سلامة موسى.. كبير المظاليم فى حياتنا الثقافية

سلامة موسى.. كبير المظاليم فى حياتنا الثقافية

طارق حجي
كانت الساحات الأدبية والثقافية والقانونية والسياسية والعلمية والطبية والفنية (بكل مجالاتها) فى مصر عشرينيات القرن الماضي حافلة بأعلام يفوقون (كما وكيفا) في تميزهم ونبوغهم مجمل أعلام كل هذه الساحات والمجالات في البلدان الناطقة بالعربية ليس إبان ذات الفترة فحسب وإنما خلال القرون العشرة الأخيرة برمتها. وليس ذلك بمستغرب. فالنبوغ الفردي لا يتألق بشكل وافر من دون نبوغ المكان.

وليس من مكان في المنطقة الناطقة بالعربية يضاهي مصر في نبوغ وعبقرية مكانها وتاريخها وجغرافيتها. يقول بونابرت " مصر ليست بلدا ؛ وإنما هي البلد".
وقبل بونابرت فإن أفلاطون هو من قال "كل ما أنتجناه في اليونان كانت أصوله من مصر". لذلك فإن مصر (وحدها) كانت القادرة على إعمار تلك الساحات بذلك العدد الهائل من النوابغ ؛ سواءا كانوا مصريين أو غير مصريين جاؤا إليها لتعتمد هي نبوغهم ؛ فبدون هذا الإعتماد ما كانوا إلا "مسودات نبوغ". وإذا كان الكثيرون من نجوم وأعلام تلك الحقبة قد نالوا من التقدير والتقديم للأجيال اللاحقة ما يستحقونه مثل أحمد شوقي ولطفي السيد وطه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وأم كلثوم ويوسف وهبي ومحمود مختار وزكي نجيب محمود ويوسف إدريس... وغيرهم كثر؛ فإن البعض لم ينل حقه من التقدير والتقديم للأجيال التالية ؛ ومن أهم هؤلاء سلامة موسى وزكي مبارك ومنصور فهمي... وغيرهم. وفى هذه السلسلة من المقالات القصيرة سأتناول بعض هؤلاء الأعلام الذين كانوا (وينبغي أن يبقوا) نجوما ساطعة تحتاجها اليوم سماء حياتنا العقلية حالكة الظلام ؛ عسي أن يساعد نورها أبناء وبنات مجتمعاتنا على الرؤية في ظلام واقعنا الدامس والخروج من عتمة حياتنا العقلية التي إستولي على قمرة قيادة الرأي والفكر والمعرفة فيها أشباه أميين. وإذا كان أكبر النقاد العرب المعاصرين الأستاذ رجاء النقاش قد شبه كاتب هذه السطور ومهمته الفكرية بسلامة موسى (راجع المقال المطول للأستاذ رجاء النقاش عن كاتب هذه السطور بعنوان "ناقد العقل العربي" المنشور بجريدة الأهرام القاهرية يوم 28 مايو 2000) ؛ فلتكن بداية هذه السلسلة بهذا المقال عن سلامة موسى. ولد سلامة موسى سنة 1887 بمحافظة الشرقية بدلتا نيل مصر لأسرة قبطية. بعد حصوله على البكالوريا أو الثانوية سافر (سنة 1906) لأوروبا حيث أمضى سبع سنوات نصفها الأول في فرنسا ونصفها الثاني في بريطانيا. أثناء إقامته في بريطانيا درس القانون كما إنضم للجمعية الفابية وهى جمعية إشتراكية إصلاحية سميت على إسم فابيوس الروماني ؛ وكان نجم الفابيين وقتئذ الأديب الأيرلندي الأشهر جورج برنارد شو. كما تأثر سلامة موسى بكتابات ونظريات تشارلز داروين. بعد عودته لمصر ؛ صار سلامة موسى عراب الإشتراكية الإصلاحية (أي غير الثورية) كما صار عراب الدعوة للعلم واللحاق بالحضارة الغربية والإنتقاد الكلي للحضارات الشرقية. في 1914 إشترك مع شبلي شميل في تأسيس صحيفة أسبوعية سمياها "المستقبل" ؛ لم تعمر طويلا. وفى 1921 ساهم مع المؤرخ المصري المعروف محمد عبدالله عنان (مترجم أطروحة طه حسين للدكتوراة الثانية من السوربون عن الفلسفة الإجتماعية عند إبن خلدون) في تأسيس "الحزب الإشتراكي المصري". تولي رئاسة تحرير واحدة من أهم المجلات الثقافية بالعربية "الهلال" من 1923 وحتى 1929 (صدرت الهلال سنة 1892 ولا تزال تصدر للآن). في 1930 أسس مجلته الشهيرة "المجلة الجديدة" التي نشر فيها لسنوات خلاصة أفكاره المناصرة للعلم والحضارة الغربية مع نزعة إشتراكية إصلاحية (متسقة مع توجهه الفابي). كذلك كان سلامة موسى من رواد تيار "فرعونية مصر" مع نظرة لم تتخل عن إستهجان الثقافة العربية والأدب العربي. كان الناقد المصري (الماركسي) الشهير غالي شكري من أبرز المنافحين عن سلامة موسى وقيمة رسالته الفكرية. يقول غالي شكري: " كان سلامة موسى يري أن تحرير الطبقات المطحونة من عبودية الوهم والخرافة سوف يؤدي إلي تحرير تلك الفئات من سائر أشكال العبودية". وكان المحافظون (وعلى رأسهم مصطفى صادق الرافعي الذي سبق وأن خصص كتابا بأكمله للهجوم على أفكار طه حسين بخصوص نحل الشعر الجاهلي) يمقتون سلامة موسى ويكيلون له التهم والهجوم المنبثقين عن تعصب ديني أعمي. كان أول كتبه (سنة 1910) بعنوان "مقدمة السوبرمان" ومن أهم مؤلفاته "الإشتراكية" سنة 1913 و "نظرية التطور وأصل الإنسان" سنة 1928 و "غاندي والحركة الهندية" سنة 1934 و "النهضة الأوروبية" سنة 1935 و "مصر أصل الحضارة" سنة 1947 و "المرأة ليست لعبة الرجل" 1956 كما ترجم لحياته في كتابه "تربية سلامة موسى" سنة1947. ويمكن لقاريء مؤلفات سلامة موسى اليوم أن يدرك أسباب تجاهل الكثيرين له وأهمها التعصب الديني وعدم القدرة على الحوار العلمي الهاديء مع أفكاره الصادمة للمحافظين مثل إيمانه الراسخ بالتفوق الكاسح للحضارة الغربية وإيمانه بنظرية داروين في تطور الكائنات وعدم تقديره للآداب العربية بل ولإعتقاده بأن اللغة العربية شريك رئيس في تخلف الثقافة العربية. وإذا كان المناخ الثقافي المصري لم يحتمل برحابة أفكار سلامة موسى خلال سنوات نشره لمؤلفاته (1910 - 1958) فمن السهل أن يجزم المرء اليوم أن مناخاتنا الثقافية الحالية ستكون أشد رفضا لهذا الصوت الجريء الذي قال للمصريين منذ قرابة القرن "أنتم مصريون أولا وأخيرا ؛ وعليكم أن تولوا وجوهكم شطر أوروبا ثقافيا ومعرفيا وأن تؤمنوا بالعلم وإنجازاته وأن تخلصوا عقولكم من الوهم والخرافة وأن تعلموا أن الآداب العربية شبه خالية من الثمار الحضارية التي ستجدونها بوفرة في آداب الحضارة الغربية من زمن هوميروس ويوريبيدوس وإسخيلوس وأرستوفانيس وفيرجيل لزمن تشالز ديكينز توماس هاردي وأوسكار وايلد وفيكتور هوغو وأناتول فرانس وإميل زولا وإبسن وألبير كامو وسارتر وغيرهم من الثمار اليانعة للحضارة الحية الوحيدة اليوم على سطح الأرض.

عن جريدة الاهرام/ 2002