دور المرجعية في العراق الجديد

دور المرجعية في العراق الجديد

حسن منيمنة
كان خوف الكثيرين مع سقوط النظام الشمولي في عام ٢٠٠٣، أن ينتقل العراق من سلطوية سافرة إلى أخرى مستترة. مردّ هذا الخوف لم يكن فقط افتقاد العراق المؤسسات والصيغ الخطابية التي من شأنها إرساء التعددية كنهج، والتسامح كسلوك، وأدب الاختلاف كقاعدة في المعاملة، بل كان أيضاً أنه بعد سقوط الخطاب الوطني، الذي كان النظام السابق

قد صادره من خلال معادلة استتبعت حقوق المواطن الفرد بحق مفترض للوطن والشعب، ثم اختزلت الشعب بالحزب والحزب بالقائد، جاءت الطروحات الفئوية لملء الفراغ الذي تركه غياب القناعة الجامعة. ولم يأت التعامل مع أزمة الهوية هذه بالجدية والصراحة المطلوبتين، بل جرى طمس المشكلة تحت شعارات جامعة، بعضها صادق إنما هزيل، وبعضها كاذب يخفي الجنوح إلى التقوقع الفئوي.
فالعراق الجديد، وإن لم يشهد جهداً جدياً للمصارحة والمصالحة، كان عليه أن يواجه هجمات متواصلة تهدف إلى تمزيقه وإلى تأصيل انقساماته الفئوية، الطائفية والعرقية. ففيما البعض سعى، انطلاقاً من وعي شيعي، إلى تصحيح ما عدّه مظالم تاريخية تتراوح من العقود إلى القرون وفق الطروح المختلفة، داعياً إلى حاكمية شيعية المضمون وإن لم تكن مذهبية الشكل، انشغل البعض الآخر، على أساس وعي سني حيناً ولا طائفي حيناً آخر، في محاولة اعتراض هذا المسعى. غير أن الترتيب الهادف إلى استيعاب نهضة الشيعية السياسية في العراق لم يتوقف عند حد التفاعل مع الطرح وأصحابه في المعترك السياسي الداخلي، بل جاء مدعوماً، عمداً أو عرضاً، بعاملين خطيرين تمتزج فيهما الأبعاد الداخلية والخارجية.
أول هذين العاملين هو الإسلاموية السنية، التي تستقي أصولها من الدمج بين حركية الإخوان المسلمين وسلفية المؤسسة الدينية في المملكة العربية السعودية. هذه الإسلاموية، التي أنتجت الحركات الجهادية والطروحات التكفيرية أفادت من الفراغ الذي خلّفه سقوط النظام السابق بعد استيلائه على الطائفة السنية في العراق وتجويفه لمؤسساتها. ففي لحظة الحرج والبلبلة التي عاشها بعض العراقيين، إذ استفاقوا ليدركوا أنهم أمسوا محسوبين على طائفة متهمة بالتماهي مع النظام السابق، أضحى للممارسة الجهادية، برغم تعارضها مع القناعات والمصالح الموضوعية الطويلة الأمد لهؤلاء، بعض الفائدة، أقله في تأخيرها استتباب الأمر للشيعية السياسية.
أما العامل الثاني، فهو الإقصاء المتعمد للعراق الجديد من عمقه العربي الطبيعي، وهو إقصاء مارسته كل من المنظومة السياسية العربية والثقافة العربية، سواء كان ذلك تخوفاً منطقياً من دور مستقبلي للعراق في التأثير على التطورات داخل المحيط العربي، أو بناء على صرامة أهوائية مذهبية رافضة بروز الشيعية السياسية ومرتابة من هلال شيعي مفترض.
وثمة مغالطة طالت جميع الأطراف في هذه الإشكاليات والتحليلات والمواقف، وهي الدمج أو افتراض التساوي بين الشيعية السياسية والشيعة في السياسة. فالشيعية السياسية، وهي القائمة على أحقية الشيعة كجماعة بتولّي «الأستاذية» في السياسة العراقية لاعتبارات متفاوتة، كانت محصورة في أقلية، وإن فعّالة، في الوسط السياسي الشيعي العراقي، وذلك بغضّ النظر عن مدى شعبيتها في بعض الأوساط العامة. وانحصارها في الإطار السياسي أفاد من دون شك من انعدام الحاجة إليها كتأطير، سيما وأن الشيعة في العراق أكثرية مطلقة، وأستاذيتهم حاصلة بالتالي تلقائياً. بل أن الكثير من خصوم الشيعية السياسية، وخصوم الشيعة في السياسة، سلّموا حكماً بهذه الأستاذية من خلال مساواتهم العراق بها. فجهود التقويض والإقصاء استهدفت العراق ككيان، انطلاقاً من القناعة بأن هذا الكيان لن يقوم إلا والشيعية السياسية أساساً له، ولن تنجح الشيعية السياسية إلا ببناء العراق الجديد.
والآن، ومن وجهة نظر مبدئية لا بد من التشديد بأن الشيعية السياسية، سواء طرحت مباشرة أو مواربة، هي رؤية سياسية تتطلب الإقرار بها، تماماً كما السنية السياسية، والتي غالباً ما تضع قناع القومية العربية على وجهها، كما كانت المارونية السياسية في لبنان، أو كما هي اليوم العلوية السياسية في سوريا. والإقرار بها لا يعني الموافقة معها. ذلك أن جميع هذه الفئويات السياسية تتشابه في تقديم نفسها على أنها تصحيح لمظلومية تاريخية، وأنها قائمة على مشروعية كمية أو نوعية (العدد السكاني أو الكفاءة العلمية والجدارة الحضارية)، لكنها في النهاية طرح يتضارب مع المشروع الوطني ولا يجلب لموضوعه (أي الطائفة المعنية) إلا الانعزال أو التشرذم أو كليهما.
وحيث تكون الطائفة موضوع الفئوية السياسية أقلية، كما في لبنان أو سوريا، فإن الاعتماد الصريح أو المقنع على الطرح الفئوي قد يكون ضرورياً للمحافظة على المواقع المكتسبة مع احتمال تسديد الثمن. أما في العراق، فبعد تجاوز الفورة العاطفية الناتجة من إسقاط نظام أمعن في التلاعب الفئوي، فإن البديهي أن الشيعية السياسية ليست من مصلحة العراقيين الشيعة، لا كعراقيين ولا كشيعة.
وربما كانت مقولة ولاية الفقيه، التي ترتقي بالفئوية السياسية إلى مستوى العقيدة اللاهوتية هي الشكل الأكثر تطوراً والأكثر خطورة للشيعية السياسية. فالأستاذية في الوطن هي للطائفة، وفي الطائفة للشريحة العلمائية، ولدى هؤلاء للولي الفقيه، في إعادة ترتيب، مع اختلاف التسميات لتركيبة الشعب والحزب والقائد. والخشية، يوم سقط النظام الشمولي في عام ٢٠٠٣، كانت أن العراق، وإن لم يشهد اعتناقاً صريحاً لإطار نظام ولاية الفقيه، قد يندرج ضمناً في هذا الإطار، بناء على قابلياته وتجرباته، سيما وأن الفقيه المرجع في العراق يحظى بالتقدير والإجلال إلى حد التقديس لدى جمهور واسع من العراقيين الشيعة، وصولاً إلى أن مشاركتهم في الاستفتاء الدستوري، هذا الفعل التأسيسي للعراق الجديد، جاء في الكثير من الأحيان نتيجة تكليف شرعي من المرجع.
لقد مضى على هذه المخاوف قرابة العقد من الزمن، فإن أوان تفنيدها. يبدو اليوم من استقراء الأقوال والأفعال أن الفقيه المرجع علي السيستاني، من دون أن يغوص في النظريات والخطابيات، قد أدرك بوضوح التناغم والتوافق بين مصلحة العراقيين الشيعة كعراقيين وكشيعة. وسواء جاء إدراكه مدعوماً بمتابعته التجربة الإيرانية، التي تشهد انفصاماً وتباعداً بين الانتماءين الديني والوطني لدى شرائح اجتماعية مهمة ولا سيما شبابية، وذلك من خلال الدمج الذي تفرضه مقولة ولاية الفقيه ليس على الدين والوطن ولا حتى الدين والدولة، بل الدين والحكم. فعندما ينحدر الحاكم في نظر المواطن، ينحدر معه الدين. أما في العراق، ومع إصرار السيستاني على النأي بالحوزة عن موقع الولاية أو حتى الوصاية، فإنه قد حقق للحوزة صفة مرجعية تتجاوز صفتها الدينية بالنسبة الى الشيعة من العراقيين، فتبلغ درجة المرجعية الأخلاقية بالنسبة الى جميع العراقيين من شيعة وغيرهم.
والسيستاني، على مستوى الخطاب العام، من المقلين جداً. إلا أن مواقفه هي الصادحة. يوم استكمال العراق انتقاله مجتمعاً ودولة إلى الإطار التمثيلي التداولي الخاضع للمساءلة والضامن للحريات، لا بد من استرجاع الدور المفصلي للمرجع السيستاني في التعويض عن غياب الأرضية الوطنية المشتركة من خلال الأمر والنهي. فكما أن المرجع السيستاني كلّف مقلديه بتولي مسؤوليتهم الوطنية الابتدائية في إقرار الدستور، فإنه نهاهم كذلك عن الانجرار إلى الاقتتال الطائفي، الذي أرادته بعض التنظيمات الجهادية وسيلة لتقويض العراق الجديد. بطبيعة الحال، لم يكن في وسع السيستاني أن يلجم كل القتل الانتقامي، أو المتستر بالانتقامية، والذي ارتكبه البعض في حق بني وطنهم، بعد أن بذل أدعياء الجهاد كامل قدراتهم لاستدراجهم إلى هذا القتل من خلال الفظائع الفئوية التي ارتكبوها. لكن استنكاره المتواصل القتل جنّب العراق المزيد من الموت بما لا يحصى.
كان في وسع السيستاني، وهو المناط به توجيه المقلدين في عباداتهم ومعاملاتهم، أن ينكفئ ويترك للجسم السياسي العراقي اكتشاف حدوده، وإن كان ثمن ذلك القتل والفوضى. وكان في وسعه، لو شاء أن ينحى منحى آخرين، أن يمد سقف فقاهته ليشمل السياسة برمتها، سواء جعل ذلك ولاية للفقيه أم لا. لكنه أختار توجهاً آخر، باذلاً جهوده للصالح العام ضمن الإطار الذي ترتضيه عقيدته له، من دون أن يقصّر في بذله، ومن دون أن يتجاوز هذه العقيدة.
قلما اجتمعت في الأوطان ما يتوافر للعراق من ثراء في الطاقات البشرية والطبيعية. إلا أن العراق لا يزال في بداية الطريق لبناء الدولة والمجتمع اللذين يحققان السيادة للمواطن ويضمنان له حقه في الحرية والرفاهية. واليوم، فيما العراق لا يزال يعاني من مخلفات النسق الهدامة التي ترسخت في ظل النظام السابق، ومن مسائل ومشاكل متشعبة سابقة لذاك النظام، وأخرى لاحقة له بفعل الإقصاء من المحيط ومحاولات التقويض، فإنه من الجدير الإقرار بالأدوار الإيجابية عند اتضاحها. وفي زمن تمنح جوائز السلام العالمية لمجرد النوايا، نحن أمام حالة، هي حالة المرجع السيستاني، أسهمت في التأسيس للوطن وفي منع القتل عن الإنسان فيه. لا ينتظر أن يطلب السيد السيستاني الشكر والتقدير، إلا أنه من شأن التاريخ أن يقرّ له بصدارة واضحة في صفحات نهوض هذا الوطن.