الأسرى الأنكليز ومذكراتهم على جدران خان الشيلان في النجف

الأسرى الأنكليز ومذكراتهم على جدران خان الشيلان في النجف

د. حسن عيسى الحكيم
باحث مؤرخ واكاديمي
باحث مؤرخ واكاديمي اولاً: الاسرى
بعد اعلان الثورة العراقية الكبرى عام 1920 م واحتدام المعارك ضد قوى الاحتلال البريطاني، وقع عدد من الاسرى الانكليز بيد الثوار وبخاصة في موقعة الرارنجية، وقد سيقوا الى الكفل، ومنها الى النجف وقد صدر في النجف منشور مؤرخ في 12 ذي القعدة 1229 هـ / 28 تموز 1920 جاء فيه:

لقد جيء قبل امس بالاسرى من الكفل الى النجف والكوفة وكان عددهم 144 منهم 80 بريطانيا، فيهم ضابطان، و66 هنديا بين مسلم ووثني وسيخ، فخرج الناس لاستقبالهم، ووكل العلماء والنواب والاشراف والرؤساء بهم من يتعهدهم ويقضي حوائجهم، قرار المسلمين منهم حرم الامام، ثم سيروا مع رفاقهم الى الكوفة في العربات، تحرسهم ثلة من رجال الخفر الوطني".
ولكن الاستاذ علي البازركان وهو من المعاصرين للثورة يقول: "عندما جئت النجف شاهدت اسرى الرارنجية من الانكليز والهنود وهم لا يتجاوزون الثمانين شخصا"، ولعل الاستاذ البازركان قد وقع في وهم، لان الرقم السابق، قد اضيف اليه اسرى آخرين، حتى وصلوا الى 167 اسيراً تم تسليمهم للانكليز بعد اخفاق الثورة.
لقد نقل هؤلاء الاسرى قبل استقرارهم في خان الشيلان في النجف من الكوفة الى الحيرة، ثم اعيدوا ثانية الى النجف، حيث الشيلان معتقلا لهم، وهذا الخان عبارة عن بناية كبيرة، وعالية نسبيا، يقع في طابقين وسرداب، وتقدر مساحته بحوالي الفي متر مربع، وارتفاعه اثنا عشر مترا، وكان معسكرا للجيش العثماني، وبعد قيام ثورة العشرين في الثلاثين من حزيران عام 1920م. اضحى معتقلا للاسرى الانكليز الذين وقعوا في قبضة الثوار في الرارنجية منطقة السماوة وغيرهما. حتى بلغ عددهم 167 اسيرا لم يمت منهم طيلة الاسر سوى رجل واحد وكان بريطانيا. ولكن السيد كمال الدين يذهب الى ان عددهم كان 402 اسرى وقد وزعهم على النحو الاتي:
253 انكليزيا من مانجستر
45 هنديا مسلما
75 هنديا من السيخ
20 هنديا من البانيان
ولم اجد في المصادر ما يؤيد هذا الرقم الذي ذكره السيد كمال الدين، ولعله كان يقصد جميع الاسرى الانكليز في النجف وغيرها. لان السيد هادي مكوطر قد تسلم بعضهم ، وارسل بعضهم الى النجف ، عندما جنحت الباخرة غرين فلأي في الطين واستسلم جنودها في الثالث من تشرين الاول 1920م . ويقول الاستاذ الحسني: ان رتل مانجستر خسر في موقعة الرستمية في 24 تموز 1920 عشرين قتيلا و318 مفقودا. وقد اسر الثوار من هذا العدو المفقود 160 جنديا، بينهم 79 انكليزيا، وقد سيقوا الى الكوفة لابقائهم فيها. فجاءت كتب عديدة من كبار الانكليز في بغداد الى علماء النجف واشرافها يسترحم فيها مرسلوها معاملة الاسرى كما تقتضيه الشريعة الاسلامية السمحاء، وكما اوصى به الرسول (ص).
ويتفق الشيخ محبوبة مع الحسني حول اعداد الاسرى فيحددهم بمائة وستين اسيرا.
لم يجد قادة الثورة من الصواب بقاء الاسرى في الكوفة بالقرب من الحامية الانكليزية المحصورة، فارسلوهم الى الحيرة، وكانت تلوح على ملامحهم امارات الهلع والقلق والاضطراب ممزوجة بالاستسلام التام، والظاهر انهم كانوا لا يرجون السلامة ماداموا في قبضة الثوار، نظرا للدعاية الاستعمارية المغرضة التي تشربوا بها ضد الثوار بما كانت تنسب اليهم من الوحشية والقسوة، وقد اودع هؤلاء الاسرى في دار السيد هادي زوين بمدينة الحيرة، وقد رأى بعد ذلك قادة الثورة انه من الضروري اختيار مكان امين لايوائهم، وتحت رقابة مشددة فاختاروا مدينة النجف الاشرف. وشخصوا خان الشيلان فيها وقد تولت ادارة الثورة في المدينة تدبير امورهم والاشراف على معيشتهم.
ولقي الاسرى معاملة طيبة وانسانية من قبل الثوار العراقيين فعندما كانوا في مدينة الحيرة، كان الحاج عبدا لمحسن شلاش يتولى الاشراف والانفاق عليهم، وقد قدم هذا من النجف الى الحيرة لهذه الغاية، وكلف السيد عبد الوهاب الصافي للاشراف عليهم بالنيابة عنه، ويقول السيد الصافي "كانوا يظنون ان الثوار سيعذبونهم او يقتلونهم، ولكن المعاملة الحسنة التي عوملوا بها جعلتهم يغيرون رأيهم". وقد رأت الهيئة العلمية في النف الاشرف ان تبالغ في اكرامهم، وتضاعف الاعتناء بهم طبقا لاحكام الشريعة الاسلامية ومبادئ الدين الاسلامي الحنيف، فطلب الامام شيخ الشريعة من الحاج عبد المحسن شلاش ان يذهب الى الحيرة للحفاظ عليهم وتنظيم شؤونهم، اما اسرى الانكليز في النجف فقد ادخلوا خان الشيلان في 17 ذي القعدة 1329 هـ وصاروا تحت اشراف الامام شيخ الشريعة، والفت هيئة خاصة لتامين معيشتهم عرفت باسم "هيئة شؤون الاسرى" وكانت تتألف من الشيخ عبد الكريم الجزائري والحاج عبد المحسن شلاش وهادي جلو، الذي كلف بكتابة الارزاق، والشيخ عبد المحسن الحلي الذي عين سكرتيرا للهيئة ويصف السيد كمال الدين عناية الثوار بالاسرى والاتفاق عليهم على النحو الاتي:
1- الطعام الضروري: ويتألف من الخبز والتمر والخيار.
2- الطعام الكمالي: ويتألف من السكر والشاي والتبغ والكبريت والصابون.
3- السماح لهم بالخروج الى ظاهر النجف ليرتاضوا في الهواء الطلق.
4- توفير ما يلزمهم من الاوراق والظروف ليكتبوا اسبوعيا الى اهليهم.
وقد راجت بعد ذلك اشاعات في اوساط النجف ومجتمعها، ان الحاج عبد المحسن شلاش كان ينفق على الاسرى بناء على اتفاق مسبق جرى بينه وبين الانكليز، وهو سيتقاضى منهم اضعاف ما انفقه على اسراهم، وازاء هذه الاشاعات امتنع الحاج عبد المحسن شلاش عن الانفاق، واصبح الاسرى في حالة يرثى لها من الجوع واخذوا يستجدون المارة حيث يدلون صفائحهم بالحبال من نوافذ خان الشيلان وشرفاته. ويصف علي البازركان هذه الحالة بقوله: "كانوا بحالة تعسة وسيئة للغاية فقد كانت سراويلهم بالية وقمصانهم ممزقة وكانوا يستجدون المارين بهم في خان الشيلان". ويقول السيد كمال الدين: ان منظر هؤلاء كان مدعاة لعطف الثوار ورحمة جمهور النجفيين الذين يتجمعون لمشاهدتهم والتطلع اليهم، فكان الاسرى يدلون بزنابيلهم من النوافذ والسطوح، فيعطف عليهم الناس جيعا ويلقون في زنابيلهم الدراهم والمآكل والسيكاير والصابون وغير ذلك. وقد كلم الاستاذ البازركان، الامام شيخ الشريعة حول تحسين اوضاع الاسرى، فرحب بذلك واستدعى الحاج عبد المحسن شلاش، وكلمه حول الموضوع فقال: انه اخاه رؤوف شلاش في بغداد وسيكتب له ليواجه السلطة البريطانية كي ترسل لهم المؤونة. كما وجه الامام شيخ الشريعة كتابا الى الحاج عبد المحسن شلاش جاء فيه: "ان للاسرى في الشريعة الاسلامية مكانة عالية، فالعناية بهم فرض والتوجه الى اكرامهم حتم". وقد كلف الاستاذ عبدالرزاق عدوة للاشراف على ادارة الاسرى، لما يمتاز به من معرفة باخلاق وعادات الانكليز والهنود، اذ انه كان اسيرا لدى الانكليز بتهمة اشتراكه في حركة النجف عام 1918 م، وعلى اثرها نفي مع جمع من النجفيين الى الهند، وبقي الاستاذ عدوة يقوم بعمله هذا مدة شهر ثم التحق بالثوار فعين آخر مكانه، وكان قد سجل اسماءهم في جدول لغرض تعدادهم في صبيحة كل يوم .
وكان من بينهم هندي مسلم واحد لم يكن محاربا، بل كان متعهدا في الجيش البريطاني، وكان يحسن العربية والانكليزية معا، فصار واسطة التفاهم بين الاستاذ عبد الرزاق عدوة والاسرى، وكان يتولى مداواة الاسرى طبيب هندي مسلم وهو موظف في حكومة الاحتلال البريطاني في النجف، فابقاه الثوار مع سائر موظفي المستشفى الذين كانوا يتقاضون رواتبهم الشهرية من حكومة الاحتلال.
كانت السلطات البريطانية قلقة على حياة الاسرى في النجف، حتى ان حميد خان ممثل حكومتهم في النجف كان يسعى حسب جهده الى تخفيف ما كان يعانيه هؤلاء الاسرى، وقد اعلم اشراف النجف ووجوهها ان كل ما يصرف عليهم سوف يعوض، كما ان اي ضرر يلحق بهم سيكون حسابه عسيرا ، ويذكر هولدين: ان اخبار الاسرى التي تنافت الينا منذ ذلك التاريخ تبعث على الطمانينة والرضى وعلى ما كان مرتقبا. وقد زار الاستاذ الحسني خان الشيلان وشاهد الاسرى فكتب قائلا: "وقد زرناهم غير مرة وكلمناهم بلغتهم، فاكدوا لنا انهم كانوا يائسين من الحياة نظرا لما امتلات به ادمغتهم من الاشاعات الكاذبة والاقوال التي لا ظل لها من الحقيقة، ثم قال ضابطهم: اما الان فنحن نرتع في بحبوحة من الهناء والراحة واسعة، وان الاكل الذي يقدم الينا في كل يوم افضل بكثير من ذلك الذي قدمته لنا الامم الاوروبية يوم كنا اسرى الحرب العامة عندها".
وقد بقي الاسرى في خان الشيلان قرابة اربعة اشهر وبعد ان انحسرت ثورة العشرين. واستحوذ الانكليز على معاقل الثوار، وجه قائد الجيش الانكليزي في 20/11/1920 انذارا الى مدينة النجف الاشرف بتسليم الاسرى الانكليز الموجودين لديها، وعلى اثر ذلك ذهب وفد من النجف الى الكوفة ومعهم الاسرى ، وتم تسليمهم بدون قيد او شرط ويقول الحسني بعد ان احتل الالاي الـ 55 مدينة الكوفة في 3 صفر 1340 هـ / 17 تشرين الثاني 1920م. اصبحت النجف هدفا لهم، فرأى المجلس العلمي الاعلى في النجف تسليم الاسرى المعتقلين فتقرر ارسالهم مع وفد يمثل المدينة الى مركز الالاي، وعند تسليم الاسرى صدر البلاغ التالي:
"وجيء امس من النجف بـ 79 اسير حرب بريطاني و88 اسير حرب هندي، وانزلوا في معسكر الالاي الـ 55 في الكوفة والظاهر ان صحتهم جيدة، وقد عوملوا معاملة حسنى، وفي الاخص معاملة النجفيين لهم".
ويعقب الاستاذ الحسني على هذا البلاغ بقوله: "والغريب في هذا البلاغ الرسمي ان الحكومة البريطانية تعترف بتسلمها 167 اسيرا من النجفيين نرى الجنرال هولدين يدعي في كتابه عن الثورة ان مجموع عدد الاسرى بلغ 164 واذا كان الجنرال قد اوهم الناس في هذا العدد الصغير فما قول القارئ الكريم في عدد القتلى والجرحى والمفقودين وهم كما يقول الثوار اضعاف العدد الذي اثبته الجنرال".
ثانيا: مذكرات الاسرى
وضع قادة ثورة العشرين ، اسرى الانكليز في خان الشيلان في النجف، وقد اضفوا على بعض جدرانه اهمية خاصة بالمذكرات الجدارية التي كتبوها. والرسوم التخطيطية التي اثبتت على مواضع متعددة من الخان، وان طمست بعض معالمها في الوقت الحاضر نتيجة الترميمات والاصلاحات العمرانية، وقد قمت بزيارة ميدانية لخان الشيلان. وصورت بعض نصوصه الجدارية، ويمكن تصنيفها على النحو الاتي:
1- عبارات وكلمات
تحمل بعض العبارات المدونة على الجدران، صفات وعظية، يشم منها رائحة التفاؤل وعودة الاسرى الى بلادهم، على الوجه التالي:
ستنال الحياة بمعنى (الحرية) You will find life
I study your language remember.
انا ادرس لغتكم ، (تذكروا) ويريد بكلمة تذكروا زيادة الانتباه.
الصبر فضيلة patience is a virtue
ويبدو من هذه العبارات ان الهدف منها تخفيف ما في النفس من الم، او بعث ما يخبو بها من امل، في مواجهة ظروف صعبة لا تعرف عاقبتها في خضم الاشاعات التي تدعو الى اليأس من الحياة تارة، او الى تحمل مرارة الصبر تارة اخرى كما هو واضح من الفقرة الاخيرة.
2- جداول وتقاويم
نقش الاسرى على احد الجدران بآلة حادة جدولا كتبوا فيه. ما يحتاجونه من قمصان وجوارب وفرش، ومضارب وغيرها.
وتقاويم يومية لشهري تموز واب "يبدأ اول تقويم لديهم بيوم الاحد المصادف 25 تموز 1920 ، وهو تاريخ اسرهم في الكفل، ويمضي تموز وينصرم بعده آب حتى اذا جاء تشرين الاول وقفوا عند يوم الاثنين المصادف اليوم الرابع منه فلم يؤشروه. فقد كان هذا اليوم موعد اطلاق سراح نفر منهم". وقد ارخ احدهم تاريخ دخول الانكليز مدينة الكوفة في 18/10/1920.
بقوله: british enter cofa 18-10-20
ويبدو من هذه التقاويم ان الايام كانت تمر عليهم بطيئة مثقلة اذ حفل كل يوم بنموذج من التاشير او مادة من الاحتجاجات . كما يصور فرحهم ايضا في اطلاق سراح قسم منهم في الرابع من تشرين الاول فلم يدونوا به شيئا وانشغلوا بظاهرة فك السراح عن الجدولة.
3- اسماء وارقام
تحتفظ بعض غرف الشيلان باسماء قسم من الاسرى من امثال:
Bend, blov, bromley, brabdel.
وعلى ارقام ورموز لبعض القطعات العسكرية مثل:
1283 M. OIE. I. Weish
24. C.F.A.R. 25. 417 Lord
W. p. Hillpol 4810.
ورد لفظ Live rpool ومانشستر Manchester وجستر لورنس Chester F. Lawrence ومدرسة القتال في لندن – جورج براون: War London – School G. Brown.
وهذه الاسماء قد تشير الى اسماء كاتبيها، او على ارقام وحداتهم العسكرية او على مدى ارتباطهم كل منهم بقطعاته، كما ان اسماء المدن كمانشستر وليفربول تشير الى مواطنهم او مسقط رؤوسهم، على ان ذكر مدرسة القتال في لندن قد يشير الى مكان الدراسة العسكرية وذكرياتها.
4- رسوم تخطيطية
دون بعض الاسرى بريشهم صورا مختلفة تعطي معاني كثيرة منها، صورة لحامية يحرسها احد الجنود، وصورة اخرى لجندي هندي يبدو انه من طائفة السيك بلحيته الطويلة، وصورة لشجرة عليها شخص وبيده بندقية وفوقها طائرة، وامامها بيت، ولعلها ترمز الى كمائن الثوار، وصورة لبنانية يعلوها صليب، ولعلها تشير الى كنيسة او مستشفى، وصورة يعتقد انها تمثل مدينة النجف ومرقد الامام علي (ع) اذ هي عبارة عن قبة وامامها بوابة.
ان هذه الرسوم التخطيطية تشير دون ادنى شك الى هواية فنية. كما تدل على استغلال الوقت وقتل الفراغ مما يشكل ظاهرة فنية واجتماعية لها مدلولاتها الخاصة.
5- رسالة حب
ومن الطريف ان احد الاسرى كتب رسالة حب الى خطيبته على جدران غرفة من غرف خان الشيلان. ولعله احتمل وقوع الموت عليه. ولم يجد الا الجدار ليكتب هذه الرسالة:
"with all the wishes to home I cease the opport unity with my friends and amongst the monster of death from the smaller room I send woes to my best greom".
وترجمة هذه الرسالة: "مع كل التمنيات للوطن، انتهز الفرصة مع اصدقائي وبين هول الموت من الغرفة الصغيرة لابعث بقبلاتي لعروستي المفضلة، ويبدو في هذه الرسالة عامل الامل في اللقاء مقترنا بعامل اليأس من الحياة، فهي توفيقية بين امل قد لايدرك.. وحياة قد لا تضمن وبعد فهي قطعة ادبية تعبر من ذائقة فنية.