اسرار السرد.. من الذاكرة الى الحلم

اسرار السرد.. من الذاكرة الى الحلم

حسين رشيد
عن دار حوار صدر كتاب جديد بعنوان “اسرار السرد من الذاكراة الى الحلم” قراءات في سرديات سعدي المالح، اعداد وتقديم الناقد محمد صابر عبيد، جاء الكتاب بـ 270 صفحة من القطع المتوسط حيث شمل بابين الاول قراءات في السرد القصصي، والثاني قراءات في السرد الروائي. في مقدمة الكتاب ذكر المعد ان القاص والروائي سعدي المالح احد كتاب القصة والرواية

ممن اتيحت له فرصة التجوال في مدن العالم بوصفه مغتربا ودارسا طيلة ثلاثة عقود تقريبا، فضلا على عمله صحفيا ومترجما ومدرسا جامعيا في اكثـر من بلد، مشيرا الى مجموعته القصصية “مدن وحقائب” عاده ثمرة سردية من ثمار هذا الاغتراب بين المدن الشرقية والغريبة التي استقبلته لذا بدأت تسمية مجموعته “مدن” وما ترتبط بحركية هذه المدن بالنسبة اليه “حقائب” وهي متأهبة دائما للسفر من مدن نحو مدن اخرى.

كذلك تم التعريج في المقدمة على مجموعة المالح الاشهر “حكايات من عينكاوا” حيث طبعت عدة مرات، فقد كانت محط عمل الذاكراة واهتمامها في الغربة وهي حكايات استعادة للوطن الام قرية “عينكاوا”, احدى ضواحي مدينة اربيل. والتي اصبحت الان من المدن المتحضرة والمتقدمة. فقصص المجوعة حكايات تستعيد الفضاء الريفي الاصيل لعينكاوا القرية في الذاكرة وليس المدينة في الراهن، ومن اهم اسباب انتشار المجوعة قوتها التعبيرية والتشكيلية في استجلاء بوطن هذه القرية وظواهرها بشخصياتها وامكنتها وازمنتها وحكاياتها ذات الطابع الجمعي الذي يعرفه الجميع. وربما كان هذا سرها الحكائي الدفين الذي عرف سعدي المالح كيف يؤرخه فنيا وجماليا وسرديا.

كما تم التعريج على رواية “في انتظار فرج الله القهار” وهي رواية مميزة في نظر المعد من خلال صنعتها الروائية واستنادها الى الموروث الديني والتاريخي والاسطوري الثقافي، فهي تحكي على هذا النحو لعبة الانتظار ولعبة المصير التي تتردد كثيرا في ميراث لبناء المنطقة على اختلاف اثنياتهم وقومياتهم واديانهم وطوائفهم، ففكرة انتظار المخلص فكرة قديمة وجدت لها حيزا مهما مركزيا في ثقافات شعوب المنطة، وسعي الروائي الى تمثيل هذه الفكرة وسردنتها في الرواية، مع زج الكثير من ثقافات الشعوب الاخرى التي زارها وعايشها في مفاصل معينة من مفاصلها، وعكس بذلك رؤيته للحياة والاشياء والقيم والمعارف والرؤى، على النحو الذي جاءت فيه الرواية ثرية بكل شيء تقريبا.

خاتما المقدمة، ان هذا الكتاب الذي يسهم فيه مجموعة من النقاد والاكاديميين بدراسات وقراءات متنوعة في مدونة سعدي المالح السريدة انما تسعى الى الاجابة على سؤال الجدوى والتميز في ظل كم هائل ومرعب من المجموعات القصصية والروايات التي تنتج كل عام في دور النشر العربية، اذ على الرغم من ان المنجز السردي لا يعد كبيرا قياسا الى تجربة سعدي المالح في الحياة والثقافة والمعرفة الان ان سرديته تتمتع بخصوصية واضحة ستبين القراءات التي تقع بين دفتي هذا الكتاب طبيعتها ورؤيتها واسرارها السردية، وقدرتها على ان تحتل مساحة مضيئة وذات تاثير واضح في فضاء السرد العراقي الحديث وهو ما نأمل ان يكون هذا الكتاب بقراءته المهمة المتنوعة قد حقق ذلك في انحاء مختلفة.

الفصل الاول: اسرار السرد القصصي، شمل اربع دراسات ومدخلاً، حيث كتب د. خليل شكري هياس “ حكايات من عينكاوا تجليات الذاكراة وفاعلية الحس السردي” وكتبت الناقدة جميلة عبدالله العبيدي “ بلاغة الاستهلال القصصي عند سعدي المالح”، فيما كتب د. جاسم خلف الياس “التعبيرية وفاعلية الترميز في مدن وحقائب”، كما كتبت سناء سلمان عبد الجبار “التشكيل السردي المشهدي قراءة في قصة (الحظ)”. وقد جاء في المدخل، اشتغلت قراءات الفصل الاول على المنجز القصصي للمالح، والذي يتسم بالخصوصية مثلما عبرت عنه مجموعته الاولى “حكايات من عينكاوا” ذات الطبيعة السيرذاتية المكانية. ومجوعته الثانية “مدن وحقائب” ذات الطابع الثقافي تتعلق بالذات والسفر والغربة والمدن. كما اشار المدخل الى ان دراسة د. خليل شكري هياس ذهبت الى استنطاق الفعل الذاكراتي البالغ الحضور في المجموعة الاولى، وكيفية استثمار حسها السردي للوصول الى عتبة التكوين القصصي. كما استخدم هياس المفهوم الابداعي للذاكرة وتجلياتها الجمالية والثقافية والسيرذاتية بمستويين، الاول “الذاكرة والمكان” والثاني “الذاكرة والشخصيات”.

اما دراسة الباحثة جميلة عبدالله العبيدي فقد اشتغلت على عتبات الكتابة القصصية، حيث انتخبت عتبة الاستهلال التي تنطوي على اهمية مميزة كونها تتوسط عتبة العنوان وطبقات المتن النصي. وقد تناولت القراءة قصص المجموعتين. كما قسمت الباحثة اشكال الاستهلال في القصص الى اربعة انواع، الاول “الاستهلال الحكائي” الثاني “الاستهلال الوصفي” الثالث “الاستهلال المشهدي” الرابع “الاستهلال الحواري”. فيما تناولت دراسة د. جاسم خلف الياس البحث في المستوى الاجرائي الذي عملت عليه القصص، فنقسمت الى قسمين الاول “التعبيرية الواقعية” حيث رصد تجليات المرجعية الواقعية في اساليب التعبير السردي في قصص المجموعة، اما قسمها الثاني فقد اشتغل على “فاعلية الترميز” التي استهدفت معالجة الواقع الرمزي، اذ كشفت القراءة عن حساسية الطبيعة الواقعية السيرذاتية التي قامت عليها معظم القصص. اما القراءة الرابعة فكانت للباحثة سناء سلمان عبد الجبار والتي اشتغلت على قصة واحدة من مجموعة “مدن وحقائب” هي قصة “الحظ”، اذ بدأتها بتمهيد نظري لعلاقة فن السرد بالسينما، ثم تحولت الى الجانب الاجرائي التطبيقي، فقسمت القراءة الى ثمانية مشاهد متراكبة. بهذا تكون القراءات الاربعة قد اتت على الكثير من مشكلات القص السردي عند المالح، وهي لا تدعي استنفادها لكامل المؤونة السردية المختزنة في قصصه.

الفصل الثاني: اسرار السرد الروائي شمل اربع قراءات الاولى “الصنعة الروائية وايقاع الموروث” للناقد محمد صابر عبيد، والثانية “ مقامات العبث” د. فيصل غازي النعيمي، اما الثالثة “تقانات الزمن السردي”، للدكتور نبهان حسون السعدون، فيما كانت الرابعة “مرجعيات التشكي السردي” د. علي صليبي المرسومي. كما ضم الفصل مدخلا جاء في مستهله: تكتسب رواية “في انتظار فرج الله القهار” اهمية خاصة على مستويات عديدة، فهي رواية تنشغل بالراهن مثلما تنشغل بالتاريخ، وتنشغل باليومي التفاصيلي مثلما تنشغل بالشامل الرؤيوي، وتنشغل بالمرجعي مثلما تنشغل بالتكويني والتاني، وتنشغل بالجزئي مثلما تنشغل بالكلي، وتنشغل بالواقعي مثلما تنشغل بالرمزي، وتنشغل بالتراثي مثلما تنشغل بالحداثي، وتنشغل باللغة مثلما تنشغل بالصورة، وتنشغل بالبؤرة مثلما تنشغل بالمحيط، وتنشغل بالذاتي مثلما تنشغل بالموضوعي وتنشغل بالسردي مثلما تنشغل بالدرامي. القراءة الاولى للناقد محمد صابر عبيد سعت الى رصد بعض مستويات التركيب النصي الخاصة بالصنعة الروائية، بوصفها الشرط الاول والاساس لنجاح كل كتابة روائية، وانتهت القراءة الى تاكيد وعي الروائي لعمله وحسن ادارته للعمليات السردية في بؤرة السرد الروائي ومحيطه ايضا. اما القراءة الثانية للدكتور فيصل غازي النعيمي، فقد ذهبت الى معالجة فضاء التجريب الممك في الرواية وكشفت عن قدرة هذه الحساسية التجريبية على كسر الانساق التقليدية المالوفة في التشكيل الروائي. وقد انتخب النعيمي عنوانا لافتا لقراءته “مقامات العبث” منبثقا من ادراك سلسة مقامات نهضت عليها الرواية، واستندت معظمها الى فاعلية المفارقة بمعناها التاريخي والديني والثقافي والفكري والحضاري والسردي، اذ تكشف هذه المقامات عن جدل الذاكرة والراهن في سياق وسطوة المقدس. اما القراءة الثالثة للدكتور نبهان الحسون فقد قدم من خلالها درسا تقانيا سرديا في معالجة الزمن الروائي لهذه الرواية، اذ اخضع الرواية الى تحليل تقاني شبه كامل اعتماداً على نظرية الزمن السردي. فيما عالجت القراءة الرابعة للدكتور علي المرسومي موضوع المرجعيات الذي يشكل اهمية بالغة في الدراسات السردية الحديثة كونه يهتم بالاسس والاصوال الثقافية والفكرية والتراثية والدينية والحضارية. اذ كشفت القراءة عن ظهور ثلاث مرجعيات اساسية انبنى عليها التشكيل السردي في رواية المالح، المرجعية الاولى “التشكيل السردي التراثي” والثانية “التشكيل السردي العجائبي” والثالثة “التشكيل السردي الحلمي”، اذ وجدت كل مرجعية تجليات نصية واسعة في المتن الروائي للرواية. وبذلك تكون القراءات الاربع قد قاربت الرواية من زوايا نظر متعددة ومتنوعة، كما ما زال في الرواية متسع لقراءات اخرى.بذلك يكون الكتاب قد اتى على جوانب مهمة من اسرار السرد عند القاص والروائي سعدي المالح، تاركا الباب مفتوحا امام قراءات ودراسات اخرى تتناول السرد القصصي والروائي عند المالح، والوقوف عند تجربته الحياتية وانعكاساتها على تجربته السردية وتاثير كل منهما بالاخرى. كذلك يمكن الولوج وتناول الجوانب الفكرية والايدلوجية والطبقية والمتوفرة في اغلب اعمال المالح السردية.