تشي غيفارا.. المفكر الإقتصادي

تشي غيفارا.. المفكر الإقتصادي

ترجمة / عادل العامل
إلى جنب ثلاثية أنريك دوسيل التذكارية عن تحف كارل ماركس الاقتصادية الثلاث، لا بد أن كتاب هيلين يافي Helen Yaffe (تشي غيفارا: اقتصاد الثورة) يمثل واحدةً من أهم المساهمات في مناقشة الاقتصاد الماركسي في السنوات الأخيرة، و باعتباره عرضاً أصيلاً إلى درجةً عالية لتفكير غيفارا الشخصي و إنجازاته في المسعى الأوسع لخلق اقتصاد ثوري، فإن هذا العمل يملأ فجوةً مهمة في التاريخ الاقتصادي لكوبا ما بعد الثورة،

لكنه يشكل قراءةً أساسية انطلاقاً من كونه يذكرنا بالالتزام الصلب بالتغيير الثوري الذي خلَّد غيفارا في مثل هذه التعابير المثالية، وسط النقاش المجدَّد حول الشكل الذي اتّخذته الرأسمالية العالمية و إحياء ملكية الدولة و قيامها بإعادة التوزيع عبر أميركا اللاتينية، كما جاء في عرض غافين أوتول للكتاب.
وتقوم المؤلفة بخطوة رئيسة تسمح لدراسة غيفارا ــ مع كل المناصرة التي استلزمها هذا على مدى سنوات كثيرة ــ بالانتقال من المناقشات التبسيطية بشأن مثاليته أو"سوء الإدارة"الاسطورية للاقتصاد الكوبي تحت إشرافه. وقد قاربت العمل الذي تولاّه الثوري الأرجنتيني كرئيس للبنك الوطني الكوبي، ورئيس قسم التصنيع ووزير الصناعات في الفترة 1959 ــ 1965 بطريقة علمية صارمة ستجعل الرجل العظيم فخوراً بذلك. وهي طوال الوقت تُبقي عينيها على قارئها وتجعل هذا النص سهل المنال قدر الإمكان بالنسبة لغير الاقتصاديين وسطنا (فتضمّن نصّها، على سبيل المثال، نادرة الرئيس الكوبي في حينه أوزفالدو دورتيكوس بشأن طلب كاسترو في اجتماع متأخر لمجلس الوزراء لـ"اقتصادي economist جيد، يتولى مسؤولية البنك الوطني واستجابة تشي غيفارا النعسان آنذاك حيث رفع يده وهو يظن أن كاسترو قال"شيوعي communist جيد")! [ نتيجةً للتقارب بين اللفظتين ــ م ].
وقد كانت المهمة التي تواجه غيفارا ورفاقه بعد ثورة 1959 تقطع الأنفاس: كيف يزيدون الانتاج وإنتاجية العمل وسط ظروف التخلف والالتزام الجديد بجعل الانتقال إلى الاشتراكية بطريقة لن تعتمد على أدوات رأسمالية يمكن أن تُضعف تقدم الوعي الجديد. ومن عام 1959، تصدّر غيفارا قيادة التغييرات التي حوّلت كوبا من تخلفها كنصف مستعمرة إلى الاستقلال والاندماج بالكتلة الاشتراكية. وكان مساعداً على إحداث انتقال ناجح إلى حدٍ كبير من القطاع الصناعي الرأسمالي إلى آخر اشتراكي ــ وضمن فترة 1959 ــ 1961، كانت كوبا قد حوِّلت من الاقتصاد الحر الذي تهيمن عليه استثمارات الولايات النتخدة وتجارتها إلى بلد تسيطر فيه الدولة على نحو 84 بالمئة من الصناعة والتجارة من خلال سياسات اشتراكية بشكلٍ تام تقريباً.
ولقد فعل ذلك في ظروف كانت غير مستقرة وغير اعتيادية للغاية: تأميم هائل، علاقات تجارة متغيرة، إدخال تخطيط الدولة، هجرة مهنيين ذوي مؤهلات عالية، تشديد الحصار الأميركي، غزو، تخريب وتهديد بحرب نووية. وحُرمت الحكومة من أي مدخل إلى التسليف الغربي فاعتمدت على التجارة والمعونة من بلدان أقل تطوراً من الاقتصادات الرأسمالية المتقدمة. وكانت الولايات المتحدة قد حصرت كوبا في تركيبة من التبعية المتخلفة الأحادية المحصول (السكر) تهيمن عليها الاحتكارات الأميركية.
وبوجهٍ خاص، كان تأثير غيفارا حاسماً في الفترة 1961 ــ 1965 في صياغة نظام التمويل الحسابي Budgetary للإدارة الاقتصادية المطوَّر للمساعدة على حل المشاكل الصعبة التي كانت تواجهها وزارة الصناعات الكوبية.
إن نظام التمويل الحسابي هذا، المستند على التقنيات الإدارية للشركات الأميركية، موضوعة أساسية تتواصل في كتاب يافي هذا، بالرغم من أن القارئ ينبغي أن يستكشف الكثير من الموضوعات الأخرى التي تتفحصها هي لتحرز فهماً أغنى لتشي غيفارا المفكر الاقتصادي، والثوري، والإنسان إضافة إلى فهم المشاكل الاقتصادية الأوسع التي واجهتها كوبا الثورية والحلول التي طبقتها. وقد بدأ هذا النظام كمجموعة إجراءات لمعالجة المشاكل التي أحدثها في كوبا التأميم المتّسع للصناعة، وبوجهٍ خاص مركزة الإدارة والتخصيصات المالية للوحدات المؤممة.وكان، فوق كل شيء، استجابةً للافتقار إلى الاختصاصيين ومشاكل تمويل الانتاج. وكانت المركزة تمثّل استجابةً للافتقار إلى الدخل أو العائد والحاجة لمنع توقفات الانتاج حين تفتقر المعامل إلى الدخل لدفع الرواتب، وشراء التجهيزات ودفع تكاليف الصيانة والتصليحات.
وعلى كل حال، فقد أخذ نظام الميزانية المالية هذا يتخذ أهميةً إيديولوجية، استناداً على نظام محاسبة مالية دقيق، إذ أمّن قسم التصنيع سيطرة أعظم على الانتاج وقام غيفارا بتطوير تحليله النظري الخاص به. وكرّس رفاقه اهتماماً كبيراً بتحديد فعاليات أو كفاءات الشركات الاحتكارية الأميركية التي كانت قد عملت في كوبا ــ مثل الشركة الكهربائية الكوبية ــ وفهم أنظمة عملها الحسابي، بينما يُضاف للسيطرة الإدارية العنصر الأساسي لمشاركة العمال. وهذه التقنيات الحسابية، برأيهم، هي التي ستُمكّن الإدارة الاقتصادية الاشتراكية الكوبية من أن تُصبح أكثر كفاءةً، وإنتاجيةً وتقدماً من تلك التي تبنّاها الاتحاد السوفييتي.
وفي الوقت الذي كان فيه نظام التمويل الحسابي في أصوله استجابةً عملية جريئة لواقع كوبا الستينيات، فإن التفكير الذي وراءه قد تطور إلى ما بعد هذا، وتُجمله المؤلفة في ما بعد كمجموعة مبادئ أوسع كثيراً تحكم الإدارة الاشتراكية للصناعة التي لها رنينها الآن. وتشير المؤلفة، على سبيل المثال، إلى المناقشة الدائرة بخصوص"اشتراكية للقرن 21"التي استهلّها الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز. وقد قدّم أعضاء متبقّون من حلقة غيفارا الداخلية المشورة إلى الحكومة الفنزويلية بشأن نظام التمويل الحسابي هذا، ووجدوا لهم مستمعين متنبّهين حديثاً في أميركا اللاتينية اليوم.
وتختم يافي بالقول"إن عبارة ' اشتراكية للقرن الحادي والعشرين ' قد بدأت تدخل الأدب الأكاديمي والمحاضرة الشعبية، ومع ذلك فإن قليلين حاولوا أن يوضحوا ما يعني هذا؛ وأية أشكال سيتخذها المجتمع الجديد وكيف ستختلف عن تلك التي جرى تبنّيها سابقاً تحت راية الاشتراكية. وعلى كل حال، فإن اللاعبين الأساسيين في كوبا، وفنزويلا، وبوليفيا، قد وضعوا أمامهم تراث غيفارا في هذه العملية... والنجاح النسبي أو الفشل في تنفيذ مبادئ مقاربة غيفارا لاقتصاد الثورة في كوبا، وفنزويلا، وبوليفيا وأي مكانٍ آخر سيكون اختباراً فحصياً لإمكانية بناء اشتراكية للقرن الحادي والعشرين".
عن/Latin American Review