سلامة موسى ودعوات للعامية واللاتينية والمصرية والاشتراكية!!

سلامة موسى ودعوات للعامية واللاتينية والمصرية والاشتراكية!!

شكيب كاظم
حفلت أخريات القرن التاسع عشر، برؤية عدد من كبار الكتـّاب والباحثين لنور الحياة فيه، والذين أسسوا لحركة النهضة والتنوير في دنيا العرب في العقود اللاحقة، مثل: مصطفى صادف الرافعي (1880-1937) وأحمد حسن الزيات (1885-1968) وأحمد أمين (1886-1954) وعبد الرحمن شكري (1886-1958) والدكتور طه حسين (1889-1949)

وعباس محمد العقاد (1889-1964) وابراهيم عبد القادر المازني (1890-1949) والدكتور محمد صبري السور بويني (1890-1978) واسماعيل مظهر (1891-1962) وسلامة موسى المولود في الرابع من شباط سنة 1887 والمتوفى يوم الاثنين الرابع من آب سنة 1958.
يذكر الذين ترجموا لحياة سلامة موسى، مثل الاستاذ فتحي رضوان في كتابه المهم (عصر ورجال) الصادرة طبعته الاولى عن مكتبة الانجلو المصرية سنة 1967، أو الكتاب الذي اوقفه الناقد المصري المعروف غالي شكري لدراسة حياة سلامة ومنجزه الفكري، والذي كان اول كتبه في عالم الكتابة، وقبل ان يحصل على الدكتوراه، والموسوم بـ (سلامة موسى وأزمة الضمير العربي) الذي اصدرته مكتبة الخانجي بمصر سنة 1962، ان طفولة سلامة موسى، كانت رخية عذبة لأن أباه كان موظفاً، كاتباً بمديرية الشرقية، تعرف بـ(رئيس تحريرات المديرية) وكان راتبه جيداً باسعار تلك السنوات، اذ كان (سبعة جنيهات ونصف الجنيه) واستطاع ابوه شراء ارض زراعية من ماله الخاص، درَّت على الاسرة شيئاً من مال جعلها تحيا بعيدا عن الحاجة، ويقص سلامة موسى علينا شيئاً من هذه الذكريات الهانئة، والسفرات والمتع البريئة في كتابه المهم (تربية سلامة موسى) الذي يمثل سيرته الذاتية والذي اصدره لمناسبة بلوغه الستين من العمر (1887-1947).
حصل سلامة موسى على شهادة الدراسة الابتدائية سنة 1903، وواصل دراسته ليحصل على الشهادة الثانوية سنة 1907، وشرع بقراءة الصحف مثل (اللواء) لمصطفى كامل و(المؤيد) للشيح علي يوسف، و(الجريدة) التي كان يصدرها احمد لطفي السيد، في حين لم يتفاعل مع جريدة (الاهرام) وكان يراها جريدة فاترة فيما كانت جريدة (المقطم) جريدة موالية للانكليز تماماً، ثم يسافر للقاهرة لمواصلة الدراسة، واذ كانت امه تخشى عليه مغادرة عتبة دارهم، رضخت للامر الواقع، لتدعه يغادر القرية، نحو القاهرة، واضعين في الحسبان، ان اباه توفي وهو صغير في الثامنة من عمره، فتولت أُمه تربيته والاعتناء به.
ما لبث سلامة موسى ان غادر مصر نحو فرنسا لغرض الدراسة والاطلاع ليعود بعد سنة، ثم يتوجه الى بريطانيا، وهناك ينغمس في الحياة الفكرية والثقافية في لندن، وينتمي للجمعية الاشتراكية الغابية، ويتعرف على الأديب الايرلندي الشهير برنارد شو، ويتعرف على مبادئ الاشتراكية الغابية، ومن ثم يطلع على افكار ماركس، ومن قبله الفيلسوف الالماني الشهير فردريك نيتشه، وقد بلغ في تأثره بافكار نيتشه، ان الـَّف كتاباً عنوانه (مقدمة السبرمان) نشرته دار الهلال المصرية سنة 1909، واضعين في حسباننا ان نيتشه كان يدعو الى فكرة الانسان المثالي الكامل، عن طريق تعقيم الرجال الضعفاء، وذوي العاهات وصولاً الى النسل الأفضل، والمجتمع الأكمل، وهو ما تلقته النازية الهتلرية، حتى ان هتلر ما كان يستعين بالنظارات الطبية لغرض القراءة، على الرغم من ضعف بصره، تعالياً واستكباراً على هذا الضعف الخلقي، فكيف يظهر للناس ضعيفاً، هو الداعي الى الانسان المثالي، السوبرمان)؟!
لقد كتب سلامة موسى تسعة واربعين كتاباً، كما ترجم رواية (الجريمة والعقاب) للروائي الروسي الشهير ثيودور دستويفسكي، وطبعتها مطبعة جرجس فيلوتاؤس سنة 1912، منها: (فن الحياة) و(مقالات ممنوعة) و(كيف نسوس حياتنا بعد الخمسين؟) و(مشاعل الطريق للشباب) ومن قبل هذه الكتب كتابه (الاشتراكية) 1912 و(أشهر الخطب ومشاهير الخطباء) دار الهلال 1923 و(أشهر قصص الحب التاريخية) دار الهلال 1924، و(أحلام الفلاسفة) دار الهلال 1925، وكلها طبعت طبعة واحدة لا غير، وهي كتابات لن تجلب لصاحبها خلود ذكر، بسبب بساطة افكارها، وصحيفة توجهاتها، وسرعة تحبيرها، اذ كان كثير الكتابة، جعل الوصول الى افكار عامة الناس، لذا كان يدعو الى الكتابة البرقية، أي الكتابة المكثفة، التي تشبه البرقيات، وأرى ان الموضوع المكتوب هو الذي يستدعي الاسلوب والطريقة، وما كل الموضوعات تكتب بطريقة البرقيات، اذ الافكار العميقة بحاجة الى مطاولة واحاطة بجوانبها كافة، مع ضرورة الابتعاد عن الترهل والتكرار.
أقول كتب سلامة موسى كتابات بسيطة كان يتوجه بها الى عامة الناس، لذا طواها الدهر الذي لا يرحم، وأرى ان ذكراه ستظل باقية من خلال كتابه الجميل والوحيد (تربية سلامة موسى) فسيظل يُشار اليه، اذا ما أُشير الى كتب المذكرات والسير الشخصية.
شهد الزمن الذي عاش فيه سلامة موسى، شيئاً من حرية التعبير والقول، لاسيما بعد انحسار ظل الدولة العثمانية، وقبل صعود الراديكاليات العربية الى دست الحكم في اوائل العقد السادس من القرن العشرين، لذا شهدنا كتابات طه حسين في قضية الشعر الجاهلي (1926) ومن ثم كتابات علي عبد الرزاق في (الاسلام وأصول الحكم (1927) نافياً فكرة الخلافة، وظهرت الدعوات للكتابة بالعامية كما دعا الى ذلك الدكتور عبد العزيز فهمي في كتابه (الحروف اللاتينية لكتابة العربية) الصادرة طبعته الاولى في شهر آب/ اغسطس 1944، وقد اجملت هذه الامور الباحثة المصرية الرصينة الدكتورة نفوسة زكريا سعيد في كتابها المهم (تاريخ الدعوة الى العامية وآثارها في مصر)، فاذا كان هذا حال الكتـَّاب المسلمين في مصر، فلا غرو ان يكون التأثر اقوى لدى ابناء الديانات الاخرى، هم الذين كانوا يشعرون بوطأة الظلم مضاعفاً، ويجب ان لا ننسى ان الاقباط في مصر، كانوا يجبرون على اعتمار العمائم السود، ايام المماليك والعثمانيين، تمييزا لهم عن المسلمين الذين كانوا يعتمرون عمائم بيضاً، ازاء هذه الحال، والشعور المضاعف بالغبن، تلقف سلامة موسى هذه الدعوى لهجر العريبة الفصيحة والكتابة بالعامية كما كانت دعوته مصر للمصريين، وهي النغمة التي عزف عليها احمد لطفي السيد، الذي اصبح رئيساً للجامعة المصرية ولـُقـِّب باستاذ الجيل!! ومن اجل تأكيد مصرية مصر بعيداً عن محيطها العربي، فقد انشأ سلامة جمعية (المصري للمصري) اردفها بنشر جريدة اسماها (المصري)!! لا، بل بلغت الحال به ان هدد في كتابه (تربية سلامة موسى) على لسان الشباب الاقباط، (اذ كنتم تدعون الى جامعة اسلامية، والى تأييد الحقوق العثمانية في مصر، مع ان الاتراك ليسوا فقط اجانب، بل ان تأريخهم يحفل بالمظالم في مصر، فان لنا الحق في الاتجاه نحو جامعة مسيحية والاعتماد على الاحتلال البريطاني تراجع من 43 من الفصل المعنون (القاهرة فيما بين 1903 و1907).
لقد كان سلامة موسى، ولاسيما بعد ذهابه الى فرنسا ومن ثم بريطانيا، قليل الاحتفاء بكل ماهو شرقي، لذا فقد كان يعيب على الكتـَّاب المصريين بقاءهم اسرى لغة الجاهليين، معتنين بالمحسنات البديعية، داعياً الى ترك الاساليب، لذا اطلق مقولات جافية ضد اللغة العربية، مثل قوله: ان الناس يقرؤون كي يتعلموا، اما العرب فانهم يتعلمون كي يقرأوا، وهو يعني ان قواعد لغة العرب صعبة، ونحتاج الى تعلم كي يقرأ القارئ، في حين الاصل ان يقرأ كي يتعلم، واذ يسأله صديقه الكاتب المصري الرائع القبطي – كذلك وديع فلسطين: لِمَ لم تُنتخب عضواً في مجمع اللغة العربية، مع انك من انجح واضعي المصطلحات السائغة في اللغة العربية؟ فكان جوابه (ان المجمع يدور في حلقة مفرغة من (الأحافير اللغوية) وهو لا يريد مصطلحات تجري على الألسنة، ولهذا لن تجد لي موضعاً في المجمع، لا انا ولا فؤاد صروف، ولا من هم على شاكلتنا من الذين جعلوا العِلمَ شعبياً مبسطا، ولم يجعلوه مستغلق الاكاديمية) تراجع ص278 من فصل عنوانه (سلامة موسى) من الكتاب المفيد والممتع المعنون بـ(وديع فلسطين يتحدث عن إعلام عصره) الجزء الاول الصادر طبعته الاولى عن دار القلم بدمشق سنة 1424هـ-2003م.
هذه الشعبية التي يدعو اليها، جعلته يكتب كتابه صحيفة غير ذات اثر مستقبلي،بل آني، ويوم دعا الى اصلاح ثوري بالقرية المصرية التي تفتقد الى المرحاض الصحي، كتب عباس محمود العقاد بقلمه الباشط رده المعنون (سلامة موسى المراحيضي)!!
قلت ان سلامة موسى كان يشعر بالغربة في مجتمع بالانسلاخ عنه وبالابتعاد لذا فبعد دعوته للعامية، تارة، واخرى دعوته لترك الحرف العربي واستعمال اللاتيني محيياً نهج كمال أتاتورك باستبدال الحرف العربي باللاتيني، بعد اسقاطه مفهوم الخلافة سنة 1924، وتأسيس الجمهورية التركية، وما درى سلامة ان الحرف العربي أصيل عند العرب وجزء من هويتهم في حين هو طارئ لدى العثمانيين اذ استعملوه بعد اعتناقهم الاسلام.
تقرأ كتابه (هؤلاء علموني) فلا تجد مَعلمَاً عربياً او شرقياً مسلماً او قبطياً، بل اوروبي غربي، دارون، نيتشه، آرنست رينان الفرنسي الكاره للعرب والمسلمين، فاختار من معلميه المؤرخ الفرنسي المُنصف غو ستاف لوبون؟!
وفولتير وكوته، الفيلسوف الاميركي الباركماتي الذرائعي جون ديوي، وهنري ثورو، غاندي، هافلوك اليس، هنريك ابسن، برنارد شو، اج. جي. ويلز، الروائي الروسي دستويفسكي، فرويد، اليوت سميث.
ويوم يسأله محرر مجلة (الرسالة الجديدة) رأيه بالادب والادباء في مصر، يجيبه (لا يوجد بين ادباء مصر اديب واحد يستحق ان يحمل التاريخ اثاره الى الاجيال القادمة، ولم اجد من ادبائنا من يستحق ان يقرأ له اولادنا واحفادنا بعد عشرة اعوام).
فيجيبه العقاد، (اني لا استطيع ان ابدي رأيي في غير رأي، وما قاله سلامة موسى تعبيراً عن رأي، ولكنه تعبير عن حقد وضغينة وشعور بالفشل (...) والذنب الاكبر للادب العربي عند سلامة موسى، هو ان هذا الادب عربي، وسلامة موسى ليس بعربي، وان الادباء يحسبون سلامة موسى على العلماء، والعلماء يحسبونه على الادباء، والواقع انه ليس اديباً ولا عالماً، لكنه قارئ لبعض العلم، وبعض الادب، في بعض الاوقات وما يفهمه اتفه مما لا يفهمه)، تراجع ص292، ص293، من كتاب فتحي رضوان آنف الذكر.
تقرأ مقالات سلامة موسى لاسيما كتابه (تربية سلامة موسى) فتجد الانفتاح وتقبل الآخر والدعوة للتعاون، لكن اذ تقابله تصدمك الصورة الحقيقية له، وهذا ما قرأته في مقالة نشرها استاذي الدكتور علي جواد الطاهر، عنوانها (سلامة موسى) ونشرتها ثقافية (الجمهورية) في 25/10/1985، قرأتها في حينها فجعلت صورة سلامة موسى تصدأ في ذائقتي، فضلاً عن صدئها السابق واعاد نشرها في كتابه المهم (أساتذتي ومقالات اخرى) الذي اصدرته دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد بطبعته الاولى سنة 1987، وكان الطاهر شغوفاً باللقاء به وقد ذهب للدراسة في مصر، ولكن لندع استاذي الطاهر، رحمه الله، يحدثنا عن لقائه به (وتأتي الزيارة التي لا بد منها ومهما كلف الامر، وها انذا في حارة شعبية، ارقى اربعاً او ثلاث عتبات نحو باب قديم متين، وتمتد اليـــد الى الجرس، فيفتح الباب وتطل امرأة، لاشك في انها ام البيت، ووراءها فتاة (...).
قالت السيدة المحترمة: يمكنك الالتقاء به في جمعية الشبان المسيحيين، فشكرتها وودعتها، ولكن العجب من هذا الكاتب الذي علمنا شيئاً، يلتقي في المكان الذي لا يكون فيه، وتذكرت ما كان من اسماء اولاده، خوفو وخفرع (وربما ميكرع)... وما روي في غير مصلحته من اشياء تضعه في موضوع المتناقض.
لا أدري كيف بلغت بيته، ولا اتذكر كيف وصلت الى مقر الجمعية ورأيته، وحلمت أُحدثه معي حماستي التي صحبتني من عراق 1947، ومن كتبه، وافكاره، واندفع ولكنه ليس معي، وحين ذكرت له اخباراً عن مكانته عند القارئ العراقي وذيوع كراسه عن (الحرية) (...) بدا وكأنه لا يعرف شيئاً عن هذه المكانة (...) ولم يطل اللقاء.. لأن اهراماً شاهقة تهاوت من مخيلتي، ولم يكن سلامة موسى الذي ازائي، سلامة موسى الذي ملأ ذهني، وافترقنا على غير سعي الى اللقاء، وانتهى في النفس شيء اسمه سلامة موسى، فقد مات فيها سنة 1948، وليس 1958، حين مات فعلاً عن احدى وسبعين سنة) تراجع ص295. ص296، من كتاب الطاهر آنف الذكر.
تُرى هل كان سلامة موسى يفتقر الى الحضور، الكاريزما؟ اذ كما تهاوى في نظر الطاهر، فقد وكذلك في نظر فتحي رضوان الذي ذهب الى لقائه يسعى تسبه اليه شهرته وكتاباته وافكاره، يقول فتحي رضوان، (وأردت ان اتحدث اليه فاستملني (...) وكان استماله إياي جافاً، (...) ولم يكن في شكل سلامة موسى، ولا في اسلوبه في الحديث ما يستوقف النظر، او يصدم الرأي، فقد كان عادياً، فيما عدا عينين مفتوحتين، كانما صاحبهما في دهشة حقيقية من شيء مع بعض الخوف، وصوت من الطراز الذي يسميه الناس بالأقرع أي الذي لا قرار له، اما السمة البارزة، في شخصيته فهي خلوها من الحرارة. تراجع ص 252، ص253 من كتاب (عصر ورجال) لفتحي رضوان.
فاذا اضعنا خلو شخصيته من حرارة اللقاء، الى الخطابة، ربما لخجالته وضعف قرار صوته، وانطوائيته المتوارثة، اذ يذكر هو ان اسرته من آل العقي عاشوا يكرهون الاختلاط بالناس، ويقومون المجتمع، ولا يحضر احدهم عرساً او جنازة، الا بضغط وقد لا يجدي الضغط، رأينا ما اشد جناية تربية امه المتوجسة والخائفة عليه، زارعة في نفسه الريبة والتوجس والانغلاق على الذات ولله في خلقه شؤون.