ويلكوكس ومشروع سدة الهندية

ويلكوكس ومشروع سدة الهندية

لمى عبد العزيز مصطفى
باحثة اكاديمية
وجدت الدولة العثمانية أن مشكلة المياه في العراق بدأت تزداد سوءاً ، وتترتب عليها مشاكل اقتصادية واجتماعية ، ولمعالجة الموقف المتأزم ، انتدبت الحكومة العثمانية مهندس الري الانكليزي وليم ويلكوكس W . Willcocks ليقوم بدراسة مشكلة الري بشكل ميداني واقتراح الحلول الناتجة لمعالجة هذه المشكلة واعداد التصاميم الفنية لاحياء مشاريع الري في العراق ،

فقام بزيارة العراق سنة 1326هـ/1908م وبرفقته (12) مهندساً مع عدد من المساحين وبعد أن مكث زهاء السنتين والنصف انجز خلالها التحريات الفنية اللازة قدم إلى وزارة الاشغال العامة (نظارة النافعة) تقريراً مفصلاً ضمنه كل ارائه وافكاره في معالجة مشاكل الري ، وارفق التقرير المذكور (84) خارطة وتصميمات للمشاريع التي يتوقف عليها اعمار الاراضي وانعاش البلاد وتخليصها من اخطار الفيضانات( .
من المسائل التي ركز ويلكوكس مسالة فيضانات انهار العراق واهمية ضبطها بقوله : "لو ضبط فيضان نهري دجلة والفرات ضبطاً متقناً لبلغ وادي الرافدين في الخصوبة شاؤأ لامثيل له في التاريخ"( ولتحقيق ذلك الهدف فقد اقترح ويلكوكس اتخاذ مجموعة من التدابير وعلى الشكل الاتي
اولا. التدابير المتخذة لدرء خطر فيضان نهر الفرات .
أ. يحفر ناظم المصرف الحبانية بالقرب من منطقة الرمادي مجهز بـ(25) فتحة عرض كل منها (3) امتار ، بكلفة (57.700) ليرة تركية .
ب. حفر مصرف في وادي نهر الفرات بكلفة (40.200) ليرة تركية .
جـ. حفر مصرف في الصحراء بكلفة (297.600) ليرة تركية .
ثانياً. التدابير المتخذة لدرء خطر فيضان نهر دجلة :
أ‌. إنشاء سدة على طول الضفة اليمنى من النهر بكلفة (47.580) ليرة تركية .
ب‌. وضع عبارات انبوبية للري بكلفة (5.490) ليرة تركية .
جـ. إنشاء ناظم في محل تقاطع الصقلاوية بسد (عكركوف) بكلفة (5.130) ليرة تركية.
هـ. إنشاء سدة في مدينة بغداد الاعظمية إلى الكرادة الشرقية حالياً بكلفة (9.360) ليرة تركية .
و. إنشاء ناظم ومصرف إلى نهر (دجلة) على ضفة بغداد ، بكلفة (5.040) ليرة تركية.
اكد ويلكوكس لنه في حالة تنفيذ هذه المشاريع فسيكون بالامكان ري ثلاثة ملايين "ايكو" ، من أفضل الاراضي في العراق التي ستتمكن من انتاج مليون طن من الحنطة ، ومئتي الف طن من القطن.
وفي جانب اخر من هذا التقرير اكد ويلكوكس على امكانية الاكتفاء بمياه نهر الفرات لارواء جميع المساحة المقابلة للارسيواء بين منطقتي الفلوجة والكوت ، وجميع الاراضي الواقعة على مجرى الحي (الغراف) ، وهو مجرى نهر دجلة القديم الممتد من الكوت إلى بلدة الناصرية ، فضلآً عن الاراضي الواقعة على مجراه الحالي المار بمدينة العمارة.
اكد ويلكوكس قابلية العراق للاعمار الزراعي وما ينتظره من مستقبل اقتصادي في وقت ازدادت فيه اطماع بريطانيا في العراق ، خاصة عندما يقول "أن امامنا الان احياء بلاد قديمة اسمها مرادف للخصب والفلاح منذ قرون عديدة فإنها كانت مطمح انظار الفاتحين فالدولة التي كانت تمتلك البلاد في العصور الغابرة كانت تمتلك المشرق وليس على وجه البسيطة ارض اصلح من اراضي العراق لزراعة الحبوب".
ويمكن تقسيم المشاريع التي اقترحها ويلكوكس في هذا التقرير إلى مجموعتين:-
أ. المجموعة الأولى .
مجموعة الفرات التي تشمل على :-
1. مشروع سدة الهندية الذي اشتمل على إنشاء سدة الفرات في جنوب المسيب لتامين تجهيز المياه في شط الحلة وفي جداول الكفل وبني حسن والحسينية.
2. مشروع بحيرة الحبانية ومنخفض ابي دبس والغرض من ذلك استخدام هذين المشروعين المكملين لبعضهما بتحويل مياه فيضان نهر الفرات اليهما .
3. مشروع سد الفلوجة ويشمل إنشاء سدة الفرات بجوار الفلوجة. وشق جدولين واسعين من مقدم السد لارواء الاراضي الواقعة بين دجلة والفرات اولهما يسير في مجرى الصقلاوية القديم (الكرمة) ليصب في منخفض عكركوف ومن ثم يفتح جدول يأخذ ماءه من الجهة الجنوبية الشرقية فيسير في موازاة الضفة اليمنى لنهر دجلة وينهي قرب بلدة الكوت على أن يروي هذا الجدول وفروعه الاراضي الواقعة على الضفة اليمنى لنهر دجلة حيث اطلق على هذا الجدول اسم جدول دجلة الايمن . وحين يتفرع الجدول الرئيسي الاثني من نهر الفرات في نقطة تقع إلى الجنوب من صدر الجدول الاول ، ويمتد بمحاذاة الضفة اليسرى لنهر (الفرات) حتى يصل إلى صدر جدول (الاسكندرية) فيغذي كل الجدوال التي تتفرع من الضفة اليسرى لنهر الفرات (كجدول ابي غريب – وجدول اليوسفية- وجدول اللطيفية وجدول الاسكندرية) ، وسمي هذا الجدول (جدول الفرات الايسر.

ب. المجموعة الثانية :-
مجموعة نهر دجلة واهمها مشروع سدة الكوت الذي يؤمن ايصال الماء إلى شط الفرات المندرس ، ومشروع سد بلد الذي يساعد على احياء منظومة الجداول القديمة الواقعة على ضفتي نهر دجلة في شمال الدلتا ، وهي النهروان على الضفة اليسرى والاسحاقي والدجيل على الضفة اليمنى ، كما اقترح استخدام منخفض الثرثار لتحويل مياه فيضان نهر دجلة إليه من خلال إنشاء سدة على نهر دجلة في جوار سامراء وفتح ترعة تأخذ المياه من الجانب الايمن للنهر أما السدة فتنتهي إلى المنخفض وكان ويلكوكس اول من لفت النظر إلى امكانيات منخض الثرثار مياه فيضانات نهر دجلة اليه( .
ولما كانت هذه الدراسة تستند إلى الاحصائيات الفنية والخاصة بتسجيل مستويات لذلك انشأ ويلكوكس مقياساً على الضفة اليسرى لنهر دجلة عند دار القنصلية البريطانية ، لرصد مناسيب المياه ، ومن ثم الاستعانة به في دراسة أحوال النهر داخل مدينة بغداد ، حيث عرف هذا المقياس بمقياس بغداد (الكمرك) الذي عد اول مقياس يتم انشاؤه في ذلك الوقت( .
عد التقرير الذي قدمه ويلكوكس أحد الوثائق المهمة التي افادت العراق فيما بعد للاسباب الاتية :-
1. أنه كان بداية للتخطيط الصحيح في ري العراق .
2. أن اراءه بقيت حصينة وظهر عدد من إلى حيز التنفيذ بعد عشرات السنين .
3. لقد حدد التقرير وبصورة صحيحة كيفية توزيع المياه ، ووضع الاسس في كيفية درء خطر الفيضانات.
واجه ويلكوكس خلال دراسته ومسحه للمناطق المنوي اقامة المشاريع عليها جموعة من المشاكل لعل ابرزها :-
1. أنه لايوجد معلومات عن تسوية الاراضي.
2. لاتوجد خرائط للبلاد عليها يعتمد عليها باستثناء خرائط المسح التي قام بعض الضباط والرحالة الذين زاروا العراق .
3. كان يجب انجاز المهمة باقصى سرعة ممكنة.
4. أن مساحة الاراضي القابلة للارواء التي كان يقتضي اختيار انسبها للري كانت واسعة جداً .
وامام مالية الدولة العثمانية عن تحمل نفقات تنفيذ مثل هذه المشاريع. ارتؤي أن يكون انجازها تدريجياً الواحد بعد الاخر على أن يقدم الاهم على المهم ، وكان اول هذه المشاريع مشروع سدة الهندية الذي كان ويلكوكس قد اقترح اقامته في المكان تشعب فيه نهر ؟ إلى فرعي الهندية والحلة للعمل بسرعة وتامين تجهيز المياه إلى فرع الحلة الذي أخذ يجف نتيجة لتحول المجرى الرئيسي اانهر من اتجاه شط الحلة إلى اتجاه شط الهندية .
احيل انجاز المشروع إلى شركة جون جاكسون البريطانية( . ووفق شريوط منها أن يأخذ المتعهدون على أنفسهم اتمام العمل برمته مع تحميلهم التبعات المالية في حالة عدم اتمام المشروع.
بوشر العمل في بناء السدة في شباط سنة 1329هـ/1911م ، واستغرق العمل زهاء السنتين ، حيث تم افتتاح السدة في 12كانون الاول سنة 1332هـ/1913م( . بلغ طول السدة 240 متراً ، وهي مؤلفة من ثلاثة احواض يشمل كل منها على 12 فتحة ، اتساع كل منها 5 امتار ، وكل فتحة من الفتحات المذكورة مجهزة ببوابتين من الفولاذ( . وتفتح جميع ابواب السد في اثناء موسم انخفاض منسوب النهر (الصيهود) فتسد الابواب حيث يجري توزيع المياه بطريقة المناوبة( . ويوجد في الجانب الايسر ممر للسفن
عرضه (8) امتار وطوله (55) متر وعليه جسر متحرك . وتبلغ مجموع طول ارضية السدة (112)متر، تتخللها(3)خطوط من الركائن الحديدية . وفي جنوب الأرضية الرئيسية مساحة مغطاة بطبقة سميكة من الأحجار يبلغ طولها (40)متر ، وتمتد الى جوار السد الغاطس ، اما الغرض الذي رصفت من اجله هذه الأحجار فهو تخفيف ضغط المياه الصاعدة عن الأرضية وفسح المجال لها لكي تترسب من تحتها دون أن تحدث ضرراً في بنائها.
كلف انجاز السدة حوالي نصف مليون جنيه استرليني وحققت منافع كبيرة جداً ، وكان بالامكان ان تتضاعف هذه المنلفع لو انها ترافقت مع صيانة الامن ، وايجاد نظام ملائم للاراضي ، علاوة على استخدام الطرق الحديثة للزراعة .
اما بالنسبة لباقي المشاريع المقترحة ، فقد بدأ العمل بانجاز مشروع منخفض الحبانية وانجزت المراحل الاولى منه الا ان العمل سرعان ما توقف أثر اندلاع الحرب العالمية الاولى. ويغلب الظن ان موظفي الشركة لسروا من لدن السلطات التركية عند نشوب الحرب.
وضعت الأدارة المحلية في ولاية بغداد مجموعة من العراقيل للحيلولة دون استمرار ديكلوكس في عمله التي اضطرته في النهاية الى تقديم استقالته( .بعد ان امضى في عمله سنتين ونصف على الرغم من ان مدة الخدمة التي تعاقد عليها هي خمس سنوات .
وفي هذا الصدد يدعي ويكلوكس ، ان والي بغداد ـ ناظم باشا ـ ابى ان يوقع على قائمة النفقات التي ارسلها(اي ديكلوكس) اليه لأن الوالي كان يضع يده على المبالغ المخصصة للمشروع وينفقها على اغراض عسكرية( . وبالرغم من اعترلض ديكلوكس على هذه الأجراءات علىة اعتبار ان الاتفاق بينه وبين السلطة العثمانية ،لا يعطي الحق لوالي بغداد في التدخل أو معارضته .وبقية حسم الخلاف ،احيل الموضوع الى وزارة الأشغال العامة (نظارة النافعة للنظرفيه حيث جاء رأيها في النهاية مؤيداً لوجهة نظرالوالي ، عندما اعطى الحق لوالي بغداد بمراقبة تلك النفقات.
في الوقت نفسه شنت الثقافة ، وعدداً من الشخصيات السياسية ، منها وزيرالأشغال العامة،حملة انتقاد شديدة ضد ديكلوكس ومهندسيه متهمة اياهم بالتجسس لصالح الأستخبارات البريطانية (.كما وقف اْخرون موقفاً معارضاً من مشاريع ديكلوكس ،ولا سيما بعد أن دعا الى استخدام 2000 عامل هندي مع عوائلهم . وما ينجم عن ذلك من انعكاسات سلبية على السكان.
وبالرغم من أهمية مشروع سدة الهندية ، الا أن بعض الأنتقادات وجهت الى هذا المشروع للأعتبارات الاْتية :
1- لم يأخذ المشروع بنظر الأعتبار حجم سكان العراق فهو مشروع عظيم في حين اليد العاملة في العراق قليلة .
2- عدم استناده الى دراسة كافية لحالة الأنهار وحاجة البلاد ،وطبيعة التضاريس الجغرافية.
3- لم يأخذ بنظر الأعتبار عند وضع المشروع مسألة تأمين الملاحة في نهر الفرات.
عن رسالة : الخدمات العامة في العراق 1869 ـ 1918 ، لمى عبد العزيز مصطفى . دكتوراه جامعة الموصل 2003