ميخائيل نعيمة في بغداد

ميخائيل نعيمة في بغداد

قراء العربية جميعا يعرفون من هو الاستاذ ميخائيل نعيمة، انه علم من اعلام الادب العربي الحديث، وشاعر من شعراء العربية المجددين، انه البقية الباقية من اساطين الشعر والبيان في الجيل الماضي، فهو صنو جبران خليل جبران وايليا ابو ماضي، وهو معاصر الرصافي وشوقي والجارم.. وقد كان الاستاذ نعيمة احد ضيوفنا في مهرجان بغداد – الكندي

حيث ظهر في ندوة تلفزيونية، قدمه السيد جميل الجبوري بقوله "ان الاستاذ ميخائيل نعيمة اديب عرفه الشرق انسانا مفكرا.. فلسف الادب وادب الفلسفة، هذا الاستاذ الذي اعطى للفكر العربي الخلاق نتاجات رائعة، وصور بالكلمة الشاعرة همسات النفوس وفيض الوجدان والخواطر الجميلة الشقراء".
وفيما يلي بعض ما دار في هذه الندوة التاريخية:
* اهلا بكم سيادة الاستاذ في محطة التلفزيون.. حبذا لو تفضلتم بالحديث الى مشاهدينا عن انطباعاتكم وما تركته هذه الزيارة القصيرة التي نرجو ان تكون اطول بالمستقبل في نفسكم بهذه المناسبة وما انطبع في نفسكم عن احتفالات بغداد والكندي..
تعود الناس.. اكثر الناس.. على ان يردوا الاحداث والامور الى اسبابها القريبة.. واني في هذه المناسبة لو شئت ان ارد الفضل في زيارتي لبغداد التي هي زيارتي الاولى لقلت ان الفضل يعود الى لجنة الاحتفالات.. اما في الواقع فالفضل يعود الى المنصور الذي اسس بغداد، والى الكندي الذي رفع اسم بغداد بما ابقاه لنا من فلسفة ومن اعمال عظيمة، وليس المهم هاهنا ان ارد الفضل الى اصحابه فاصحاب الفضل كثرة، والمهم اني وجدت نفسي لاول مرة على هذه الارض الخيرة التي هي ارض العراق وبين اخوة غمروني بفضلهم وبعطفهم وبلطفهم وبكرمهم.. فوجدتني وكأنني في دنيا من السحر.. بغداد القديمة قرأت عنها الشيء الكثير، والكندي ان لم اكن طالعت شيئا من مؤلفاته فقد سمعت عنه كذلك.. الا ان الذي استرعى انتباهي بالدرجة الاولى وافعم صدري بالفرح هو ان بغداد التي وقفت في ايدي المغول سنة 1258 بقيت تتقهقر عاما بعد عام الى ان كان عام 1958 واذا ببغداد تنفض غبار الاجيال عنها وتنهض من كبوتها وتمضي تجدد مجدا غير المجد الذي كان لها في ايام الخلفاء العباسيين ذلك مجد لم يخل من الظلم ولم يخل من التعسف ولم يخل من الاثرة ذلك مجد قام على اكتاف قلة.. اما الان فهو مجد يقوم به الشعب.. يقوم به اهل العراق... وهذه المدينة التي ابصرتها في الايام القليلة من وجودي هاهنا انها كالطائر الاسطوري الذي يموت ثم يعود من جديد.. ان بغداد الجديدة تبعث حية.. ان بغداد الجديدة لا تخشى ان تهدم اذ هي تبني.. وهناك الشعوب التي لا تعرف قيمة الهدم ولانها لا تعرف قيمة الهمم لا تعرف قيمة البناء. بغداد نامت سبعة قرون ولكنها لم تندثر، واليوم كما تعرف كانت لنا نزهة جميلة جدا الى الحلة حيث اثار بابل القديمة.. بابل نامت ولا تزال نائمة.. بابل اندثرت ولن تقوم.. اما بغداد فنامت وهي اليوم في وثبة عظيمة هائلة.. واود لهذه الوثبة ان لا تقف عند حد.. اود لهذا البناء ان لا يقف عند حد.. اود للقديم البالي ان يندثر.. واود للجديد النشيط ان يندفع في طريقه الى الامام..
ومما اسعدني كذلك ان اجد هنا اصدقاء كثيرين لم اكن اعرف عنهم شيئا ولكنهم كما يبدو كانوا يعرفون الشيء الكثير عن ميخائيل نعيمة.. وليس الذ لقلب كاتب من ان يلتقي بقرائه وجها لوجه.. ليس الذ من ان تقع العين على العين وان ينطلق من القلب ما يجد طريقه لا الى الاذن فقط، بل الى القلب مباشرة.. واظن ان لقاءاتي مع بعض هاهنا ولم التق منهم الا العدد اليسير كانت من هذا النوع من اللقاءات.. لقد كانت لقاءات قلوب.. لقاءات ارواح.. وارجو ان تستمر هذه اللقاءات في المستقبل..
* شكرا يا استاذ لهذه العواطف الكريمة ونحن نرجو ان نكون وتكون بغداد دائما عند حسن ظنكم وعندما تحبون لها.. سيادة الاستاذ قرأ لكم القارئ العراقي الاديب والمتأدب في كثير مما انتجتموه.. همس الجفون، والغريد، والاب والنيون، ومذكرات الاورفش ومرداد، وكرم على درب، وفي مهب الريح، وفي دروب، ولا استطيع للاسف الشديد ان احصى كل ما كتبتم.. ترى هل لكم ان تحدثوا المشاهد الكريم ما هي نشأتكم الادبية؟ او على الاقل اضواء على هذه النشاة الادبية الرائعة..
احسنت اذ قلت ان اطرح بعض الاضواء عليها .. اما ان استطيع تحليلها واين بدأت وكيف بدأت فهذا فوق طاقتي.. واظن فوق طاقة اي اديب او اي انسان .. وجل ما استطيع قوله بهذه المناسبة هو انني ما ان بدأت اقرأ حتى بدأت اتذوق الكلمة.. فكان للكلمة ضرب من السحر عندي.. وما ان اتقنت شيئاً من النحو واصبحت لي قدرة ان انسج العبارات ثم ازاوج العبارات حتى بدأت اشعر وكاني ملتصق بالكلمة كما يلتصق الجنين بالرحم.. فلا انفصال بينهما على الاطلاق.. وهذا الحب للكلمة بدأ يسوقني عن غير وعي مني في البداية الى ان اخذت اتعرف على بعض الادباء وبعض الكتاب من خلال مؤلفاتهم.. وانا لا ازال تلميذا في دار المعلمين الروسية في الناصرة.. هنالك كان للحظ ان اقرأ الشعر وان احفظ الكثير من الشعر، درسنا المتنبي والبحتري وابا تمام ودرسنا الشعر الجاهلي، وفي الحال حيثما وقعت على بيت جميل كان يغريني ان انظم مثله .. كان يقربني ان انسق الصدور والاعجاز وان تتكون لدي قصيدة.. ذلك بالطبع كان ميل شاب لايزال في سن المراهقة.. عندما كنت في دار المعلمين في الناصرة كنت بين الثانية عشر والسادسة عشر ومن بعد الناصرة انطلقت الى روسيأ.. حيث اتقنت اللغة الروسية كاهلها وهنا انفتحت امامي افاق واسعة.. افاق الادب الروسي الذي هو باعتراف اكبر نقاد العالم في قمة الاداب العالمية عندما اطلعت على هذا الادب الجميل الواسع الغنى الزاخر ولدت في رغبة هائلة في ان انظم الشعر كما ينظمه الروسي، ان اكتب القصة كما يكتبه الروسي.. وهكذا بدأت انظم الشعر باللغة لروسية.. وكانت من اولى القصائد التي نظمتها باللغة الروسية قصيدتي التي ترجمتها فيما بعد الى اللغة العربية.. قصيدة النهر المتجمد.. اذكر اني نظمت هذه القصيدة بمناسبة مكوثي شتاء كاملا في قرية من قرى الولاية التي ادرس فيها وهذه القرية كانت قائمة على ضفاف نهر يدعى نهر "سوللا".. وتعرفون ان في روسيا البرد فارس والشتاء طويل وهذا النهر كان يتجمد في الشتاء بحيث يصبح في استطاعة عربات الخيل والرجال والنساء.. الخ.. ان يمروا على الجليد كما تمر الان على الاسفلت، واتفق لي ان قطعت ذلك النهر ذهابا وايابا عدة مرات على الجليد.. فاستوقفتني هذه الفكرة ان هذا النهر امس كان بكر.. امس يجري .. امس كان يغني .. امس كان ينشد.. والان تجمد فلا تسمع له صوتا ولا تبصر له وجها الا هذه الصفحة من الجليد التي تغطي وجهه.. فنظمت هذه القصيدة باللغة الروسية.. وختمتها بخطاب اوجهه الى الشعب الروسي ذاته..
ولا بأس اذ ان ذكرت هذا الامر لابين لك شعوري عندما كنت شابا.. شعور الالم الذي كنت اعانيه لمجرد نظري الى شعب مظلوم.. الشعب الروسي كان يعاني من الالام ما لايطاق.. شعب لم يكن له اي حقوق وفي الاخص الفلاحين والعمال.. وهذا الشعور تولد عندي انه من الحرام لهذا الشعب الذي يتعب والذي يكدح.. ان يعيش عيشة زرية كالعيش الذي كان يعيشه في روسيا. لذلك ختمت قصيدتي في خطاب الى روسيا بل ما اختمه بالعربية غيرت النهاية وانهيت القصيدة بخطاب اوجهه الى قلبي.. وكنت في خطابي للروس اقول:
لابد ان الربيع سيأتي للنهر وسينفك النهر من عقالاته ويعود فيكر الى البحر.. الخ.. فيغني .. اما انت يا روسيا متى ياتيك الربيع؟ متى تبصرين شيئا من الانفراج؟ .. متى تبتسمين؟.. متى تزهر ايامك؟ متى يتفوق الشعب البسيط الفقير هنا شيئا مما يمكن ان تدعوه السعادة؟..
ثم اجيب عن روسيا وروسيا لا تجيبني.. اقول لها انت لا تجيبيني يا روسيا.. نامي يا حبيبتي.. اما بالعربية فاختتم القصيدة بخطاب اوجهه الى قلبي فاقول: ان قلبي غدا كالنهر.. النهر سينفك من عقاله اما قلبي فلا..
مع الشكر الجزيل استاذ.. على ذكر قصيدة النهر المتجمد.. نذكر اخي.. ونذكر همس الجفون، ونذكر الروائع الاخرى.. بدأتم شاعرا ناقدا.. ترى لم تركتم الشعر والنقد الى القصة والمقالة؟
بدأت كما ذكرت بالشعر.. ثم انتقلت الى النقد بعد ان انتقلت الى الولايات المتحدة الامريكية.. وكانت الظروف دفعتني الى الكتابة لاني انقطعت عن العالم العربي بتاتا عندما كنت في روسيا.. واذا بمجلة تأتيني من صديق قديم لي ورقيق في الناصرة اسمه "نسيب عريضة" عندما اتصل بي تذكر رفيقه القديم في الناصرة وقال هات ابعث لنا بمقال وكان ان صدر في ذلك الزمان اظن كتاب جبران "الاجنحة المنكسرة".. طلب الي رأي.. قرأت عن الاجنحة المنكسرة تقاريض عديدة في الصحف العربية في المهجر في ذلك الزمان..
انا كنت بعيدا عن نيويورك.. كنت في الطرف الغربي من الولايات المتحدة.. وجبران كان في نيويورك في الطرف الشرقي.. ولم اكن اعرف جبران في ذلك الوقت وجبران لم يكن يعرف عني شيئا.. قرأت كتاب جبران الاجنحة المنكسرة وقارنته بالادب كما فهمته في روسيا.. فوجدته بعيدا جدا عن المستوى الذي كنت قد ادركته انا بذهني وقلبي.. انه محاولة رومانطيقية فيها كثير من الوصف وفيها الكثير من التفجع ولكن لا يمكن ان تدعوه قصة او رواية، انه شيء من الشعر.. لذلك كتبت اول مقال نقدي كان عن الاجنحة المتكسرة لجبران. عندما بلغ المقال نيويورك واطلع عليه جبران ضرب كفا بكف وقال لنسيب عريضة: اين كان هذا الرجل ميخائيل نعيمة؟.. لمذا لم نسمع به قبل الان؟ .. هذا يعرف كيف يكتب.. هذا يعرف كيف ينقد..
وذلك كان بدء حياتي النقدية.. حياتي في النقد، واخذت ابدع في النقد لانه كان من الضروري ان اشق لي طريقا.. لاعطي ادبا جديدا.. الادب التقليدي.. في العالم العربي في ذلك الوقت.. كان ادبا باهتا جامدا لا حياة فيه ولا صلة بينه وبين الحياة التي يحياها الناس.. لذلك كان من دوافعي الاولى ان امهد الطريق ان اقتطع تلك الاشواك وان افتت تلك الصخور التي كانت تملأ الطريق وادل الناس على نهجي الجديد ادل الناس على ادب حقيق كما فهمته انا.. ولذلك انطلقت في النقد.. وكانت مهمتي الاولى كما قلت ان ادل العالم على الادب الحي على المعنى الجديد للادب، وعندما انتهيت من هذه المهمة بنهاية كتاب "الغربال" شعرت ان العالم العربي اخذ يتذوق الادب بطريقة جديدة.. ولذلك تركت المجال لغيري اما انا فانصرفت في الطريق
الاخر.. انصرفت في طريق التفكير الجدي في الحياة واعماقها ومعانيها الى ما هنالك.
ثم استمر الاستاذ ميخائيل نعيمة يجيب على الاسئلة اجابة واضحة رقيقة بعبارات شيقة يفيض من خلالها عبير الذكريات العطرة ذكريات حياة ادبية حافلة بكل الوان الادب الرفيع ومن دواعي الاسف ان لا نوفق في الحصول على بقية الحديث في هذه الندوة التاريخية.
مجلة الاذاعة والتلفزيون 1962