حسين جميل
سياسي وقانوني راحل
الطفولة والصبا
ولدت في 8 شباط سنة 1908 في كربلاء. في دار جدي احمد جميل وكان حينذاك قاضيا فيها. ومن الصدف ان والدي عبد المجيد جميل عندما نقل من العمارة الى كربلاء حاكما منفردا (قاضيا) في اواخر سنة 1921 سكن في الدار ذاتها التي كان قد سكنها جدي،
وهي تقع في شارع العباس وقد ولدت والدتي اخا شقيقا لي. قالت لي انه ولد في نفس الغرفة التي ولدت فيها وفي نفس الموقع من الغرفة. سمي شقيقي "حسن" ولم يعش الا اقل من عام، حيث توفي في العمارة،وكان والدي قد نقل اليها.والمرض الذي توفي به هو اسهال الاطفال.
ان اول ما تعيه ذاكرتي الآن هو سفري مع اهلي من بغداد الى النجف سنة 1913 وكنت بعد ابن الخامسة من العمر. لكأن تفلصيل ذلك الحدث لا تزال حية في ذهني، ربما لما كان فيها من اثارة وخروج عن الحياة الرتيبة،الهادئة، التي كانت تسود بيتنا في محلة قنبر علي،كماكما كان شأن حياة اغلب الناس في اغلب البيوت. ولقد كانت سفرة مثيرة حقا ومتنوعة كذلك.بدأت الرحلة من جانب الكرخ حيث كانت تقف عربة خشبية كبيرة نسبيا، وهي على شكل صندوق كبير مستطيل في مقدمته دكة يجلس عليها العربجي. وكانت تلك العربة يجرها حصانان، لكن كان هناك حصانان آخران مربوطان خلف العربة فأثار ذلك استغرابي، ثم ادركت عند المسير انهما كانا يتبادلان موقع الجر مع الحصانين الاماميين بين فترة واخرى. وفي ذلك ما فيه استراحة نسبية للدواب. دخلت واسرتي الى العربة من باب يفتح من خلفها حيث توجد دكتان من الخشب على طول ضلع العربة تقابل احداهما الاخرى، والدكة معدة لجلوس الركاب وتتسع لأربعة ركاب، وربما اكثر إن كانوا صغارا، فسعة العربة ثمانية من الكبار يحشر معهم بعض الصغار ان وجدوا.اما امتعتهم فقد ربطت بما فيها من صناديق وحقائب فوق سقف العربة.
كنت اسمع في ذلك الحين ان تلك العربات تسمى "عرباين بيت جودي" ولكني عرفت بعد سنين ان بيت جودي انما كانوا يتولون ادارة واسطة النقل هذه،فهي عربات كان يملكها بيت عارف أغا، وهي عائلة ثرية معروفة في بغداد.
كانت العربة تطوي بنا ارضا صحراوية في الربيع، لأن الفرات كان مرتفعا بدرجة اقرب للفيضان، وبين حين وحين تتوقف العربة وتجري المبادلة بين الحصانين الاماميين والحصانين الخلفيين، وكانا اصلا متعبين ايضا من خببهما المقيد والذي ان يتوافق مع الايقاع الحر،المكبوت الصوت، للحوافر التي تضرب التراب في مقدمة الركب. ثم وصل الركب الى مدينة على النهر،عرفت بعد ذلك انها "المسيب" على الفرات، فقضينا ليلتنا في غرفة محاطة بالخشب المخرم وهي التي تسمى "شناشيل" في بيت يطل على النهر ذاته،وعرفت بعد حين انه بيت يعود لعائلة في "المسيب" تسمى "بيت الشيوخ" (منها عبد الهادي صالح الذي كان نائبا عن "المسيب" في مجلس النواب لعدة دورات من سنة 1947 حتى 1958، وعبد علي حسن في سنة 1948).
وبعد مبيت تلك الليلة، استقل اهلي، وانا معهم، سفينة شراعية، ركبوها من سدة الهندية. وما ان تهاوت السفينة في النهر قليلا حتى هبت عاصفة اضطرتها ان ترسوا بجوار الشاطىء.وترجل منها ملاحوها فربطوها بحبال شدت حول جذوع النخيل على الساحل. ولكن اشتدت العاصفة ادى الى انقطاع الحبال،ولا زال اذكر منظر الهلع الذي اصاب ركاب السفينة وهم يرفعون ايديهم بالدعاء،مبتهلين الى الله بان يدرأ عنا الخطر. وبعد ان هدأت العاصفة واصلت السفينة سيرها الى الكوفة ومنها انتقلنا الى النجف.
واذكر مسكن طفولتي الذي شغله والدي في النجف، خاصة بعد ان زرت تلك المدينة سنة 1932، فعثرت عليها. والأمر الذي ساعدني على تذكر موقعها انها كانت قريبة من ميدان كبير قريب من مدخل السوق المؤدي الى مرقد الإمام علي. وقد بنيت في ذلك الميدان فيما بعد المدرسة الثانوية.
ويعود سبب إنتقالنا من بغداد الى النجف إلى تعيين والدي عبد المجيد جميل مستنطقاً هناك ،وهي وظيفة قضائية تقابل وظيفة حاككم التحقيق .ذلك أن والدي كان قد درس في الإبتداء علوم العربية والفقه الإسلامي على علماء بغداد ،وهي العلوم التي كان يصطلح على تسميتها ب "علوم الجادة "فأجيز فيها من قبل أولئك العلماء .وقد تمت دراسته تلك اتباعاًلما كانت تجري عليه العادة في الأسر الدينية في ذلك العهد .فلما فتحت مدرسة الحقوق اول ما فتحت في بغداد في أول أيلول 1908 إنتسب إليها والدي .كان نظام مدرسة الحقوق آنذاك يقضي بأن يقبل فيها خريجو الدراسة الإعدادية .ولكنها تسمح في الوقت ذاته لأي شخص بحضور الدروس بصفته مستمعاً دون التقيد بإبراز الشهادة الإعدادية .فإذا نجح هذا المستمع في السنة الأولى تغير مركزه فأصبح طالباً في الصف الثاني كالطلاب الآخرين .أما إذا رسب فلا يحق له الدوام بعد ذلك وعليه أن يترك المدرسة .كان والدي واحداً من أولئك المستمعين ،وقد نجح في امتحان السنة الأولى فأصبح طالباً نظامياً في المدرسة بدءاً من السنة الثانية حتى تخرجه فيها سنة 1912. وكانت الدراسة فيها باللغة التركية ،بموجب الكتب التي كانت ترد من الآستانة ،وهي ما يدرسه طلاب الحقوق في العاصمة العثمانية ،وكانت الامتحانات شفهية باستثناء مواد قليلة معينة تتطلب بطبيعتها ان تكون تحريرية كالصكوك المدنية والجزائية ، ومدة الدراسة أربع سنوات .كان فد تحدث عن نظام القبول هذا في مدرسة الحقوق وأصول التدريس فيها المرحوم محمود صبحي الدفتري ، إذ كان قد أدلى بحديث صحفي لجريدة الأهالي البغدادية في أيلول 1960 بمناسبة الذكرى الثانية والخمسين لتأسيس كلية الحقوق العراقية ،وكان الدفتري من خريجي الإعدادية فتسجل كأول طالب في مدرسة الحقوق ،وذكر من بين المستمعين فيها والدي عبد المجيد جميل .
ما إن تخرج والدي حاملاً شهادة الحقوق حتى تعين في سلك القضاء ،وكانت الوظائف
القضائية من المراكز المرموقة والمجزية أيضاً بمرتبها .ولهذا فقد تجول في أنحاء متعددة من البلاد ،مع أسرته في أغلب الأحيان ، ولوحده في احيان أخرى .فنجده في مطلع حياته العملية مستنطقاً في النجف سنة 1913 ، ثم نجده عضواً في محكمة بداءة (بعقوبة) في بواكير الحرب العالمية الاولى ثم حاكماً في محكمة (السليمانية )عندما انتهت تلك الحرب وعقدت الهدنة بين الدولة العثمانية والحلفاء في 30 تشرين الأول (اكتوبر)سنة 1918 .وبعدها يعود والدي إلى بغداد ليمارس المحاماة زمناً قصيراً وليعين بعدها في صيف 1919 بوظيفة حاكم صلح في مدينة (العمارة ) جنوبي العراق على دجلة ، براتب شهري قدره أربعمائة روبية (والروبية عملة هندية دخلت العراق مع جيوش الإنكليز الفاتحة وتساوي 75 فلساً بالعملة العراقية ) . وبعد فترة قصيرة من تعيينه ذاك رفع إلى عنوان "حاكم منفرد العمارة " براتب سبعمائة روبية شهرياً ، أي ما يساوي 52 ديناراً ونصف .كان هذا المبلغ في ذلك الحين مجزياً لرخص الأسعار وبساطة العيش .
وهكذا ،بحكم طبيعة عمل والدي ،قطنت في صباي وأنا بصحبة والدي والأسرة ،في النجف اولاً ،ثم في "بعقوبة " وبعدها في "العمارة " وأذكر أسفاري
إلى تلك الأصقاع التي تعتبر آنذاك نائية لأن وسائل المواصلات والطرق لم تكن قد تطورت بعد .كنا ننتقل مثلاًبين بغداد و"بعقوبة " بسيارات كبيرة الحجم ، كانت تنطلق من " خان مشعل " في محلة "قرة شعبان في الشارع الذي يسمى اليوم شارع الشيخ عمر . وتنطبع صورة مدينة "بعقوبة " في ذهني بسوقها وشوارعها وطرقها ،يخترقها "نهر خريسان " وكانت الدار التي سكنها والدي تقع على شارع يحاذي هذا النهر ،وهي من طابقين وفيها حديقة واسعة ،واعجب ما أذكره عن تلك الدار وجود ساقية تخترقها وهي تتفرع من النهر فتمر بالدار مسقوفة بمشبك حديدي لتخرج منها الى مزرعة ِ ما أو بستان .
و كان انتقالنا بين بغداد و "العمارة"يتم بواسطة "المركب" فقد كانت المواصلات الاعتيادية بين العاصمة و الثغر (البصرة)تتم بالباخرة، وكانت تعمل على هذا الخط شركتان للبواخر، الاولى شركة انكليزية هي بواخر "بيت لنج" والثانية بواخر "بيت الخضيري"، وبيت الخضيري عائلة عراقية ثرية تشتغل بالتجارة. واذكر، وان ابن الحادية عشرة،سفرنا الى "العمارة" بواسطة احدى بواخر بيت الخضيري، كان اسمها "سالمي"كما انتقلنا في هذه الباخرة بالذات بين بغداد و"العمارة" ذهابا وايابا مرات عديدة الى سنة 1923، ولعل المصادفة كانت تسوقنا الى الباخرة "سالمي" دون غيرها،لكن الارجح ان اختيارها كان امرا مقصودا،فالقبطان فيها هو "القبطان حمد" من "الحديثة" وكان له قرابة مع اخوال عبد المجيد جميل،اذ ان والدته،شمسة بنت داود الدلي،هي من بيت جعفر بن شمر في "حديثة"، فكان القبطان حمد يراعي راحة هؤلاء الركاب من اقربائه عند سفرهم على باخرته.
كانت السفره من والي "العماره "تستغرق حوالي عشره ايام ،والباخره تقف في كل مدينه ،صغيره كانت ام كبيره ،والركاب ينزلون في كل مدينه لشراء حاجاتهم منها .وكانت الباخر تسحب معها دوبتين (جنابيتين)،في كل جانب منها دوبه وهيتحمل البضائع التجاريه ،ولا سيما الحبوب.حيث كانت اسرتي تستقر في بغداد، سواءكان والدي موجودا معها في العاصمه، أوكان يعمل لوحده خارجهافي "السليمانيه "مثلأ ،فإنها كانت تسكن دار جدي ،وهوأحمد جميل.وكان جدي هذا قاضيا أيضأ،عمل اولاًفي بعض الاقضية مثل "عانة "و "الشطرة" ثم في مراكز الألوية ،مثل "الناصرية" وكربلاء .وحين كان يغادر العاصمة كانت داره في بغداد ،والواقعة في محلة قنبر علي، تظل مفتوحة لسكنى ولديه عبد الجبار وعبد المجيد وأسرتيهما. أما ولده البكر عبد الجليل فكان يسكن في محلة "الحيدر خانة "بجوار الدار التي تسكنها اسرة زوجته، وهي من بيت البرزنجي. لذلك فأني عشت في ظل اسرة قضائية منذ نعومة اظفاري.فجدي لابي من القضاة الشرعيين، ووالدي من الحكام المدنيين ، وعمي عبد الجبار أيضاً كان يشغل في بغداد منصب رئيس محكمة البداءة وذلك حين سكنت عنده عائداًمن "العمارة" لدخول الثانوية في العاصمة .وقد توفي جدي أحمد جميل قبل سقوط بغداد بيد الجيش البريطاني بستة أشهر .فلما مات لم تعد داره تجمع أسرتي ولديه أذ انفرد كل منهما بدار مستقلة ،وكان والدي قد عاد من "السليمانية" وأذكر عندما كانت بغداد على وشك السقوط،أننا انتقلنا قبل فتحها بيوم أو يومين الى دار اخرى كان يملكها قريبنا فخري جميل ،من فرع عبد الغني ،الفرع الثري ،والدار تقع على النهر في الاعظمية .أنذاك تعتبر بعيدة عن العاصمة .وكانت تلك الدار التي انتقلنا اليها تسمى قصراً في مصطلح تلك الأيام . وكان الإنتقال إليها إنما جرى طلباً للامن ولتجنب أعمال الفوضى التي قدر أنها قد تقع في بغداد في الفترة بين إنسحاب الجيش العثماني و دخول الجيش البريطاني .ولكن مكوث الأسرة في القصر لم يدم إلا أياماً معدودات ،إذ ما إن دخل الجيش البريطاني بغداد حتى عادت أسرتي إلى دارها في بغداد ،ثم ما لبثت أن إنتقلت إلى دار لنا في بستان في قرية "عليبات " القريبة من "بعقوبة " وذلك للابتعاد عن أحداث الأيام الأولى للأحتلال . وما هي إلا مدة قصيرة حتى غادت الأسرة إلى بغداد مرة أخرى .
وكشأن أترابي آنذاك دخلت الكتاتيب ، والكتاب ماكان يسمى "لالة" على صفة الشخص الذي يديره وينعت "لالة" وفيها يجري تدريس مباديء قراءة القرآن بطريقة بدائية تعتمد الحفظ . والصبي الذي يروم أهله تعليمه يرسل أولاً إلى كتاب ،إذ لم تكن رياض الأطفال قد عرفت بعد .وكانت الكتاتيب تتخذ محلها عادةً في المساجد والجوامع .ولم أتعلم شيئاً من تلك الكتاتيب لسقم إسلوب التعليم فيها ،وكنت أضيق ذرعاً بها وأيوق لتغييرها .فكان لي ما أردت .إذ دخلت في أواخر سني ألحرب مدرسة رسمية كان موقعها بجوار حمام المالح من جهة محلة "ست هدية "،وهي قريبة من دارنا في محلة قنبر علي ، ثم سقطت بغداد بيد الجيش البريطاني في آذار 1917 فدخلت في السنة الدراسية 17-1918 مدرسة "باب الشيخ " الأبتدائية في صفها الأول .وكان مديرها هاشم الآلوسي وأحد معلميها السيد شاكر جاسم (وهو إبن خالتي) وقد أصبح كل من هذين الرجلين في عهد الحكم الوطني مدير معارف لواء . ثم إنتقلت في السنة الثانية الى مدرسة" الكرخ " الأبتدائية وكان مديرها إبراهيم عثمان وأحد معلميها أمين الخضار . اما في السنة الثالثة (19-1920 )فقد إنتقلت مع والدي إلى "العمارة "حيث أكملت دراستي الأبتدائية هناك في 22-1923.
ومن ذكرياتي أيام دراستي الإبتدائية في "العمارة " زيارة قام بها إلى هناك سنة 1920 السيد النقيب ،بصفته وزيراً للداخلية .فزار مدرستنا وكان إسمها "مدرسة الجنرال مود الأبتدائية في العمارة " وكان مديرها يدعى جورج ولا اذكر إسمه الكامل ،وكان هذا يرتدي "البرنيطة " فما كان من الزائر ألشهير السيد طالب إلا أن إعيرض على إريداءه ذلك الزي الأجنبي علناً أمام التلاميذ .لم يكن قد اتخذ حينذاك لباس رأس عراقي خاص بأفندية البلاد ،إذ لم يكن عهد الملك فيصل الأول قد بدأ بعد ،ولم تقرر "السدارة " إلا في عهده ،وكان الأفندية يرتدون قبل ذلك الطربوش التركي (الفينة).
ثم بنيت سنة 1921 مدرسة جديدة في العمارة في محلة "السنية " وسميت "مدرسة السنية الإبتدائية في العمارة " وجاء هذا الإسم نسبة إلى صفة الارض التي شيدت الأبنية عليها ،و "السنية" كانت هي أراضي السلطان العثماني ،فتسمى عقاراته "سنية
" وكانت تدار من قبل هيئة خاصة تدعى "إدارة السنية " .
بلغت الصف السادس الإبتدائي ،وهو الصف المنتهي ،سنة 1923 . وكان قد تقرر في السنة اللدراسية السابقة ان يكون امتحان الصف المنتهي للدراسة الابتدائية وزاريا، وينظر اليه برهبة يشوبها الاحترام. وقد تقرر اجراء الاماتحانات الوزارية مركزيا في ثلاث مراكز: هي بغداد والبصرة والموصل. وكانت البصرة مركز امتحاني الالوية الجنوبية، وبضمنها "العمارة" . فلما اقتربت السنة الدراسية الاخيرة من الانتهاءتهيأت لتلك السفرة. ثم انتدبت المدرسةاحد المعلمين، وكان خليل افندي "العزي"، مرافقة التلاميذ الى البصرة فلما رست احد البواخر بيت لنج في"العمارة" وكانت قادمةمن بغداد، استقليناها،نحن طلاب العمارة مع معلمنا في طريقنا الى البصرة، فوجدنا على متنها تلامذة مدرسة علي الغربي ومعلمهم،وكانوا في طريقهم لأداء الامتحان نفسه.
وواصلت الباخرة رحلتها، وكان اسمها "زنزبيا" وفي الطريق صعد اليه تلامذة مدرسة "قلعة صالح" ومعهم معلمهم. فلما وصلنا البصرة انزل جميع تلامذة وائي "المنتفك" و" اعمارة" في مدرسة "باب السيف". لكن الامتحان الوزاري جرى في مدرسة "السيمر" وكان تحريريا كانت تلك هي المرة الاولى التي ارى فيها مدينة البصرة، فبهرني جمالها وفتنني عمرانها فحببتها حبا جما. وغفالبا ما كنا نذهب بعد الانتهاء من امتحان اليوم الى "العشار" على ساح شط العرب وكان ذهغابنا بسيارات النقل وكانت تلك هي المرة الاولى التي اجرب فيها ركوب تلك الواسطة، ولعل هذا كان شأن جميع التلامذة الاخرين. كانت الواسطة سيارة صغيرة تتسع لاربعة ركاب فقط، اما التي انتقلت بها بين بغداد و"بعقوبة" قد كانت كبيرة تسمى " باص".
كانت تلك السفرة الى البيصرة وما تخللها من تجوال في شوارع الميناء والاسواق، خاصة اسوق العروف باسم سوق الهنود، اشبه بالسياحة رغم عناء الامتحانات. ولما فرغنا من الامتحانات عدنا لمدننا فرجع طلاب "العمارة " بالواسطة نفسها اتي جاءوا بها على باخرة من بواخر بيت لنج، وكانت اما "زنوبيا" او "زبيدة" اعلنت نتائج الامتحانات الوزارية في اواسط العطلة لصيفية، وكان قد كتب عى بعض شهادات النجاح "ناجح باستحقاق"، وفي بعضها الآخر " ناجح مناسب" وواضح ان هذه لتسمية تدل على مستوى النجاح.وكان سروري كبيرا عندما وجدت شهادتي وعليها "ناجح باستحقاق" واتضح فيما بعد ان امتياز مثل هذا النجاح هو منح الناجحين بأستحقق اسبقية القبول في الدراسات التي تلي الدراسة الابتدائية ، وكانت تنحصر بالثانوية ودار المعلمين الابتدائية ومدرسة المساحة وكلية الاام الاعظم. فأذا بقيت شواغر في تلك المدارس بعد قبولهم قبل فيها عندئذ من كان نجاحه "مناسبا". وهذا ما وقع في تلك السنة فعلا.
كتن نجاحي وبأستحقاق يخولني الخيار، حسب مداولة جرت بين والدي اين سأدرس؟ واذكر من هذا الحوار انه استبعد الولدان منذ البداية "دار المعلمين"، لأنهما لم يريدا لي ان اكون معلما في مدرسة ابتدائية؛ ثم استبعدا "المساحة" ايضا فانحصر خيارهما بين الثانوية و"كلية الامام الاعظم".
فاجابت الوالدة متحسرة: "خطية يلبس عمامة!". فاحتج الوالد قائلا: "وما عيب اعمامة؟"، فهو نفسه رجل دين يعتمر العمامة. واصرت الوالدة تقول:" الثانوية" وعندما سالت عن رايي فضلت الثانوية. وهكذا اقر ختياري في الذهاب الى المدرسة الثانوية دون مزيد من المجادلة.
لم يكن في العراق حين ذاك سوى مدرستين ثانويتين كاملتين: الاولى في بغداد، والاخرى في الموصل. اا في البصرة، ورغم انها من مدن البلاد الكبيرة، فلم يكن فيها الا صفان ثانويان بعد الابتدائية، وعلى من يريد مواصلة الدراسة الذهاب الى احدى تلكما الثانويتين. واذكر ان تلامذة من البصرة جاؤوا الى بغداد فعلا لاكمال دراستهم في ثانويتها، ومن هؤلاء عبد الجبار بكر، الذي تخصص فيما بعد بدراسة الزراعة في الولايات المتحدة الامريكية واشغل وظيفة "مدير الزراعة العام".
كان علي ان اذهب الى بغداد، فجئت اليها من " العمارة" بالباخرة ايضا، وسكنت مع بيت عمي عبد الجبار جميل، وكان يومئذ رئيس محكمة البداءة في بغداد. ثم نقل الى الحلة فبقيت داره تسكنه اسرته في بغداد. وكانت دار عمي تقع في قنبر علي، وهي كبيرة وذات طابقين، ومقسومة كذلك الى قسمين، "الحرم" و" الديوان خانة" وتلفظ "ديوه خانه" وهذه عبارة عن دار كاملة لاستبال الضيوف، وآخرها باب للدخول بواسطته الى الدار اثانية المعدة لسكن اهل البيت. ومن الصدف الحسنة ان اعايش في تلك الدار ابن عمي "علي حيدر" وكان في الصف الثاني المنتهي، ودرس بعدئذ الطب وتخرج طبيبا في الجاعة الامريكية في بيروت. كان علي حيدر منتظما في كل شيء: في دراسته وتصرفاته وشتى اعماله، الامر الذي ترك اثره في مواظبتي على الدراسة والاقتداء بسلوكه. والتقيت آنذاك بالطالب عبد المطلب امين الهاشمي/ وكان هذا رفيق علي حيدر في الصف المتهي ويتردد عليه في الدار، فتعرفت عليه ثم تطور الامر الى صداقة امتدت حتى وفاته، رحمه الله.
كان عدد تلامذة المدرسة الثانوية في تلك السنين من القلة بحيث لم تكن تشغل بناية مستقلة بها، بل تشغل الطابق الاول فقط، اي الطابق بعد الارضي، من بناية مدرسة المأمونية الابتدائية. وكانت تقع في حلة الميدان قرب مدخل وزارة الدفاع حينذاك، ثم هدمت في السنين الاخيرة وشيدت في مكانها بناية لجنة اسالة الماء لمدينة بغداد. فما تزايد عدد التلامذة في السنة التالية تزظايدا كبيرا استقلت " الثانوية" ببناية قريبة خاصة بها في محلة البقجة قرب الميدان، وهي المدرسة اتي تححمل اليوم اسم "الاعدادية المركزية". وكان الاقبال على المدرسة يتعاظم سنة بعد اخرى؛ ففي حين كان عدد المتخرجين من الدورة الاولى ستة تلاميذ فقط، ازداد عدد صفهم سنة 23-1924الى درجة اقتضت تقسيمه الى شعبتين (أ) و (ب). وكان مدير المدرسة في اسنة التي دخلت فيها الثانوية والتي تتها "نظيف اشاوي"، وهو يومذاك ضابط ركن متقاعد، ثم عاد الى الجيش، وتولى بعد ذلك منصب وزير الدفاع لفترة قصصيرة في وزارة المدفعي الخامسة سنة 1941.
وفي سنة دخولي الثانوية (23-1924) استقال شقيقي الاكبر مكي جميل، الذي يكبرني بست سنوات، من سلك التعليم1930 الابتدائي ليدخل طالبا في مدرسة الحقوق ويأتي فيسكن معي ايضا في دار عمنا عبد الجبار. كذلك فعل ابن عمي (عبد العزيز بن عبد الجبار جميل) الذي يكرني بثماني سنوات وهو شقيق علي حيدر. وهكذا سكنت في دار واحدة مجموعة من الشباب ربطتني بهم صلة وثيقة.
وكنت اتطلع وبشوق واهتمما الى ما يدور على اسنتهم من احاديث.
كانت بغداد مدينة صغيرة، ولا ازال الحمل في ذاكرتي صورة لها وانا بعد ابن السادسة من العمر في1914ثم وانا على عتبة الشباب في سنة 1924 وما تلتها من سني الدراسة الثانوية. وكان من وسائ التسية، عى قلتها انذاك، التجوال مع اقراني في اطراف المدينة والتنق احيانا عبر النهر بواسطة الجسرالبدائي الوحيد بين " الرصافة" و" الكرخ"، او التجول في اشارع العريض الوحيد في المدينة وكان يسمى" الجادة".
م تكن طرقات بغداد مرصوفة في ذلك الحين. فما ان يسقط المطر في الشتاء حتى تفيض الازقة بالمياه وتصبح الاماكن المنخفضة بركا ويصبح تراب الدروب طينا. وعندئذ يتعذر على الناس في بعض الامكنة العبور من جهة الى اخرى فكان الحمالون يقفون على استعداد لحمل من يريد العبور على ظهورهم لقاء اجر زهيد. لم يكن هناك الا طريق واحد فقط مرصوف بالصخر، وهو الطريق المؤدي الى الجسر، والذي يسمى اليوم " شارع المأمون" ولذلك كان يسمى "عكد الصخر" وهذا الطرق يؤدي الى الجسر الوحيد الذي شيد في موقعه بعد سنين الجسر المسمى اليوم جسر الشهداء. كان ذلك الجسر عائما على مايسمى " باجساريات" اي حاملات الجسر، وهي عبارة عن سفائن صغيرة من الخشب بنيت لهذا اغرض. ومن اطرف ماكان يشاهده العابرون ثلاثة مقاهٍ صغيرة من خشب تقوم كل واحدة منها على سفينتين من حاملات الجسر، فأذا كان عبورهم من "الرصافة" الى "الكرخ" صارت المقاهي الى يسارهم وقد ارتفع عليها العلم العثماني مرفرفا بلونه الاحمر وفي وسطه الهلال والنجمة (وهو لايزال علم تركيا اليوم) فيتوقف في واحدة من ذهذ المقاهي من يريد الاستراحة ليحتسي فنجانا من القهوة او " استكانا" من الشاي، او من " الشاي حامض" الذي هو "نومي البصرة" المغلي.
كان الجسر يقطع من منتصفه برفع اجزاء منه لإتاحة الجال لمرور السفن، ويجري هذا القطع ضحى كل يوم في ساعة معينة ولمدة تكفي لذلك الغرض. فأذا وجد اناس الجسر مقطوعا تجمع اكثرهم عند رقبة الجسر انتظارا لفتحه للمرور، ولكن بعضهم لم يكن ينتظر ب يعبر النهر اما بركوب قارب، ويسمى"بلم"،اويركبون قفة، ويرابط عدد منهما على جانبي النهر فيما يسمى بالشريعة، واجرة العبور زهيدة، وهي على زهدها اق في القفة منها في القارب، اذ ان راكب القفة يبقىواقفا لعدم وجود ما يجلس عليه، اما ركاب القارب فيجلسون.
وبعد احتلال بغداد ن قبل اجيش البريطاني في الحرب العالمية الاولى شيد جسر ثان عى دجلة في العاصمة باسم "جسر مود" عى الجنرال "مود" الذي فتح بغداد، وكان موقعه في مكان جسر " لاحرار" اليوم. كان ذلك الجسر الجديد يعوم على حمالات ايضا كنه يختلف عن الجسر العثماني القدم "فجسارياته" من الحديد.
لم تكن في بغداد في أواخر العهد العثماني سوى دار سينما واحدة ،وكانت تقع فيما يسمى اليوم بشارع المستنصر . وعندما أخذت "مدرسة السلطاني" تلامذتها لمشاهدة احد الأفلام في تلك السينما ، وكان من بينهم أخي مكي و إبن عمي عبد العزيز ، صنع الأهل لهما " كليجة " أخذاها معهما ليأكلاها إذا جاعا هناك ، كما يأخذ المسافر "متاعاً " أو زاداً معه في سفره وفي أول عهد الإحتلال البريطاني كانت توجد في بغداد دار سينما إسمها "سينما أولمبيا " أقيمت في الحديقة التي كانت تدعى في العهد العثماني "ملت بقيحة سي" قرب" جسر السنك "اليوم ,
ولم يكن في بغداد شارع عريض حتى سنة 1916 , وفي تلك السنة فتح الوالي خليل باشا ،عم أنور باشا وزير الحربية ،أول جادة إخترقت بغداد من شمالها عند "باب المعظم " إلى جنوبها عند "الباب الشرقي " فأسماها "خليل باشا جادة سي " , وكان هذا الأسم مخطوطاً على رقعة من المزجج الأزرق معلقة في مدخل شريعة جامع سيد سطان علي ،وتظهر عليها الكتابة باللون الأبيض ،وظلت معلقة هنك سنين عديدة ,وتللك الجادة هي التي تطورت فيما بعد واصبحت تعرف باسم شارع الرشيد , ويقال (ان القطعة الخزفية مزلت موجودة ،مثبتة في جدار أحد مباني شارع الرشيد).
و"باب المعظم" اسم لا يزال يعرفه الناس ويعرفون موقعه مع إنهم لا يرون أثرا لباب. ولكن الباب كان موجودا الى سنة 1925. وهو احد أبواب سور بغداد العباسي. وكان مكانه حيث شيدت بعدئذ "قاعة الملك فيصل الثاني" واتي سميت بعد ثورة 14 تموز 1958 "قاعة الشعب". وكان ذلك الباب ضخما وهو في بناية من طابقين فيها غرفة او غرفتان في الطابق الأرضي ومثلهما في الطابق الأول، وكان الناس يمرون من داخل هذه البناية للعبور شمالا الى " الاعظمية" او جنتوبا نحو " محلة الميدان"؛ وكان سور بغداد العباسي متصلا ببناية هذه الباب، ثم هدم جزء من السور لإحداث فتحة فيه تربط شارع الرشيد بالطريق المؤدي الى "الثكنة الشمالية" و "الاعظمية".
ولم يكن في بغداد تنوير كهربائي حتى احتلالها من قبل الانكليز، فكانت الطرقات تضاء قبل ذلك بمصابيح نفطية، وهي على شكل صندوق زجاجي مستطيل يدق في الجدران، وفيه باب يفتح وفي داخله مصباح نفطي. وفي عصر كل يوم يبدأ مستخدمو البلدية بالمرور على هذه المصابيح يحمل كل واحد منهم سلما خشبيا فيركنه على الجدار بجوار المصباح،ويتسلقه ليفتح باب القفص الزجاجي فينظف زجاجة المصباح التي تسمى "لمبة" ولعلها تعريب كلمة "lamp الانكليزية، ثم يملا الخزان بالنفط ويولع الفتيل ويغلق الباب. وهكذا ينزل لينتقل من مصباح الى آخر. وما ان ينبلج الفجر حتى يعود هؤلاء المستخدمون مع سلالمهم لإطفاء المصابيح. فلما دخلت الكهرباء الى بغداد لأول مرة مع الاحتلال البريطاني كان الأولاد يخرجون الى الجادة عند الغروب لمشاهدة ذلك المنظر الفريد حيث تنار المصابيح الكهربائية فجأة كلها معا برمشة عين من أول الشارع الى آخره.
كانت رقعة مدينة بغداد صغيرة حتى سنة 1930. فقد كانت تمتد في جانب " الرصافة" من " باب المعظم" شمالا الى " الباب الشرقي" جنوبا. وكان يوجد، فيما يسمى ساحة التحرير اليوم، احد أبواب سور بغداد العباسي وهو "باب كلواذي" وقد اتخذته السلطات البريطانية كنيسة انجيلية. وفي الموقع الذي تقوم فيه " حديقة الأمة" اليوم كان هناك خندق يحيط بسور بغداد، وكانت امانة العاصمة ترمي فيه الفضلات التي تجمعها سياراتها من أحياء بغداد. اما رقعة بغداد من الشرق فكانت تبدأ مما يسمى اليوم "شارع الشيخ عمر" الى نهر دجلة غربا. واما رقعتها في جانب " الكرخ" فكانت من " محلة الجعيفر" شمالا الى " الصالحية" عند "جسر الأحرار" جنوبا، ومن نهر دجلة شرقا الى " الشيخ عمر" غربا. وفيما عدى هذه الرقعة فهي ارض فضاء باتجاه "الكاظمية" و " كرادة مريم" في جانب " الكرخ".
وكان من الأفضل لو تركت مدينة بغداد كما كانت عليه عند الاحتلال البريطاني (1917) وبنيت في خارج سورها ورقعتها مدينة جديدة لمواجهة زيادة السكان وحاجات التطور في العراق. ولو عمل بذلك لكان قد تم الإبقاء على بعض الآثار التي تخلفت عن العصر العباسي، ومنها أجزاء من السور التي هدمت كما هدم البابان فيه (باب المعظم وباب كلواذي) ولحوفظ على شكل بغداد وطابعها الذي كانت قد آلت اليه حتى آخر العهد العثماني.
عن كتاب (العراق شهادة سياسية)