في مقاهي بغداد (2) ..الشابندر.. دور وتاريخ

في مقاهي بغداد (2) ..الشابندر.. دور وتاريخ

تحدثنا قبل مدة عن تاريخ مقهى البرازيلية العتيد، محطة استراحة المثقفين ومقال اليوم عن تاريخ مقهى بغدادي آخر، غير انه كان شعبيا الى جانب اكتسابه الصفة الثقافية في العقود اللاحقة، وليصبح اليوم ملتقى الادباء والمثقفين والفنانين والشعراء واهل الصحافة والاعلام.

فضلا عن عشاق الكتاب ومتيمي المعرفة وضمأى الادب والعلوم بفضل مديره والقائم على شؤونه الشخصية التراثية والبغدادية الحاج محمد كاظم الخشالي، والذي جعل منه حقا قبلة لأهل الكلمة والازميل والريشة في مختلف مجالاتهم واهتماماتهم ومطابا لرواء التراث والانساب وحتى اهل الرياضة، وقهوة العشاق التاريخ وبغداد، ومثابة للمبدعين والحالمين باستعادة امجاد المدينة الفاضلة والفاتنة والقهاوي هو همها في غابر الايام والسنين الخوالي.
عرفت المقهى منذ ستينيات القرن الماضي جليسا حين كنت افد الى شارع المتنبي للبحث عن ضالتي من الكتب، وتلبية حاجتي وقراءاتي وشغفي وزادي الثقافي، حينما كانت منطقة السراي وجديد حسن باشا تنبض بالحياة والحركة، وكانت ازقتهما واحات للنشاط والحيوية ودروب للشوق والمحبة، حيث اتيح لي التواجد فيها لأكثر من يوم في الاسبوع لتفرغي من جهة.
ولمحبتي للشارع والمقهى من جهة اخرى. علاوة على حجم العلاقات التي اتسعت من خلالهما، وتحتم علينا التواجد مرارا لأجل ادامتها وتواصلها ومن خلال ذلك التواج توثقت علاقتي بالحاج محمد الخشالي، كنت بين الحين والاخر اتطارح مع اشياء عن تاريخ المقهى، والتحولات التي طرأت عليه، والتبدلات التي شهدها على مدى قرابة التسعين عاما منذ تأسيسه سنة (1917)، وعرفت منه ان المقهى اظهر الى الوجود منذ ذلك التاريخ اسسه موسى الشابندر احد مرصد السياسة في العراق، وتولى منصب وزير الخارجية في احدى الوزارات العراقية. وكانت البناية قبل ذلك مطبعة واعلن في الصحف عن تأجيرها، وتعاقب عليها مستأجرون عدة، كان آخرهم امين جدوع الذي استمر فيها من سنة (1945) حتى عام 01962)، واصبحت بادارتي منذ عام (1963) والى الان.
سهرات ليلية
وذكر لي من خلال معاصرته للمقهى منذ ان كان يافعا لوجود بيتهم في منطقة جديد حسن باشا، بان المقهى مر بمراحل عديدة، وكل مرحلة تختلف عن الاخرى، فقد كان مقهى شعبيا يجلس على تخوته التراثية ويرتاده اهالي مدينة بغداد والوافدين اليها من المحافظات لمتابعة معاملات لهم في الوزارات التي تقع في منطقة السراي قرب المقهى وبعض الدوائر الاخرى المحيطة بالمنطقة وتقع في الباب المعظم والميدان، حيث كان مجالس الوزراء يشغل جزءاً من بناية القشلة، وكذلك وزارات الداخلية والعدلية والطرق والمواصلات والمعارض والمالية ووزارتي الخارجية والدفاع في الباب المعظم، ومجلس النواب زيادة على مجموعة المستشفيات ومن اشهرها المجيدية ، وكذلك سكان مدينة بغداد من مراجعي تلك الدوائر والوزارات، ومن مرتادي سوق المتبني والسراجين والسراي والهرج وساحة الرصافي الى جانب وجود كلية الحقوق والاعدادية العسكرية قرب المكان.
ومن الفعاليات التي اشتهر بها، السهرات الليلية التي كان يعلن مهنة (1926)، حيث تصدح حناجر قراء المقام العراقي وفي مقدمتهم رشيد القندرجي واسماعيل عبادة، وكان ريع تلك الحفلات والليالي والسهرات الى مدرسة التفيض الاهلية التي اشرف عليها علي البرزركان. وتعكس تلك المواقف غيرة البغداديين وارتباطهم الصميمي بالمدينة وبهموم البلاد، ولكن تلك الفعاليات التي يصاحبها (خيال الظل، والقرقوز) توقفت تلك الليالي والسهرات بعد ظهور ووصول الراديو سنة (1948).
ومن الاحداث التي ارتبطت بها وكان لها دور فيها احتماء الطلبة في تظاهرة جماهير بغداد ضد معاهدة "بورت سموث" والتي استمرت اياماً عدة حتى اقيل رئيس الوزراء صالح جبر. وقد كان الحاج الخشالي شاهداً على حماية المقهى للطلبة من رجال الشرطة والامن الذين تعقبوا الطلبة حتى دخولهم المقهى ، الذي كان خير ملاذ آمن لهم ولبقية المتظاهرين حتى انتهاء المظاهرة.
انتخابات المختارين
وقبلها جرى في المقهى اول اجتماع لنقابة الميكانيك، ولعمال صناعة الجلود، وظلت انشطتهما مستمرة في المقهى لموقعها الجغرافي في المركز الحكومي. بعد ان اعلن المرحوم الملك غازي قانون الاحزاب والنقابات سنة 1933 وكانت تجري فيها انتخابات المختارين للمناطق المحيطة بالمقهى، وكذلك ترشيحات النواب ان مقهى الشابندر، كان يرتادها الكثير من شرائح المجتمع البغدادي، من مثقفين ووجوه اجتماعية متنوعة، ورجال قانون، ورؤساء عشائر وطلبة وكسبة، وادباء وفنانون وحتى سياسيون، ومن بينهم سعيد قزاز وزير الداخلية وفاضل الجمالي احد رؤساء الوزارات ، والذي كلن يعلن انه يفضل "المقهى البرازيلية".
اما الباشا نوري السعيد ، فكان حين يمر بها متجها الى السراي اولى المقر الحكومي، يلقي عليها دعاباته وتعليقاته المرحة، لاسيما حينما يكون رائق المزاج، مرتاح النفس، ولكنها بعد ان انقرضت بعض المقاهي الشهيرة في المنطقة وشارع الرشيد من التي كان يرتادها المثقفون واساتذة الجامعات ووجوه المجتمع البغدادي، مثل مقاهي (البرلمان، والحاج خليل القيسي، وكريم الشبو، ولطيف، والبلدية، وعارف أغا، واحمد فتاح، وجميلة). وانحسار الدور الثقافي للمقاهي الاخرى مثل (حسن عجمي، والزهاوي). فانها وجدت نفسها الوحيدة، وقد عوضت ذلك بتأثيرها التراث البغدادي الاصيل سمة لها، والهوية الثقافية عنواناً لها، والغت لعبتي الدمينو والطاولي وغيرها من الالعاب في المقهى، وجعلت منه فضاءا ً ثقافيا، ومناخا ادبيا خالصا، وصدرا وحبا لرواد شارع المتنبي من ادباء وفنانين وشعراء واعلاميين وصحفيين واساتذة جامعات ودرجت على ان تفتح ابوابها كل يوم جمعة لتكون في خدمة الشرائح المثقفة.
وعبر تواجدي فيها كنت الملم تفردات خاصة بالمقهى، ومنها طريقة جلوس الرواد وبعض التجمعات التي تتكون فيها، ويدل عليها منظرهم والنقاشات بينهم فهل هي زوايا معنوية؟ ام انها املتها طبيعة الحضور ونوعياتهم والقاسم المشترك بينهم، ودفعني الفضل لأن اسأله، اي الحاج الخشالي.
مجاميع خاصة
فاخبرني ان هذه التجمعات والزوايا، قد تكونت بصورة عفوية بادئ الامر، لكنها ترسخت بمرور الأيام، حيث كان المختارين يجلسون في مدخل المقهى لتمشية معاملات الناس، التي تتعلق بهم، وبالدوائر المحيطة بالمكان.
وتعود الى حقبة الستينيات. وهناك زاوية اختصت بالمحامين، وزاوية لشيوخ العشائر من ذلك الزمن، ومن بينهم الشيخ علي الفياض، والشيخ خوام، شيخ آل فتلة، والشيخ حبيب الخيزران، والشيخ جياد الشعلان، والشيخ شندل المدلول، والشيخ جاسب المطشر شيخ البودراج، والشيخ صالح خلف، شيخ الكروية، وشيخ آل الجاف شيخ عشيرة الجاف، وحجي عجة الدلي، والشيخ حسين المطر والشيخ تركي الطلال ، شيخ الكرطان، وغيرهم.. ومكانها في وسط المقهى.. اما زاوية الادباء والكتاب، فهي في الحقيقة اكثر من زاوية ومكان، حيث يتوزعون المقهى على شكل مجاميع ذات الفة خاصة، ولغة مشتركة..
ومن بينهم عبد القادر البراك وعبد الغني الملاح، وملا عبود الكرخي وصبيح الغافقي وروفائيل بطي والشيخ جلال الحنفي وابراهيم حلمي عمر واحمد حامد الصراف وكوركيس عواد وكاظم الدجيلي وابراهيم الدروبي ومصطفى علي وعادل عوني ومحمود العبطة وعلي الخطيب ومهدي المقلد ومحمود الملاح ومظهر العزاوي وفيصل حبيب الخيزران وتوفيق الفكيكي وفائق القشطيني وقاسم العلوي والمؤرخ عباس العزاوي والسياسي حسين جميل، ومحمد رضا الشبيبي، ومرات قليلة شاعر العرب الاكبر محمد مهدي الجواهري وعبد الرزاق شبيب وعزيز نجم.
وفي السبعينيات، تشكلت او تحددت زاوية للمقاولين لعلاقتهم مع محافظة بغداد التي كانت تجاور المقهى مع امانة العاصمة، حيث يحصلون على مقاولات متنوعة وفي التسعينيات، تكونت زاوية بالنسابة، ومن ابرزهم جمال الراوي، وابو شمس السامرائي والدكتور عماد عبد السلام رؤوف والشيخ صبحي السامرائي.
صالون ادبي
لقد اصبح المقهى علامة مميزة في شارع المتنبي، ومن معالم بغداد التراثية والثقافية وهو لم يتقوقع في اطار الحرفية المعروفة للمقهى، وفي حدودها الضيقة.
بل تعدى ذلك الى افاق اوسع، وادوار اعمق، وذلك لادارة مديره الناجحة، اذ جعل من المقهى في منهاج السياح، وزائري البلاد من المثقفين والادباء واصبح مجمعا ثقافيا وادبيا، وصالونا جميلا من صالونات الادب والثقافة واشار له الادباء والكتاب في رواياتهم وقصصهم ونصوصهم واعمال اخرى.. وقد قام على سمعته ومكانته مقهى الشعراء في السليمانية، وعد توأماً له. وشبهته استاة الادب الاسباني، ورشية جمعية قراء بغداد، الفرنسية سيلفيان ياسين حسين ، التي جاءت الى بغداد للمساعدة في اعادة اعمار نظام التربية والتاهيل.. شبهته بمقهى "الفلور" في باريس.. وقد تناولت الصحافة والاعلام المرئي حرصه على تجديد نفسه، وتوثيق علاقته باهل القلم، واشارت الى معاناته ومحنه التي مر بها، وبعض المرافق الحرجة في الحقبة الديكتاتورية المقيتة.
دور نبيل
واسرني الحاج الخشالي بانه في احد الايام استدعي شاهداً على شاب وشى به احد وكلاء الامن بشارع المتنبي، جلس بعض الوقت في المقهى، بانه قد مدح ايران ايام الحرب العراقية الايرانية، فما كان منه سوى الدفاع عن الشاب وتبرئته من التهمة. بقوله انه: يقصد ايران في زمن الشاه، وليس الان وانقذ حياة شاب آخر، وشى به احد كارهيه في الشارع، بادعاء انه "داس" بقدمه صحيفة فيها صورة الطاغية، باخباره الجهة الامنية تلك، بان الهواء قد دفع الجريدة الى اقدام الشاب دون ان يدري بها، وهي لم تبقى تحت قدمه سوى ثوان معدودة ، حيث دفعها الهواء الى ناحية اخرى في الشارع، وكان الادعاء بانه كان واقفا بباب المقهى والجميع شاهده، واقربهم الحاج محمد الخشالي.
الشهداء
لقد فتح هذا الرجل المقهى لجميع قاصديه دون تمييز او تفريق بينهم، ودلالة ذلك تنوع جلاسه ورواده، وما كان يدور من احاديث ونقاشات في مقصورته في مقدمة المقهى وتباين المنخرطين في تلك الحلقة على مدى افتتاح المقهى.
وحين قرر عدم فتح المقهى ايام الجمع خشية على الجمهور الذي كان يملأه من بعض الشر المتطاير في بغداد تلك الايام السود.
ولكنه لم ينجو فعلا من حق الحاقدين ودوافع الارهابيين المجرمين، حينما انفجرت سيارة مفخخة بجواره في (5/3/2007) لتحدث دماراً كبيرا في المقهى والشارع والابنية، ذهب ضحيته عددا من اصحاب المحال والمكتبات والبسطيات ورواد الشارع، وكان من بين شهداء ذلك اليوم الدامي خمسة من ابناء الحاج محمد الخشالي هم الشهداء (كاظم محمد كاظم وغانم محمد كاظم ومحمد محمد كاظم وبلال محمد كاظم والحفيد قتيبة محمد محمد كاظم الخشالي) رحمهم الله جميعاً. والتحقت بهم بعد مدة والدتهم حزنا عليهم.
ان المقهى وعلى الرغم من هذه التحديات وحجم الاذى الذي لحق بها، عاد مثل طائر العنقاء الى اداء عمله ودوره مع حجم الفاجعة ومرارة الحدث وعظم المصيبة، لأن الحاج محمد كاظم الخشالي، رأى في مواصلة عمله رسالة ذات اهداف سامية، ومهمة لا ينهض بها سوى الاصلاء من هذا البلد الطيب الذي علم لانسانية الحرف والكتابة والصناعة والزراعة والقيم الحميدة والمفاهيم النبيلة والمثل السمحاء وكذلك وجد في اعادة فتحها شيء من السلوى.
ونحن نرى انها شاءت ام ابت اصبحت معلماً مهما من معالم مدينة بغداد التراثية والثقافية، وان أمست آخر المقهى الثقافي في بغداد. وشاهداً على ايام عجاف وحقبة مريرة، وعلى وفق ذلك نسعد بتواصلها وحيوتها وتجدد دورها واندفاع من يرها لأن تظل حضنا للمثقفين والمبدعين وملاذاً جميلا والمتطلعين لغد أفضل.