هل نظرية النشوء كانت مجرد فكرة آن أوانها؟

هل نظرية النشوء كانت مجرد فكرة آن أوانها؟

اسم الكتاب: أشباح داروين
اسم المؤلف: ريبيكا ستوت
ترجمــــــــة: عبدالخالق علي
ربما ليس هناك شيء كالاصالة. في الطبعة الرابعة من كتاب “ عن أصل الانواع “ أضاف تشارلس داروين صورة تاريخية لتمييز اولئك الذين سبقوه في فكرة النشوء العظيمة.

ففي احد الهوامش كتب يقول “ الاسلوب الذي ظهرت فيه آراء مشابهة في نفس الوقت “. ربما كان يشير الى الفريد راسل والاس الذي كان قد استوعب بشكل مستقل عناصر الانتقاء الطبيعي بينما داروين مازال يعمل ببطء على كتابه الكبير. بعض المؤرخين سيقولون ان الفكرة قد اختمرت و أخذت من الفكر في اللحظة المناسبة، و ان مكتشفها يعبّر عما كان يكمن في روح العصر لا اكثر. روبرت تشامبرز سبق داروين بخمسة عشر عاما، فكتابه “ بقايا التاريخ الطبيعي للخلق “ أثار ضجة كبيرة في حينه. التلقي البطيء لهذا الكتاب الهرطقي ادى الى تباطؤ قلم داروين حتى ظهور والاس كمنافس دفعه بشكل محموم الى النشر.
يبدو ان الافكار لها لحظتها، و ان الثورات الفكرية لها من يحملها. عكفت ريبيكا ستوت على تاريخ فكرة “ التحوّل “ بشكل اكثر شمولا مما فعل داروين. لم يكن داروين لغويا او مؤرخا و قد أقر بدقة والاس و تشامبرز و ايرازموس (جده) و عالم الاحياء الفرنسي الكبير جين بابتست لامارك، الا ان بقية قائمته لم تكن مهمة، في حين ان قائمة ستوت اكثر اهمية، حيث كشفت عن مجموعة استثنائية من المفكرين الاحرار الذين تجرأوا على دراسة التحوّل في زمن كانت فيه مثل هذه الافكار تكلف المفكر حياته. بعض هؤلاء الراديكاليين معروفون جيدا. فهناك (دينيس ديدرو) كاتب دائرة المعارف الذي وضع نظاما لتقييم الاداء على رقابة المطبوعات في باريس لسنوات من خلال ابتكار اقنعة ادبية ماكرة للمفاهيم التي كانت لعنة على المؤسسة الكاثوليكية. و هناك (ليوناردو دا فنشي) الذي كانت له افكار لها صلة عن التغيرات الطبيعية رغم انها غير واضحة في مذكراته الغامضة. يقول الناقد انه لا يعرف شيئا عن (بنوا دي ماليه) القنصل الفرنسي في القاهرة الذي كان في السنوات الاولى من القرن الثامن عشر يلخص افكارا عن احد العصور الكبيرة للأرض، تحمل مفاهيم تتعلق بانحدار الحيوانات من أصل مشترك في البحر. كان يتنكر في النشر بأسم حكيم هندي يدعى تلياميد الذي طلب منه مبشر فرنسي (لم يذكر اسمه) ان يكشف هذه الحقائق القديمة.
كما ان الناقد لم يواجه ابراهام تريمبلي المدرس الخصوصي لعائلة بينتينك الهولندية الغنية المتنفذة. خلال النصف الاول من القرن الثامن عشر كان تريمبلي يتحقق بدقة و منهجية عجيبة كائن البركة – ذلك الكائن الشائع الذي يتوالد من جزء صغير- و اثبت هذه الظاهرة تحت المجهر و ارسل عينات مع معلومات لأقناع المشككين بان هذا الكائن يقع ما بين النبات و الحيوان، مما جعل تريمبلي مشهورا، الا انه اربك الاصناف و اقلق الفلاسفة الذين اعتادوا على الحدود الواضحة التي وضعها الخالق و التي لا يجوز انتهاكها، و تسبّب في نظم أبيات شعرية ساخرة. في وقت سابق في فرنسا، كان فخّار يدعى بيرنارد باليسي يزخرف كهفا صناعيا في حديقة كاثرين دي ميديسي بالسيراميك البراق من كائنات مائية تتلوى و تتشابك. تثبت ستوت ان تلك لم تكن مجرد نزوة زخرفية، و ان باليسي كان يؤمن بان هذه الكائنات يمكن ان تتوالد في البرك الطينية – و هي نظرة تشبه بعض النظريات الحالية عن اصل الحياة نفسها. ربما استلهم – من الالواح الطينية التي يعمل عليها – نوعا من انواع التحول يمكنه تفسير المتحجرات. رغم كونه لم يتلق تعليما، فقد قدّم باليسي خطابات كانت شائعة بين طبقة النبلاء. محاضراته المنشورة الموسومة “ محاضرات تثير الاعجاب “ سقطت فيما بعد في دائرة الغموض، الا ان المؤمنين بتحول الافكار ربما يقولون بانها ساهمت في نوع من نشارة الفكر التي تولدت منها افكار لاحقة.
تعقبت ستوت عالما من الامبراطورية العباسية في القرن التاسع يدعى (الجاحظ) – مراقب ذو بصيرة ثاقبة ربط بين مفكري عصر النهضة و ارسطوطاليس – الذي ربما كان اول فيلسوف راقب الطبيعة عن قرب خلال سنوات الوسواس من اجل معرفة الحقائق الصريحة عن بحيرة قرب جزيرة ليسبوس الاغريقية. انه ربط يبعث على الفضول كان داروين سيسعد به. كان الجاحظ عالما في البيئة و ليس في النشوء، و كان يتعجب كيف ان الكثير من الكائنات المختلفة تتكيف في اشكال بين المفترس و الفريسة، و كيف ان البيئات المختلفة تناسب مختلف الكائنات. يعترف الناقد بانه لم يسمع بكتابه “ الكائنات الحية “ و هذا هو عيبه. بالنسبة للجاحظ فان كل الاجناس هي دلالة على خلق الله، مما يسبب لغزا حيث كل قطعة لها مكان واحد مخصص لها. لا يوجد هنا تلميح للنشوء.
كل شخصية تقدمها ستوت لها قصة ذات صلة تحكيها، و كل تواريخ الشخصيات ترويها باسلوب و طراز تاريخي.
يشعر الناقد بانه ازداد معرفة بـ (دي ماليه و تريمبلي و باليسي و الجاحظ)، لكن يبقى هناك سؤال ما اذا كان تقليد “ التحوّل “ قد أثّر فعلا على داروين. هل كان داروين خليفة لتيار مكبوت من التكهنات، و فكرة جاء يومها بعد ان ضعفت قبضة الدين؟ ان تحديد الطابور الطويل من “ الاسلاف “ المفكرين يحمل معه مفهوما من هذا النوع.
كان القرن التاسع عشر بلا شك الوقت المناسب لخروج فكرة النشوء من الظل. مع ذلك فان داروين غالبا ما يقدم نفسه لقراءه على انه المفكر الاول، و الشخص الذي لم يأخذ شيئا من المسلّمات دون ان يخضعه للتمحيص و الاختبار او يجمع الحقائق عنه. الدليل على هذا الجانب من شخصيته لا يكمن في النشوء و انما في كل مساهماته الاساسية الاخرى التي قدّمها للعلم: أصل الشعاب المرجانية ؛ آليات التسميد في النباتات ؛ أهمية الديدان في توليد التربة ؛ تعبيرات الوجه في الحيوانات، القائمة تطول. في كل مرة يدخل مدخلا جديدا في دراسته.
يقول الناقد “ يبدو لي – رغم ان الجد ايرازموس داروين اعتمد على سلالة عائلته – ان تشارلس داروين لم يتلقى رسالة مموهة من جد افتراضي ميت. انه دائما يبدأ من جديد، منفتحا على التاثيرات الماضية لكن تغذيه الرحلات.
قامت ستوت بعمل مذهل و رائع من خلال بيان كم من الناس غير الاعتياديين قد تكهنوا بشأن الأصل الذي جئنا منه قبل ان يبدد هذا المنظّر العظيم كل الشكوك.