن يستسلمن في النهاية ويعدن تائبات الى الوظيفة المنزلية، ليثبت للقارئ أن المرأة لكي تحظى بأحترام المجتمع عليها أن تكون زوجة وأماً ". وتضيف الباحثة (راسيت) قائلة: " إن ديكنز يجعل من الآنسة (هافيشام) في رواية (آمال كبيرة) شخصية سلبية تجسد الكآبة والذبول لكونها غير متزوجة، ولكنه سرعان مايمنحها شيئا من الفيمة الأجتماعية بعد تبنيها لـ (ستيلا). فالمرأة عند ديكنزلاتكسب الاحترام إلا من خلال تقديم الخدمة للآخرين".
يُتهم ديكنزأيضا بأنه لم يكن عادلا مع زوجته (كاثرين) إذ أقدم على تطليقها بدعوى التقصير في تربية الأولاد بعد عشرين عاما من الزواج، برغم أن الطلاق في تلك الحقبة كان يشكل وصمة اجتماعية كبيرة. كما عرف ديكنز بعلاقاته الكثيرة، منها علاقته المثيرة للغرابة بالشفيقة الصغرى لزوجته وتدعى (ميري)، والتي أصيبت بمرض مفاجئ وتوفيت بين ذراعيه وهي لما تزل في السابعة عشرة من العمر. وفيل أن ديكنز طلب أن يدفن الى جوارها وأنه أصبح يرتدي خاتمها في أصبعه طوال حياته!
كما وقع ديكنز في حب شقيقة أخرى لزوجته، وتدعى (جورجيانا). وكانت له أيضا علاقة طويلة بممثلة تدعى (ايلين تيرنان). وبهذا الصدد تقول عنه ابنته (كيْتي) التي توفيت في عام 1929: "لم يكن والدي يفهم المرأة.. ولم يكن رجلا حصيفا أو (جنتلمان). كان أمره مختلطا عليه، ولكنه برغم ذلك كان أنسانا رائعا".
والملاحظ أن الأبنة (كيْتي) كانت تجسد صورة مغايرة تماما لصورة المرأة المقهورة في روايات والدها. فقد كانت أمرأة متحررة بمقاييس عصرها. وكانت تستضيف في بيتها بلندن رجال الفكر والأدب، من بينهم الكاتب المسرحي المشهور جورج برنارد شو. وكانت لوحاتها تعرض في الأكاديمية الملكية للفن (رويال اكاديمي)، كما كانت عضوة في (جمعية سيدات الفن) المرموقة.
وقد تردد في ذلك الوقت بأن طلاق والديها ترك في نفسها حزنا وأكتئابا لازماها طوال حياتها.
الناطق باسم الفقراء
كتب ديكنز في مدينة (برودستيرز) كما أسلفنا روايته المهمة (ديفيد كوبرفيلد) الصادرة في عام 1850 والتي تعد وثيقة للنقد والأصلاح الأجتماعي. وقد عكست الرواية، التي يعتبرها النقاد بمثابة سيرة ذاتية له، الظروف القاسية التي تعرض لها في طفولته عندما عمل في أحد مصانع الأحذية في لندن بسبب العوز الذي تعرضت له أسرته بعد سجن والده، ما شكل له نقلة قاسية من عالم الطفولة الحافل بالدمى والألعاب الى عالم المشردين والمنحرفين. وطالما تحدث ديكنزعن هذه المرحلة بمرارة، ولم يكن ليغفر لوالديه زجه، وهو دون سن المراهقة، في تلك الأجواء.
كان المعلمون على أيام ديكنز يستخدمون العنف الجسدي مع التلاميذ ولم تكن هناك تشريعات تنظم طرق التدريس. وكان ديكنز يدعو الى نبذ الضرب وعدم أتباع أسلوب التحفيظ الببغائي أثناء التدريس، وكانت دعوته الأصلاحية تحث على غرس الفيم الأخلافية في نفوس التلاميذ مع أعطائهم حرية أختيار المواد الدراسية وفقا لميولهم ومواهبهم. وقد أدت جهوده الأصلاحية الى أحداث تعديلات جوهرية في نظام التربية والتعليم بدأت تأتي ثمارها أبتداء من عام 1870.

إن شهرة ديكنز كاتباً مبدعاً منحته سلطة اجتماعية يظل ديكنز جديرا بالأهتمام والدراسة حتى اليوم.. انه أول كاتب تقرأه الطبقة السفلى في المجتمع ويدفن مع العظماء في مقبرة ويستمنستر. لقد هاجم ديكنز في روايات (أوقات عصيبة) و(بليك هاوس) و(ليتل دوريت) و(اوليفر تويست) المؤسسات الأجتماعية بشدة، مع ذلك فأنه لم يتعرض لأي عداء أو إستهجان. والحقيقة أنه بأنتقاده المؤسسات التعليمية والحكومية والقانونية كان ينتقد الطبيعة البشرية أكثر من أية جهة أخرى".
وحول أتهام ديكنز بتبني الأفكار الأشتراكية لكونه عاش في ماعرف بالعصر الصناعي الجديد الذي مهد لظهور نظرية كارل ماركس، يقول أورويل: "يقال أن الناقد (ماكولي) رفض ان يكتب عرضا لرواية (أوقات عصيبة) لديكنز، لكونه، أي الناقد (ماكولي)، لايتفق مع الحس الأشتراكي في تلك الرواية.. لكن في الحقيقة ليس هناك سطر واحد فيها يمكن أن ينسب إلى الفكر الأشتراكي.. بل أنها رواية رأسمالية ولكنها تدعو الى رأس المال الشريف اكثر مما تدعو الى قيام ثورة عمالية. لقد أراد ديكنزالقول ان الناس اذا ماتصرفوا بنزاهة فان العالم سيكون نزيها"
ألف ليلة وليلة..
الحب الأول!
ولد تشارلز ديكنز في السابع من شباط من عام 1812 لأسرة من الطبقة المتوسطة تعيش في بورتسموث بمقاطعة هامشير في جنوب انجلترا. وتمت الولادة في تمام الساعة الثانية عشرة ليلا من يوم جمعة. وقد كتب لاحقا عن حدث ولادته بقوله: "كان صراخي في لحظة الولادة ينطلق في ايقاع متناغم مع دقات الساعة وهي تعلن عن حلول منتصف الليل".
كان والده يعمل قي دائرة حكومية تابعة للبحرية وكان يتقاضى راتبا جيدا الا انه كثيرا ماكان يعجزعن تسديد اجورالسكن فيتعرض للسجن. وكان الوضع المعيشي المتأرجح للأسرة من اسباب عمل ديكنز في احد مصانع الأحذية بلندن. فواجه مسؤوليات الحياة وهو في سن غضة وتعرض لظروف قاسية نقلته من عالم الطفولة السحري الذي كان يجد فيه كل مايتمناه الطفل من العاب وقصص الى عالم يعج بالمنبوذين والمشردين.
يقول الناقد غريهام سمث الذي كتب سيرة حياة ديكنز واصفا تأثير قصص ألف ليلة وليلة عليه قائلا:
" أن قصص ألف ليلة وليلة هي (الحب الأول) في حياة ديكنز. فقد ساعدت (حكايات الجنّي) بشكل خاص على تشكيل خياله، ومكنته من الوصول الى (ذروة شعرية) في الكتابة بدلا من الأكتفاء بالنقل العادي لمجريات الواقع. ان هذه الذروة الشعرية هي مايجسد قدرته الحقيقية ككاتب".
ويقول باحث أخر هو(تيم ريمر) حول تأثير قصص ألف ليلة على نشوء الرواية الأوروبية: "لايمكن تجاهل دورهذه القصص في تشكيل التجربة الأدبية لديكنز ولبقية الأدباء الذين عاصروه. بل لايمكن في الحقيقة تجاهل دورها في ظهورالروايات المبكرة العظيمة في أوروبا".
تم جمع وتدوين حكايات ألف ليلة وليلة في بغداد في العصر العباسي خلال الحقبة الواقعة مابين القرنين التاسع والرابع عشر الميلادي، وترجمت لأول مرة في اوروبا من قبل أحد رجال الدولة الفرنسيين وهو (انطوان غالاند) الذى كان واسع الاطلاع على اللغات العربية والتركية والفارسية. قرأ غالاند رحلات السندباد في عام 1690 وتمكن من ترجمتها بشيء من التصرف في عام 1701. أما ترجمتها الى اللغة الأنجليزية فقد صدرت في عام 1885 من قبل ريتشارد بيرتون. وفي بداية القرن التاسع عشر سعى كتاب عديدون في انجلترا الى أعادة تقديم قصص ألف ليلة كل بأسلوبه الخاص، وصدرت نسخ عديدة محورة تروق لعموم الناس
منها نسخة الكاتب الانجليزي جيمس رايدلي. وقد أنتشرت تلك النسخ في معظم البيوت في العصر الفيكتوري، ووجد الصغيرديكنز نسخة منها في قبو منزله. وقد تأثر ديكنز بشدة بهذه الحكايات وألف على منوالها، وهو في الحادية عشرة من العمر، مسرحية بعنوان (مِسنار: سلطان الهند) ولكن هذا الأبداع الأدبي المبكر ضاع ولم يعثر له على أثر.
عالم ديكنز السحري!
في الزقاق الرئيس لمدينة (برودستيرز) يوجد العديد من المكتبات التي تزدحم بالكتب القديمة والنادرة. وتضم مكتبة (ألبيون بوك شوب) مجموعة قيمة من الكتب المتعلقة بديكنز، أحدثها كتاب صادر في السبعينيات بعنوان (عالم تشارلز ديكنز) وضعه الناقد الأنجليزي السير أنجوس ولسون (1913-1991). نقرأ في هذا الكتاب، الذي تتخلله رسوم تصور المجتمع الفيكتوري، عن حادثة طريفة وقعت لديكنز حين كان طفلا شديد الولع بالدمى والأقنعة المصنوعة من الورق، إذ أستيقظ ذات ليلة من نومه مذعورا وهو يصرخ "إنه قادم اليّ..." ويبدو أنه رأى في المنام احد تلك الأقنعة التي يلعب بها في النهار يتحرك صوبه! ويعلق الناقد ولسون حول تأثير هذه الحادثة بقوله: "إن المتعة الممزوجة بالهلع هي أهم مايميز روايات ديكنز ويجعلها جذابة للقارئ. إن ديكنز يمنح الحياة للأشياء الجامدة ويجعلها تتصرف كالمخلوقات البشرية، وربما هو يفعل ذلك لأنه كان في طفولته يتحدث الى الدمى والأقنعة ويتعامل معها كبشر". ويضيف الناقد ولسون: "لقد كتب ديكنز ذات مرة عن أهمية الخيال بالنسبة للأنسان، قائلا: في عصر تحكمه الصناعة، نحتاج الى خيال الطفولة لكي تنمو أحلامنا".
وفي موضع اخر من هذا الكتاب الشيق نجد وصفا صادقا لأهمية قصص ألف ليلة وليلة في تشكيل تجربة ديكنز الروائية. فيقول السير ولسون أن الدورالذي لعبته القصص يتضح على مستويين هما المستوى االخيالي والمستوى السردي. ويقر بأن موهبة ديكنز ككل أستندت الى دعائم عربية قوية. ويوضح قائلا: "أن (الليالي العربية) هو الكتاب الذي أعتمد عليه ديكنز _ بعد شكسبير والكتاب المقدس _ في رواياته ورسائله. كانت (الليالي العربية) حاضرة في ذهنه الى درجة أنه كان يشيراليها في أية مناسبة وكل مناسبة.. وكانت عنصرا ثابتا في محاضراته وأحاديثه. وقد أشار اليها في أول خطبة له ألقاها في بوسطن بالولايات المتحدة في عام 1842، ثم في واشنطن وفرجينيا، حيث كان يستخدم في تلك الخطب عبارات مثل: " كما الجني في الحكاية" و "كما الأميرة في الليالي العربية".
ويقر السير ولسون أيضا بان ديكنز تعلم من ألف ليلة أسلوب السرد الروائي المشحون بالترقب، أي مثلما كانت شهرزاد تفعل مع شهريار حين كانت تستحوذ على إهتمامه بتأجيل نهاية القصة في كل ليلة. ويتجلى إستخدام ديكنز لهذا الأسلوب في رواية (ديفيد كوبرفيلد)، فكان بطل الرواية يشعر بالخوف والهلع من فقدان الرعاية التي يقدمها (ستيرفورث). كما يتجلى في رواية (دكان العجائب القديم) التي تشير بعض المصادرالى أن نشرها في حلقات مسلسلة أدى الى تعلق الجمهور الشديد بها وأصبح ديكنز يستلم رسائل كثيرة تطالبه بأنقاذ حياة الشخصية الرئيسية في الرواية وهي الطفلة (نيل). ليس هذا فحسب بل يقول السير ولسون ان ديكنز أستخدم شخصيا اسلوب شهرزاد بنشره الرواية على حلقات متسلسلة لكي يزيد لهفة القراء! ويعقد ولسون مقارنة شيقة بين المصير الذي كان ينتظر شهرزاد وبين التزام ديكنز تجاه الناشر فيقول: "ان وقوف عامل المطبعة عند باب ديكنز لياخذ المادة كل اسبوع هو اشبه بتهديد شهريار لشهرزاد بالموت، فكأنه يقول له: "أعطنا حكاية جديدة، وإلا.."
ولكن برغم أهمية قصص ألف ليلة وليلة في تشكيل تجربة ديكنز الأبداعية فأن جدول المهرجان الحافل بالأحاديث والعروض لم يعكس هذا الركن الجميل من أركان طفولته وأدبه. وردا على سؤال طرحناه على السيدة سيلفيا هوكز، أحدى عضوات لجنة المهرجان، حول هذا الجانب ردت بالقول: "لايوجد في مهرجان السنة الحالية فقرة تتطرق الى علاقة ديكنز بقصص ألف ليلة، ولا أذكر أن المهرجان تطرق الى هذا الموضوع منذ أنضمامي اليه منذ أحد عشر عاما".
مراكب الأحلام
حين نتأمل الامتداد الريفي الأخضر المحيط بالمدينة، تتسرب الى أذهاننا صورة ديكنز وهو يستغرق في تدوين رسائله الى أصدقائه القاطنين في أرجاء أخرى من أنجلترا. كانت الرسائل تتحدث عن جمال الطبيعة واعتدال المناخ وأهمية أن يأتي الأصدقاء لزيارة (برودستيرز) والاستجمام فيها. في ذلك الوقت كان السفر بالقطار ظاهرة جديدة ومحدودة الاستعمال وكانت القوارب البخارية هي الوسيلة المعتادة للنقل، والمفضلة لدى ديكنز أيضا. كتب في 29 أيلول من عام 1842 الى صديقه ومؤرخ سيرته جون فورستر مبديا تذمره لعدم أمكانية السفر بالقارب:
"... إن البحر هائج، وكان القارب ينتظر في (مارغيت) طوال الليل بكامل ركابه... لذا فسوف نضطر الى أستخدام العربة والعودة برا، طبعا لن يكون بمقدورنا أن نفتح الشبابيك أو نمد أرجلنا...).
وكتب في تموز من عام 1843 الى صديقه المستر آلان قائلا: (لاتنسى موعدنا في برودستيرز...بحر رائق، نسمات عليلة، رمال ناعمة، ونزهات جميلة، بالأضافة الى المنار و قوارب الصيد...أنها واحدة من أنقى الأماكن هواء في العالم...والمكان المناسب لك!).
* * *
نتأمل في معالم وأركان المدينة التي أحبها ديكنز ونشعر بأنها مازالت تحتفظ بالجمال الطبيعي الذي وصفه برغم مرور قرابة مائة وأربعين عاما على رحيله!
توفي ديكنز في عام 1875 إثر مرض مفاجئ، وقيل أن الجهود التي كان يبذلها في التفكير والكتابة ساهمت في رحيله المبكر. ويُرجّح أنه أصيب بجلطة دماغية أدت به الى الشلل. وقد عم الحزن البلاد لوفاته بعد أن غدا شخصية وطنية تعبرعن مشاكل المجتمع وتساهم في تقويم وأصلاح مؤسساته. الأمر الذي جعله في مصاف العظماء، ودفن في كنيسة (ويستمنستر) مع القادة والشخصيات التاريخية. ورحل ديكنز تاركا حكايات شهرزادية لاتنضب عن مرحلة مهمة من تاريخ أنجلترا والعالم، بما تضمنته من تحولات وأنجازات كبيرة.
ديكنز والخرافة!
كان الناس في العصر الفيكتوري يؤمنون بالكثير من الخرافات، ومنها أن الزواج وغيره من التعاقدات الاجتماعية التي تتم في يوم الجمعة يكون مصيرها الفشل..! إلا ان ديكنز أثبت بطلان هذه الأفكار وصرح بان كل تعاملاته التي تمت في يوم الجمعة كانت ناجحة.

هذا المقال سبق ان نشر
في صحيفة المدى عام 2006