(ذاكرة القراءة).. وانشغالات حسب الله يحيى الفكرية

(ذاكرة القراءة).. وانشغالات حسب الله يحيى الفكرية

عادل العامل
ينطوي كتاب (ذاكرة القراءة) للكاتب العراقي المعروف حسب الله يحيى، و الصادر حديثاً عن دار آراس للطباعة و النشر بأربيل، على انطباعات الكاتب و متابعاته النقدية طوال مسيرته الأدبية. و تتناول هذه الانطباعات و المتابعات عدداً كبيراً من الظواهر الثقافية و أعمال الأدباء العراقيين و العرب و العالميين،

مما يدلّل بشكل واضح على شغف المؤلف بالنتاج الثقافي، و شعوره بالمسؤولية تجاه ما تبدعه أقلام الأدباء، و حرصه على تنوير القاريء المثقف بتجليات الإبداع الموفق و نقاط الضعف لدى مَن لم يوفقه الحظ من الكتّاب في تقديم ما هو أفضل، و في ذلك بالتأكيد فائدة للكاتب و للقاريء معاً.
عُرف حسب الله يحيى في السبعينيات بنشاطه الدؤوب في مجال الكتابة الصحفية و القصة القصيرة و المتابعات النقدية المستندة على ذائقته الأدبية، و ثقافته، و رصده للواقع الاجتماعي المضطرب من حوله، إضافةً إلى توجيهات أبيه، الرجل الأمي المثقف “ الذي كان يحفظ جميع قصائد المعري بإعجاب شديد “، كما يقول عنه حسب الله في إحدى المقابلات. و كان للوضع العام في الستينيات و أحواله الأسرية و اتجاهات أخيه الدور الأساسي في تكوين فكره السياسي و الثقافي التقدمي، الذي جر عليه كما على كثيرين مثله ملاحقات النظام البعثي القمعي بعد انقلاب شباط 1963 الأسود، بل و كان هناك مَن “ حرض على قتلي، أو اعتقالي في أحسن الأحوال! و كنت آنذاك قد نشرت مجموعتي الأولى (الغضب)، فاضطررت لسحبها من المكتبات فوراً وتوزيع نسخها على أصدقائي. وعلى وجه السرعة وجدتني ملاحقاً مشرداً.. يحمل معه همومه ويرحل إلى بغداد حيث بدأت اعمل في شتى المهن ضماناً لعيش صبي وحيد. ولم يكن مقبولاً دخول أمثالي من “ الصبيان “ إلى اتحاد الأدباء.. فكنت أتسلق الجدار واجلس متخفياً وراء الأشجار استمع إلى المتحدثين.. وواصلت كتابة القصة والمقال والدراسة المسائية والعمل في البناء نهاراً “، كما جاء في حديثه في المقابلة الآنفة الذكر.
و من هنا جاء اهتمامه الفكري بنوع الكتابات التي ظل يرصدها طوال الفترة الماضية من عمره، و كذلك الأسماء التي شغلته ــ غارسيا ماركيز، أرنستو ساباتو، كونديرا، ميشيما، محفوظ، عبد الرحمن منيف، الطاهر وطّار، مهدي عيسى الصقر... و لم يكن الاسم بالتأكيد هو الدافع وراء الكتابة عن العمل الأدبي، كما يحصل للعديد من النقّاد، و إنما ما وراء الاسم من تجربة غنية و تميّز و إبداع. فالنقد لديه “ هو الثقافة البناءة التي لا تعتمد المعلومة إلا لكي تهضمها وتعيها وتدركها وتناقشها. فأنا ضد التلقين والمعلومة الجاهزة.. فتلك موجودة في الكتب والقواميس وصارت متوفرة في الانترنت.. ولا أعد الجماعات التي تعتمد الحفظ والتلقين مثقفة، وإنما جامعة.. لانها لا تحمل موقفاً نقدياً أزاء ما جمعته وحفظته. المثقف الناقد.. هو الإنسان البنّاء الذي يحتاج إليه المجتمع الذي ينشد التطور والازدهار “.
و هو يقول في أحد مقالات (ذاكرة القراءة) و عنوانه نقد الحداثة: إن حداثة أي مجتمع على وفق ذلك مرهونة بعقله.. بعقل عقلائه الذين ينتمون إليه على نحو صميمي مخلص، ومن دون ذلك تتحول الحداثة إلى تجريدات منعزلة ومضادة للقيم الاجتماعية وهو ما يجعلها عرضة للنقد وللرفض في أحيان كثيرة.
وإذا كان ديكارت يقول: “ان الأحياء يتحكم فيهم الأموات: هذا هو القانون الأساسي للعقل” فان هذا يعني ان وجودنا مرهون بالذين سبقونا.. بأولئك الأموات الذين تركوا بصماتهم علينا ثم رحلوا.. وانه ليس بمقدورنا مغادرتهم والبدء من الصفر.
وإذا كان ميشيل فوكو – كما نقل عنه الآن تورين – يرى في تحقيق الذات.. خضوعاً، فان تورين يرى ان “فكرة الذات بوصفها مبدأ أخلاقياً تتعارض مع فكرة سيطرة المجتمع على العواطف الموجودة منذ افلاطون وحتى ايديولوجيي الاختيار العقلي، وهذا ما يتعارض مع مفهوم الخير كأداء للواجبات الاجتماعية “ان الذات فاعلية وعي، وارادة حاضرة، لا يسهل تغييبها عن فاعلية الحداثة في شتى الحقول.
وإذا كانت الحداثة قد أدت دوراً أساسيا في الأعوام من 1890 إلى 1930 فان هذه المدة حصراً تمثل التاريخ الذي تحدد به مسيرة الحداثة.. على الرغم من ان الحديث عنها جاء بشكل مكثف في الحياة الثقافية العربية على نحو متأخر.. الأمر الذي جعل منها وكأنها موضة يمكن ان تنحسر لاحقاً لتأتي (موضة) جديدة في اعقابها.. وهذا ما نشهده راهناً في الحديث عن ما بعد الحداثة.. ان “الفرد لا يصبح ذاتاً منتزعاً نفسه من الماهية، إلا إذا عارض منطق السيطرة الاجتماعية باسم منطق الحرية والإنتاج الحر للذات..” بينما يراد له ان يعيش في عقل وقلب ومنطق وارادة حياة اجتماعية كلية.. بازاء ذلك يرى تورين ان “الإنسان السوسيولوجي لا تقوده مصلحته، ولكن ما ينتظر منه: الأب هو من يتصرف حسب ما يتوقع الابن ويأمل..” بمعنى ان يكون التفكير مستقبلياً.. على الرغم من ان تورين كان يفتقد الثقة بالمستقبل والتقدم.. فهو يقول: “لم نعد نؤمن بأن الثراء يقود إلى تحقيق الديمقراطية والسعادة، لقد ذهبت الصورة التحريرية للعقل..”.
انه يختتم كتابه بالقول: “ان الحداثة رافضة لكل أشكال الشمول، والحوار بين العقل والذات، ذلك الحوار الذي لا يمكنه ان ينقطع ولا ان يكتمل” هو الذي يحتفظ بطريق الحرية مفتوحاً”.
ان هذا اللاانقطاع و اللااكتمال في الحوار.. هو الذي يجعل من الحداثة قوة فاعلة، ومناراً لما قبلها وما بعدها.. ذلك ان جدل العقل قائم وحوار الفرد مع المجتمع باقٍ.. وصحوة الوجود بهية في ذهنية ترى الأشياء بوضوح تام..

نقد الحداثة
شاع مفهوم الحداثة في حياتنا الثقافية خلال الأعوام العشرة الأخيرة، في وقت أفل هذا المفهوم في الثقافة الغربية.
ومع ان حالة التأثير – وأحيانا التقليد المسخ - قائمة بكل سلبياتها وايجابياتها، إلا ان الجدل بشأن الحداثة وسواها من المفاهيم ما زال قائماً.. انطلاقاً من ان الجدل ضرورات الفاعلية الثقافية ويأتي كتاب”نقد الحداثة”: “لألن تورين معبراً عن وجهة نظر سياسية أكثر منها عن وعي اجتماعي، ويتأكد هذا عندما نعرف ان تورين كان وثيق الصلة بالحزب الاشتراكي كما كان مستشاراً لميشيل روكار رئيس الوزراء الفرنسي (1988-1991). وهو مثل: غارودي والتوسير في انتمائهما إلى الحزب الشيوعي الفرنسي الذي القى ظلاله على نشاطهما العلمي وطروحاتهما العلمية والفكرية.
ومع اننا لا يمكن ان نعزل علم السياسة عن العلوم المعرفية الأخرى إلا اننا نرى في الثقافة حضورها أكثر بلاغة وتأثيراً وهيمنة من السياسة، بل ان الثقافي يحتوي السياسي ويصبح كلاً منصهراً فيه، يقول أنور مغيث – مترجم الكتاب – في تقديمه: “لقد اكتشف تورين بفضل اقامته في أمريكا اللاتينية وشيلي، على وجه الخصوص، ان علم الاجتماع الغربي الكلاسيكي ليس فعالاً في دراسة مجتمعات العالم الثالث” وتتوضح هذه النظرة، إذا ما علمنا ان تورين يعتقد بأن: “هدف المسيرة الاجتماعية الحديثة هو تحرير الذات” التي هي “عنده ليست مطابقة لمفهوم الفرد كما هو معروض في فلسفة جون لوك السياسية، والتي تنظر إلى الأفراد كجواهر منعزلة مثل الذرات المادية في فيزياء نيوتن، تدخل فيما بينها في علاقات جذب وطرد، ولا هي الارادة الجماعية عند روسو والتي تذوب فيها ارادة الأفراد.. ولكنها تتجسد لديه في مفهوم الفاعل الاجتماعي، وهو المفهوم الذي يجعل العلاقة الاجتماعية بعداً أصيلاً في الفرد. ان الذات هي (أسم الفاعل) “عندما يكون مستوى الفاعلية التاريخية لانتاج توجهات كبرى معيارية للحياة الاجتماعية”.
من هنا نجد تورين يرى في (الحداثة) “حضوراً جوهرياً في افكارنا وممارساتنا منذ ثلاثة قرون” وهو الأمر الذي يجعله اليوم يقوم بمراجعتها مراجعة سوسيولوجية ضمن عرض نقدي يشمل السياسة والاقتصاد والفلسفة وعلم النفس.. ضمن مبحث مفصل يغوص عميقاً في جذور الفكر حتى يتبين ظهور الفكرة وازدهارها ثم أفولها وابتعادها عن وظيفتها الاجتماعية..
ان فكرة الحداثة الطموحة عند تورين تعني: “التأكيد على ان الإنسان هو ما يفعله” من دون ان يشير إلى ان هذا الفعل قائم على دراية وعلى جذر ثقافي واجتماعي لا يمكن للفرد الانسلاخ عنهما كلياً.
ومن هنا كانت هذه الفكرة تسعى لـ”تدمير النظم القديمة وانتصار العقلانية” وهذا لا يعني انها قد “فقدت قوتها في التحرر وفي الإبداع” وانها “لا تستطيع الصمود أمام القوى المتعارضة” بل اننا نرى في الحداثة، محاولة قائمة على التغيير العقلاني الموجه، وحين افتقدت عن هذا الهدف وقعت في الغيبيات والمتاهات واللاجدوى مما جعل (نقدها) يشكل مشروعاً ثقافياً جديداً جاء في اعقابها وانطلق من اشلائها.
يقول الأن تورين: “من المستحيل ان نطلق كلمة حديث على مجتمع يسعى قبل كل شيء لأن ينتظم ويعمل طبقاً لوحي الهي أو جوهر قومي، وليست الحداثة أيضاً مجرد تغيير أو تتابع أحداث: انها انتشار لمنتجات النشاط العقلي: العلمية، التكنولوجية، الادارية، فهي تتضمن عملية التميز المتنامي لعديد من قطاعات الحياة الاجتماعية..”
بإزاء ذلك هل يمكننا ان نجد في الحداثة “استبعاداً عن أي غائبة” وهل من ضرورة للعناية بأي مفهوم أو توجه ثقافي وفكري إذا ما كان مفتقداً الغائية..؟ ان الغاية إحدى المهمات الأساسية للبحث عن منطلقات جديدة للعمل وذلك بهدف تحقيق غايات يتطلبها الواقع الاجتماعي، وكل توجه يفتقد الغاية، يفتقد الحياة ومآله النهاية.
ان ديدرو الذي يؤكد عليه تورين يقول في كتابه (مقال في الجدارة والفضيلة): الإنسان مستقيم وفاضل عندما يلزم أهواءه، دون أي دافع دنئ أو ذليل في مكافأة أو خوف من عقاب، بالمعاونة على تحقيق المصلحة العامة للنوع الإنساني”.
ومعنى هذا ان ما يلحق أو يؤثر في الإنسان لاحقاً هو الذي يهيمن على سلوكه وتوجهاته ويتحكم في مسيرة حياته وكل هذا مرهون بالزمن والبيئة وحداثة كل شيء يواجهه يوميا..
ومن هنا يجد تورين في مفهوم الحداثة الذي بلوره فلاسفة التنوير: “مفهوماً ثورياً” وانه: “يشعل الكفاح ضد المجتمع التقليدي أكثر من كونه يلقي الضوء على آليات عمل مجتمع جديد”.
اذن الحداثة، انقلاب على ما هو تقليدي وساكن في الحياة، باتجاه البحث عن أفق أفضل للفرد والمجتمع.. لتصبح فكرة تقود إلى “نظام اجتماعي عقلاني”.. ومثل هذا النظام يحتاج إلى: “ان يتعايش الذات والعقل في الكائن الإنساني” ذلك ان.. الفكر الإنساني “السائد في الحداثة الوليدة ليس هو الذي يختزل الفكرة الإنسانية إلى مجرد الفكر والعقل الأداتين، وليس هو أيضاً الفكر الذي يدعو إلى التسامح بل وحتى إلى الشك.. ولكنه فكر ديكارت ولكن ليس لأنه فارس العقلانية، ولكن لأنه يجعل الحداثة تسير على قدمين واثقتين..”.
والقدم الواثقة، قدم تؤكد حضورها على مستوى العقل وفاعليته، وليس مجرد رؤى فنطازية تعتمد اللامألوف أو التجريد بعيداً عن المجتمع.. ان الحداثة عند تورين تعتمد على المعرفة العقلانية للقوانين وعلى الارادة والحرية.. وذلك يعد “الإنسان جزءاً من الخلق وخاضعاً للحقيقة في آن واحد الأمر يؤكد ان الأخلاق ينبغي ان تخضع لفكرة المصلحة العامة وتتمثل الأفكار الرئيسة لهذا التيار في العقد والالتزام، والحق كطاعة للقوانين” اذن: الحداثة تعمل في صميم القيم، وليست على الضد منها أو تغييبها.
ان حداثة أي مجتمع على وفق ذلك مرهونة بعقله.. بعقل عقلائه الذين ينتمون اليه على نحو صميمي مخلص، ومن دون ذلك تتحول الحداثة إلى تجريدات منعزلة ومضادة للقيم الاجتماعية وهو ما يجعلها عرضة للنقد وللرفض في أحيان كثيرة.
وإذا كان ديكارت يقول: “ان الاحياء يتحكم فيهم الأموات: هذا هو القانون الأساسي للعقل” فان هذا يعني ان وجودنا مرهون بالذين سبقونا.. بأولئك الأموات الذين تركوا بصماتهم علينا ثم رحلوا.. وانه ليس بمقدورنا مغادرتهم والبدء من الصفر.
وإذا كان ميشيل فوكو – كما نقل عنه الآن تورين – يرى في تحقيق الذات.. خضوعاً، فان تورين يرى ان “فكرة الذات بوصفها مبدأ أخلاقياً تتعارض مع فكرة سيطرة المجتمع على العواطف الموجودة منذ افلاطون وحتى ايديولوجيي الاختيار العقلي، وهذا ما يتعارض مع مفهوم الخير كأداء للواجبات الاجتماعية “ان الذات فاعلية وعي، وارادة حاضرة، لا يسهل تغييبها عن فاعلية الحداثة في شتى الحقول.
وإذا كانت الحداثة قد أدت دوراً أساسيا في الأعوام من 1890 إلى 1930 فان هذه المدة حصراً تمثل التاريخ الذي تحدد به مسيرة الحداثة.. على الرغم من ان الحديث عنها جاء بشكل مكثف في الحياة الثقافية العربية على نحو متأخر.. الأمر الذي جعل منها وكأنها موضة يمكن ان تنحسر لاحقاً لتأتي (موضة) جديدة في اعقابها.. وهذا ما نشهده راهناً في الحديث عن ما بعد الحداثة.. ان “الفرد لا يصبح ذاتاً منتزعاً نفسه من الماهية، إلا إذا عارض منطق السيطرة الاجتماعية باسم منطق الحرية والإنتاج الحر للذات..” بينما يراد له ان يعيش في عقل وقلب ومنطق وارادة حياة اجتماعية كلية.. بازاء ذلك يرى تورين ان “الإنسان السوسيولوجي لا تقوده مصلحته، ولكن ما ينتظر منه: الأب هو من يتصرف حسب ما يتوقع الابن ويأمل..” بمعنى ان يكون التفكير مستقبلياً.. على الرغم من ان تورين كان يفتقد الثقة بالمستقبل والتقدم.. فهو يقول: “لم نعد نؤمن بأن الثراء يقود إلى تحقيق الديمقراطية والسعادة، لقد ذهبت الصورة التحريرية للعقل..”.
انه يختتم كتابه بالقول: “ان الحداثة رافضة لكل أشكال الشمول، والحوار بين العقل والذات، ذلك الحوار الذي لا يمكنه ان ينقطع ولا ان يكتمل” هو الذي يحتفظ بطريق الحرية مفتوحاً”.
ان هذا اللاانقطاع و اللااكتمال في الحوار.. هو الذي يجعل من الحداثة قوة فاعلة، ومناراً لما قبلها وما بعدها.. ذلك ان جدل العقل قائم وحوار الفرد مع المجتمع باقٍ.. وصحوة الوجود بهية في ذهنية ترى الأشياء بوضوح تام..