الرسالة الاخيرة الى مدحت باشا من زوجته العراقية

الرسالة الاخيرة الى مدحت باشا من زوجته العراقية

نصرت مردان
باحث عراقي
قضى الوالي العثماني والمصلح الشهير (مدحت باشا) في بغداد ثلاثة اعوام ونصف وقد تمكن خلال الفترة الوجيزة من القيام بالكثير من الاصطلاحات التي تذكرها عنه كتب التاريخ، فقد تمكن خلال توليه ولاية بغداد من القضاء على تمرد بعض العشائر، كما قام بتطوير النقل على نهري دجلة والفرات، واسس صندوقا للضمان، وبنى مستشفى،

وانشأ خطا للترام واصدر اول جريدة في العراق، (الزوراء) التي صدر عددها الاول في 15/6/1879 من ثمان صفحات، بعد ان استورد لهذا الغرض مطبعة من باريس، اطلق عليها اسم مطبعة الولاية (ولايت مطبعة سي)، وكان يجيد العربية والفارسية الى جانب التركية، ولعل التجربة الاهم في حياة (مدحت باشا) المرتبطة ببغداد، هي زواجه من سيدة عراقية تدعى (شهربان)، ولهذه الزواج قصة طريفة.

ذات ليلة بغدادية اتاه حلم غريب ترك في نفسه اثرا عميقا حلم بانه يتجول في غابة (بلغراد) باسطنبول بحثا عن طريدة، وسرعان ما برزت امامه غزالة رشيقة، ورغم مطاردته لساعات الا انه لم يظفر بها. فقد كانت تبتعد عنه نافرة كلما هم بالاقتراب منها واستعداده لاقتناصها. لكنه عندما حاصرها قرب نبع، وهم باطلاق النار عليها، اذا بها تتحول الى فتاة باهرة الجمال، تنظر بفتنة وغنج وهي تقول له:
((انظر ايها الصياد! كان بمقدوري ان افر منك، وكان يستحيل عليك اصطيادي، لكنني اعجبت بنبلك، كان في مقدورك ان تطلق النار علي، لكنك لم تفعل ما الذي كنت ستجنيه لو فعلت؟ الهنا يساعدنا عند الشدائد، فجأة احسست بتحولات في جسدي طال شعري، قوائمي الامامية، اصبحت ذراعين، تساقط الشعر من جسدي، وظهر لي صدر ناهد، قوائمي الخلفية تحولت الى ساقي امرأة حينما كنت اتأمل هذه التغييرات الطارئة على جسمي، رايتك امامي!! لحظتها تولع (مدحت باشا) عشقا بهذه (الفتاة الغزالية)، احتواها بين ذراعيه وهو يتذكر (مريام) الفتاة الباريسية، التي تعرف عليها عند وجوده في باريس، فجأة، مر من امامه، شيخ من شيوخ البكتاشية، فاحس (مدحت باشا) بالخجل ان يراه الشيخ مع (الفتاة الغزالية)، الا ان البكتاشي خاطبه قائلاً: يا بني! هذه الفتاة هي من نصيبك، فلم الخجل؟ خذها الى منزلك: انها تنتظر منك ذلك.. (فز مدحت باشا من نومه وهو فزع خائب حزين لان معشوقته كانت حلما، في الصباح الباكر قصد تكية احد شيوخ العلويين قوبل هناك بما يستحق من تقدير واحترام، كل من كان في التكية يبدو ممتنا لزيارة الوالي، قال له المريدون: شيخنا معتكف في الداخل، سنبلغه بزيارتك، بعد لحظات ظهر الشيخ من وراء الستار مرحبا بالوالي: مرحبا بك ايها الصديق العزيز قل ما الذي يشغل بالك؟ حدثه (مدحت باشا) عن حلمه الغريب، طالبا منه تفسيره، قال له الشيخ بعد ان مسد لحيته عدة مرات: (انه حلم مبارك يا سيدي، ستتزوج هنا في بغداد، وستشرب من نبع المحبة هنا، وباذن الله ستنجب منها ذكرا، عليك ان تسميه (على حيدر) .
سيرتفع نجمك عاليا، وستبلغ ذروة الحكم، فيما بعد ستتعرض الى متاعب والام كثيرة ادعوا الله ان يمنحك الصبر على الشدائد والملمات! كان هذا الحدث مهما في حياة مدحت باشا، علما بانه سبق له ان تزوج وهو في الخامسة والعشرين من زوجته (نعيمة)، رزق منها ببنت، تزوجت في سن مبكرة، كان (مدحت باشا) يرغب بولد يخلف ذكراه، وبدأ هذا الامر اكثر الحاحا بالنسبة له في بغداد، حيث بدأ العديد من معارفه والمقربين منه يوصونه بالزواج ثانية، وكانت هناك الكثير من العوائل الميسورة توجه الدعوة له، لعله يختار واحدة من بناتها. ولم تكن زوجته (نعيمة) تمانع في زواجه من امرأة اخرى، بل كانت تشجعه قائلة: وماذا في ذلك يا باشا! لقد تجاوزت الاربعين ولم يعد بامكاني ان انجب لك بعد هذا العمر. لماذا لا تختار لك زوجة من عائلة كريمة المحتد والنسب انت الان في الثالثة والاربعينن ولا تزال شابا كان مدحت باشا يرغب بذلك، لكنه لم يفصح عن رغبته لزوجته حرصا على مشاعرها. لكنه سعد بسماع موافقة زوجته على زواجه للمرة الثانية. وبدى له لحظتها نهر دجلة واشجار النخيل اكثر جمالا وسحرا.
حضر مدحت باشا ذات مساء وليمة اعدها على شرفه احد اثرياء بغداد الميسورين من (ال النقيب) في مزرعته القريبة من نهر دجلة في تلك الاثناء تعلقت عيناه بوجه فتاة جميلة، بيضاء البشرة، يزيدها خمارها الاخضر جمالا فوق جمالها الاسر. ما اثار استغراب مدحت باشا ان الحسناء الفاتنة تبادله النظرات خلسة، لاحظ مضيفه البغدادي نظرات الاعجاب التي يتأمل بها مدحت باشا الفتاة التي تقوم على خدمتهم قال له الشريف البغدادي: مولاي انها تدعى (شهربان) وهي بمثابة ابنتنا فهي رغم اصولها الشركسية الا انها تطبعت بطابعنا وتقاليدنا، وهي تتحدث العربية مثلنا تماما خرجت (شهربان) من الغرفة وقد تضرجت وجنتاها بلون الورد، لم يستطع مدحت باشا ان يخفي اعجابه بها: انها فعلا جميلة للغاية – اننا نحبها كثيرا، طلب يدها الكثيرون لكننا رفضنا لحبنا لها ولاخلاقها الحميدة الراقية، ثم التفت صاحب البيت الى زوجته قائلا: اليس كذلك يا خديجة؟ قولي انت ايضا شيئا قالت زوجته: يا باشا، شهربان بمثابة ابنتنا، وبقدر حبنا لبغداد فهي تحب اسطنبول ايضا، اكتفى الباشا بالقول: على بركة الله. كانت زوجته (نعيمة) تصغي بهدوء الى ما يتحدثون به، وكانت بدورها قد اعجبت بجمال شهربان الفاتن، دون ان تشعر باي بادرة من بوادر الغيرة، رغم انها تصغرها بخمسين وعشرين عاما. بعد ايام عقد (مدحت باشا) قرانه على العراقية (شهربان) وقد حضر الحفل المتواضع الذي اقيم بقصر الولاية، نخبة من الضيوف كانت (شهربان) تحتمي به في الايام الاولى من الزواج وكانه والدها الا انها بعد ايام لم تعد تشعر بفارق السن بينهما بعد ان اغرقها مدحت باشا بعواطفه الجياشة.

عذابات الفراق
في تلك الفترة كانت الدسائس في اسطنبول، تحاك ضد اصلاحات مدحت باشا في بغداد، الى اين يقود باصلاحاته العراق؟ وماذا اذا اعلن غدا الاستقلال عن الدولة العثمانية؟.
وكان الصدر الاعظم (محمود نديم باشا) هو الذي يوعز صدر السلطان ضد (مدحت باشا) بالدسائس والتامر. لم يتحمل (مدحت باشا) هذا الجو التآمري كثيرا، وفضل تقديم استقالته. اختاره السلطان (عبد المجيد) صدرا اعظم (رئيس وزراء ) بدلا من محمود نديم باشا عام 1872 الا انه عزله بعد ثلاثة اشهر لميوله الاصلاحية ومحاولته سن قوانين تحد من صلاحيات السلطان. وقد أوعز نديم باشا صدر السلطان بالسوء ضده، كما اصبح (مدحت باشا) مرة ثانية صدرا اعظم في 17 كانون الاول 1879 من قبل السلطان (عبد الحميد الثاني) الا ان محاولته اعداد مشروع جديد للدستور (قانوني جديد) اثار عليه حفيظة السلطان الذي طلب ترجمة الدستور الفرنسي، واضاف اليه المادة 113 التي تعطي للسلطان صلاحية نفي الاشخاص الخطرين على امن وسلامة الامبراطورية وبذلك اصدر الدستور الذي عرف بالقانون الاساسي في 23 كانون الاول 1876، وقد قام السلطان بعزل (مدحت باشا) من منصبه في 5 شباط 1877 حيث عينه عام 1878 واليا على سوريا، الا انه عزله من منصبه بعد ان نجح نديم باشا بالوشاية به عند السلطان عبد الحميد، واتهمه بانه المسؤول الاول عن اغتيال السلطان عبد المجيد، اضطر مدحت باشا الى الفرار مع زوجتيه واطفاله الى مدينة (ازمير) ومنها لجأ الى القنصلية الفرنسية في 1881، لكن القنصلية سلمته للسلطات العثمانية بعد وعد السلطان بانه لن يقتله وسيحاكمه محاكمة عادلة. بعد استسلام (مدحت باشا) تمت محاكمته في قصر يلدز. وقد ادانته المحكمة باغتيال السلطان عبد المجيد، فصدر الحكم بنفيه الى مدينة الطائف. ظلت زوجته العراقية (شهربان) وفية لزوجها، رغم كل الظروف والدسائس التي مر بها. وقد بعثت برسالة الى صديق العائلة (كيليكيان واصف افندي) تعبر فيها قلقها على مصير زوجها.
(السيد المحترم واصف افندي، ابني (علي حيدر) مريض جدا، كما ان (مسرورة) مريضة هي الاخرى، لا اعلم ماذا عنه افعل ارسلت رسالة استعطاف الى القصر ولكن دون جدوى).
كما بعث (مدحت باشا) رسالة بدوره الى واصف افندي قبل يوم واحد من مقتله في الطائف، (لم يعد ثمة امل اذا لم يفلحوا في تسميمي، سيقومون بحبسي في زنزانة انفرادية، وهناك سيستطيعون بكل يسر في القضاء علي).

رسائل الموت
وعندما احس مدحت باشا بدنو اجله، كتب من الطائف رسالته الاخيرة الى زوجتيه، وهي بمثابة وصيته الاخيرة: (زوجتي العزيزتين نعيمة وشهربان، ابنتي العزيزة ممدوحة، ولدي الحبيب علي حيدر، انبتي العزيزتين، وسيمة ومسرورة ليحميكم الله جميعا ما دام لم يبق ثمة عائق من ذهابكم الى اسطنبول، ارجو ان تبيعوا كل ما تستطيعون الاستغناء عنه في ازمير. ارجو ان تستغنوا عن خدمات من هم فائضين عن الخدمة كما ارجو ان تقطعوا علاقاتكم مع الاعداء الذين هم في هيئة اصدقاء. حاولوا ان تعيشوا بسلام ليتعلم ابني علي حيدر، حفيدي كمال، ابنتي وسيمة التركية، وليذهبوا الى المدرسة التي في الحي. بعد ان يتعلم علي حيدر العلوم الدينية، ابعثوه للدراسة في المدرسة السلطانية، بعد ذلك ابعثوه ليتعلم فنون التجارة لدى تاجر اياكم ان تتركوه يتجه للوظائف الحكومية. لست مدينا لاحد ما عدا التاجر خويستاكي، بالفين وخمسمائة ليرة، والى طيفور افندي بخمسين ليرة سددوا هذه المبالغ بعد استحصال الدين الذي استدانه مني كيورك الصراف. لا تأسفوا ولا تحزنوا على شيء الله سيغفر سيدتي ان وجدت. انتم ثروتي المعنوية في هذه الحياة، لا تجرحوا احدا بكلمة، اتركوا كل شيء للعدالة الالهية، لكي لا يصل الختم الذي يحمل اسمي ليد الاعداء، القيته في البحر عندما كنت في طريقي الى ازمير، خشية ان يقع في يد احد قد يريد شرا باولادي، لهذا لا تخشوا شيئا، لا تقيموا على قبري شاهدة مذهبة، بل ارجوا ان تكتبوا عليه بخط اسود:
((هذا قبر مدحت باشا الذي ذهب ضحية جهوده الكبيرة في سبيل الوطن)).

الرسالة الاخيرة
في الليلة التي تقرر فيها قتل مدحت باشا بالطائف، دخل القتلة غرفته واحاطوا به من كل جانب معتذرين : (اعذرنا نحن ننفذ الاوامر). هجموا عليه هجمة رجل واحد، امسكوا بقدميه ويديه، لم يقاوم ترك نفسه للجلاد، ادخل المدعو اسماعيل الحلاق، الحبل المغموس في الدهن والصابون في رقبته، وبدا يشده بكل قوته، ازرق وجه مدحت باشا وجحظت عيناه، اختلجت اطرافه عدة مرات، ثم توقفت انفاسه، عندما هاجم الجلادون مدحت باشا سقطت من جيبه محفظة، وضعها احد الجلادين ويدعى ابراهيم الشركسي في جيبه، املا ان يجد فيها مالا كثيرا، لكن المحفظة لم تكن تحتوي الا على رسالة، انها اخر رسالة بعثتها شهربان العراقية الوفية الى زوجها مدحت باشا:
((زوجي وسيدي الحبيب: لا اعلم ان كانت هذه الرسالة ستصلك ام لا، لقد مرت ثلاثة اعوام على رحيلك من بيننا انتزعوك من بيتنا الهانئ، وعشنا السعيد، وقذفوا بك الى الصحراء الثانية لمذا فعلوا كل ذلك؟ هل الاخلاص للوطن اصبح تهمة يعاقب عليها المرء؟ لقد عملت من اجل الوطن، وسرت دون تردد في الطريق الذي امنت بصوابه، لقد ارادوا اسكات صوتك، لكنك ظللت تصرخ بالحقيقة التي امنت بها لم يستطيعوا شراءك بالمال والهدايا والنياشين والرتب. لم ننساك يا باشا ! الكل يتحدث عنك بمودة، لكنك لا تسمعهم، انه الصمت الذي يسبق العاصفة، العاصفة التي ستقتلع كل شيء وسوف لن يرى قصر (يلدز) النور في العاصفة الهوجاء، بعدها سيعود الهدوء والضوء الى كل مكان. وكما كتبت في يوم ما، فالشمس ستشرق من الغرب! سيدي الحبيب، زوجي العزيز، ادين اليك بمعرفتي كل شيء لقد كانت حياتي قبل ان اعرفك مسورة باسوار حديقة البيت الذي كنت اعيش فيه ببغداد كنت مجرد فتاة عراقية ذات اصول شركسية، كان من الممكن ان ابقى هناك الى الابد، لكنك اكتشفتني وعلمتني كيف اميز بين الجمال والقبح بين الخطأ والصواب، علمتني كيف افكر، علمتني ان لكل سبب مسبب، وان الانسان يستطيع ان يوجه الاحداث ويتقدما، علمتني ان الحياة جميلة، ويجب ان نعيشها كما يقال بالطول والعرض، كيف نستطيع ان نعيش بدونك يا زوجي الحبيب؟.. صوتك لم يغادر سمعي قط، كيف نستطيع ان نعيش بدونك؟ لست انا وحدي بحاجة اليك، بل المجتمع هو باشد الحاجة اليك والى افكارك نسيم البحر لم يعد يهب في (ازمير) منذ رحيلك، كما ان الشمس لم تعد تغيب وراء الافق القرمزي كعادتها، لم نعد نسمع زقزقة الطيور، ولم يعد يصلنا شذى الياسمين. تعال! لنشرق الشمس في حياتنا من جديد، لا تتركنا لوحدنا ياسيدي، لا تدع للتشاؤم سبيلا الى ذاتك، بل ارجوا ان تؤمن ان انوار المشاعل ستضيء في كل مكان قريبا، آه لو تدري ياسيدي الشائعات التي تدور، وحديث الافواه الكريهة عنك! سيدي وزوجي الحبيب بلغ ابننا (علي حيدر) الثانية عشرة من العمر، وهو يحاول ان يقتدي بسيرتك دائما، اما (وسيمة) فقد بلغت السادسة، لو رأيتها فسوف لن تتركها من بين ذراعيك. اما (مسرورة) فهي لا تتذكرك ابدا، لانها كانت في الشهر الثالث حينما غادرتنا، انها مطيعة وذكية، الكثيرون يشبهونها بك، نعيمة خانم متعبة جدا وحزينة، لقد حطمها فراقك، انها ترفض الحديث الى احد او الخروج من البيت، لقد انقض من حولنا من كنا نعدهم اصدقاء، اصبحنا خطرين بالنسبة لهم، لايهم، ليفعلوا ما يحلوا لهم.
زوجي الحبيب: لقد اعدت ملابسك بعد ان عطرتها ووضعتها في درج خزانة الملابس كما وضعت في البوفيه، فناجين القهوة التي تحمل صورتك، والاقداح الصغيرة التي كنت تتناول فيها الكونياك، لا تزال نصف قنينة الكونياك نصف مليئة كما تركتها في تلك الليلة المشؤومة، وكأنك ستعود غدا، زوجي الحبيب اريد ان اعترف لك بشيء ارجوا ان لا تسخر مني لقد اشتقت الى دفئك اخجل من كتابة ذلك، واخشى ان يقرأ هذه الرسالة شخص آخر قبل وصولها اليك، ولكن لم يعد يعنيني ان يعرف مخلوق ما يعرفه رب العالمين! سيدي: قلبي وروحي وعواطفي في انتظارك، احتضنك بشوق ولهفة، تعال تعال تعال!..
زوجتك المخلصة
شهربان