كيف دخل البريطانيون بغداد في آذار 1917

كيف دخل البريطانيون بغداد في آذار 1917

محمد ابراهيم محمد
في يوم 11 آذار 1917 ومنذ خمسة وتسعين عاماً مضت دخلت قوات الاستعمار البريطاني مدينة بغداد بعد انسحاب الجيش العثماني منها اثناء الحرب العالمية الاولى من القرن العشرين الماضي حيث كانت ارض العراق مسرحاً حربيا للاطماع الاجنبية انذاك فقد عين الجنرال (جون داكن)

من قبل بريطانيا قائداً عاماً للحملة في العراق وقد قسم احتلال العراق على ثلاث مراحل فالمرحلة الاولى تم تعيين الجنرال (نكسون) قائداً للحملة وفي هذه المرحلة تم احتلال الفاو والبصرة والناصرية والمرحلة الثانية عين الجنرال (برسي ليك) قائداً للحملة حيث ترعرعت فكرة الزحف على بغداد وباءت هذه المرحلة بالفشل الذريع باستلام القوات البريطانية في الكوت مع قائدها الجنرال (طاوزند) فالمرحلة الثالثة والاخيرة من مراحل احتلال العراق قد بدأت باحتلال مدينة بغداد حيث تم تعيين الجنرال (مود) قائداً للحملة وفي هذه المرحلة بدأ الجنرال المذكور يهاجم مواقع العثمانيين قرب الامام محمد (بجوار الكوت) في كانون الثاني سنة 1917 اضطر العثمانيون الى الانسحاب الى العزيزية فتعقبتهم القوات البريطانية وفي 28 / شباط من نفس السنة كانوا في (المدائن) وفي نهاية هذه المرحلة تم احتلال مدينة بغداد في (11/آذار/ 1917) ودخول القوات البريطانية مدينة بغداد وانسحاب العثمانيين من البلد (10 – 11 / آذار / 1917) حيث تعتبر ليلة انسحاب العثمانيين ليلة مشؤومة سوداء لدى اهالي بغداد.
مرحلة الوقوف امام بغداد
بعد الاحتلال البريطاني لجنوب العراق بدأت الاستعدادات العسكرية البريطانية لاحتلال مدينة بغداد واستأنفت العمليات الحربية في جبهة العراق بقيادة الجنرال (سير ستانلي مود) وبدأ الزحف البريطاني باتجاه بغداد ففي هذه المرحلة كان العثمانيون الاتراك يتراجعون بسرعة امام القوات البريطانية وكان من الصعب ان يصمدوا للدفاع عن بغداد مع استعداداتهم وضعف جنودهم وان القائد (خليل باشا) الذي كان واثقاً من نفسه ومن استطاعته وقف البريطانيين في الكوت اصبح يفكر في ترك بغداد ولكن القائد (انور باشا) رفض الموافقة على الانسحاب من بغداد وامره بالصمود والدفاع عنها مهما كلف الأمر والمعروف ان الضباط والجنود العثمانيين مشهورين بعنادهم وبثباتهم في 1917 ان يعبروا نهر ديالى ولكن الضفة الثانية كانت عامرة بالبيوت والبساتين وكان خير عون للاتراك على التحصين فيها ولما جرب البريطانيون عبور النهر اصلاهم الاتراك ناراً حامية وكبدوهم خسائر فادحة جداً ولكن البريطانيون تمكنوا اخيراً من عبور نهر ديالى بقوات كبيرة بعد ان وصلتهم التعزيزات فانسحب الاتراك العثمانيون امامهم بشكل منظم وتصف المصادر الاجنبية الهجوم البريطاني الذي انتهى باحتلال بغداد (بان الجنرال مود) هاجم مواقع الترك بالغرب من الامام محمد بجوار الكوت في (9 /كانون الثاني / 1917) حتى استولى عليها في شباط وفي 23 قد اجتازت القوات البريطانية نهر الفرات وعسكرت على ضفة دجلة اليمنى وصبت نارها على الضفة اليسرى ثم نصبت جسراً على دجلة في (دورة شمران) فعبرته في 24 شباط وعندئد انسحب الاتراك العثمانيون الى (العزيزية) في الخامس والعشرين من الشهر المذكور واستولى البريطانيون على مراكبهم النهرية (بصرة / وسلمان باك وطوغان) وواصلوا الانسحاب الى سلمان باك في 28 شباط بعد ان تكبدوا خسائر كبيرة وادرك خليل باشا وبعد فوات الأوان الخطأ العظيم الذي ارتكبه في تقاعسه عن مطاردة البريطانيين وبقائه في مركزه وثقته بقوته وشعر بالندم الشديد على ما فرط منه من الاهمال.
وتقول المصادر البريطانية ان البريطانيين اخذوا يتقدمون في الضفة اليمنى دون مقاومة في شهر آذار سنة 1917 وان حدثت بعض المناوشات فانها لم تكن من الخطورة بحيث يذكرها التاريخ واكثرها وقعت قرب (تل اسود) على مقربة من (ام الطبول) بينما كانت خيالة البريطانيين تهاجم الجناح الايمن العثماني وفي اليوم العاشر من شهر اذار 1917 تطورت الحالة تطورا جديداً وكانت الفرقة 28 البريطانية قد عبرت ديالى دون مقاومة تذكر واخذت عندئذ القوات البريطانية تهاجم مواقع الاتراك العثمانيين الاخيرة في (تل محمد) وفي الوقت نفسه اندفعت قبالة البريطانيين واصبحت على مسافة خمسة اميال من بغداد فقط واخذت تهدد سكة حديد بغداد – سامراء ومن المؤكد ان هذه الامور جميعها قد اجبرت خليل باشا على التفكير في مغادرة بغداد وعدم المقاومة فيها وفي اطرافها.

مرحلة اخلاء بغداد ودخول القوات البريطانية فيها:
في مساء (10 – 11/ آذار سنة 1917) اضطر الاتراك العثمانيون الى اخلاء بغداد دون مقاومة وترك آخر شرطي واخر جندي تركي بغداد حوالي الساعة الثانية من صباح يوم الاحد (11/ آذار/ 1917) حيث غادر القائد العثماني خليل باشا بغداد من محطة قطار الكاظمية قاصداً سامراء وهو يندب خطة الاقليم بعد ان عقد مجلسا حربياً مع القادة الميدانيين في مخفر شرطة جسر الخر الذي يقع حاليا في ساحة النسور ببغداد وظلت المناقشة حادة جارية بين ضباط الاركان وخليل باشا حتى منتصف الليل حتى اقتنع خليل باشا بوجهة نظر خيالة مسافرة الى اسطنبول واستلم الجواب بالموافقة واخذ الجيش التركي بالانسحاب وكان الى مدينة سامراء بطريق القطار الذي كان الالمان قد امنوا القسم الواقع بين بغداد وسامراء كما استفاد الترك من طريق (دجلة) النهري استفادة تامة ونسف الاتراك ليلة مغادرتهم بغداد العتاد المخزون في (باب الطلسم) وهي احدى ابواب سور بغداد القديم وتعتبر ساعة الانفجار بالنسبة الى اهالي بغداد ساعة رهيبة حيث اهتزت بغداد من اقصاها الى ادناه كما قام الاتراك بتخريب محطة اللاسلكي الالماني في الوشاش والذي يقع حاليا في منتزه الزوراء واستصحبوا معهم السجلات الرسمية بما ذلك السجلات العقارية وقضى اهل بغداد تلك الليلة بين انفلات القنابل وأزير الرصاص وهبوب العواصف الترابية المزعجة حيث في تلك الليلة اجتاحت بغداد عاصفة هوجاء لم تشهد قبلها مثيلا منذ ان بناها المنصور حتى انها اقتلعت منارتي جامع الارصفية من حوضها بعد اخلاء بغداد من قبل الاتراك يوم العاشر من اذار سنة 1917 واعياهم الدفاع عنها وعلم الجيش البريطاني بعد منتصف الليل بانسحاب الجيش التركي من بغداد حوالي الساعة السادسة صباحا من يوم الاحد المصادف (11/ آذار/ 1917) تقدمت دورية من فوج الحرس الاسود البريطاني وبامرة الملازم (هوستن) واحتلت محطة غربي بغداد والتي كانت قبل ازالتها قائمة بجوار جامع (محمود بنية) الحالي في نفس الوقت كانت السرية الاولى من فوج بوش الخامس تعتبر اول قطعة عسكرية بريطانية دخلت بغداد بقيادة النقيب (هاروش) بعد ان عبرت نهر دجلة حيث رفعت العلم البريطاني في اعلى السراي أو (القشلة) القائمة حتى الان في جانب الرصافة ثم نقل الى برج الساعة المطل على دجلة داخل السراي حيث ذهب اهالي بغداد الى القشلة ليشهدوا مراسيم انزال العلم التركي ورفع العلم البريطاني حيث كان ذلك المشهد مؤثراً فاخذ البغداديون والبغداديات يجهشون بالبكاء والنحيب المكبوت لانهم شاهدوا انزال علم دولة مسلمة مدحورة ورفع علم دولة مسيحية منصورة ولما دخل البريطانيون بغداد يوم الاحد المصادف 11/ آذار / 1917 ساد الخوف على الجميع وضاعت الوسيلة التي يوزن بها الشعور العام ازاء هذا الدخول فكثر المراؤون وانتشر المنافقون وانقسم الناس بحكم الوضع والزمن الى قسمين وكان احداهما يميل الى الترك ويروج الشائعات بضرب عودتهم وكان القسم الاخر يحلم بقيادة دولة عربية تجمع شمل العرب وتوحد صفوفهم وتجعلهم امنا بعد خوفهم وعزاً بعد ذلتهم وما ان حلت الساعة التاسعة صباحا من اليوم المذكور حتى دخلت الفرقة (13) الانكليزية وعسكرت شمالي بغداد وبمسافة ميلين قرب (صليخ) على ضفة دجلة اليسرى وعسكرت الفرقة (7) بجوار الكاظمية وفي ذات اليوم دخل ظهرا الجنرال (مود) القائد العام للجيش البريطاني في بغداد على ظهر باخرة انكليزية وقد سار بها في نهر دجلة ومعه هيئة رافقته الى المقيمية البريطانية سابقاً في السنك واتخذها مقراً لقيادته واستقبل جمع غفير من اليهود والنصارى وبعض المسلمين من اهل بغداد الجيش البريطاني فاحتل الانكليز دار الحكومة والمباني الاميرية وبدأ موظفو الاستخبارات البريطانية يتحرون عن دور الضباط المستخدمين في الجيش التركي فيصادرون اموالهم باسم الغنائم ويلقون القبض على من يعنيهم في بغداد وكان الجنرال (مود) من الضباط البارزين وقد تخرج من كلية الاركان في كابيرلي وشغل مناصب الركن المهمة في مصر وفي حرب البوير في جنوب افريقيا وفي بدء الحرب في سنة 1914 اشغل منصب رئاسة ركن فيلق ثم قيادة الفرقة (13) في العراق وعلى اثر هذا الانتصار تم ترقية الجنرال (مود) الى رتبة فريق اول وقد تلقى برقيات التأييد من الحلفاء ومن الملك جورج الخامس ومن شريف مكة وغيرهم من الحلفاء ونصب فيها تمثال له في جانب الكرخ وقد بقي مدة من الزمن حتى قامت جماهير بغداد بتحطيمه صباح ثورة 14 / تموز/ 1958 وبعد اكمال احتلال بغداد اذاع مقر قيادة الجنرال (مود) بيان رسمي سياسي الى اهل بغداد وكان يبلغ عن طريق كل مختار وقد اذيع يوم 19/ آذار/ سنة 1917 وجاء فيه (ان جيوشنا لم تدخل مدنكم واراضيكم بصفة قاهرين او اعداد بل بصفة محررين) ولقد عانت بغداد طيلة فترة الاربع سنوات (1914 – 1918) ما عانت من اهوال ونكبات لم تشهد مثلها منذ أن اجتاحها هولاكو سنة 1258 م حيث يذكرها التاريخ من تدمير وهلاك.