قراءة في كتاب فراس الشاروط الدلالة الأيروتيكية في السينما

قراءة في كتاب فراس الشاروط الدلالة الأيروتيكية في السينما

تمهيد:
هل يمكن الركون الى التعريف الذي يعتبر الجنس قيمة عليا وهبة تكوينية لكل فرد، دون البحث عن العمق الفلسفي لهذه الغريزة وخلق وعي قادر على أن يرتب ويهذب فهمنا لها، كأداة بناء تجعلنا نسخر من الألم المستمر نتيجة للمجهول المتحقق، وتمنحنا القدرة على الاستمتاع بالحياة من خلال أقانيم الجسد الذي بات

ملاذا آمنا أمام الفراغ الروحي والفكري الذي يلف الوقت، الا أن المؤلم أننا مازلنا بحاجة الى مقدمات غربية كي يبدو الأمر مجرد تفاعل طبيعي.
تحولات هذه الغريزة وتوظيف دلالاتها عند الفرد والمجتمع لن تجد فضاء أوسع من السينما لتحقيق ذلك، لما لرؤاها الفنية والجمالية من تفصيل وبيانا كبيرين وأثيرين على النفس البشرية، وهذا مايحاوله بوعي (فراس الشاروط) في كتابه (الجنس والوعي- دراسة في دلالات الجنس بالسينما)*
حيث يذهب الى قراءة تعامل السينما مع أنواع الفعل الجنسي، ورموز اللغة الايروتيكية وصورها وكيفية تحققها فيلميا، ومحاولات السينما المتكررة في رد الاعتبار للجسد المنتهك كقيمة بشرية محترمة، وتقييد الايروتيكا كباعث دلالي في أقرار المعنى الفني، للحفاظ على القيم المجتمعة المعتبرة.
لكن للسينما علة جميلة لاتنتهي في تحقيق ذاتها مهما بلغت الجوانب الاعتبارية الاخرى لأي عمل فني، وفرض مساحة معينة بين التجسد الحياتي والفني ضمن أفق الابداع بشرط الفن زائد التجارة.
ولذا عجزت السينما عن أن تعبر عما ترغب فيه حسب رؤى مبدعيها وأيمانهم بقيمة ما يفعلون، أمام أخلاقيات العصر وشراسة الصناعة ليظل الجنس عري أشاري بصري لا تفصيلي، وأذا تجاوز الفيلم ما يتعارف عليه من ذلك عد فضائحيا واباحيا ومنع من العرض. وقدحوكممخرجونعدةعلىعظمقدرهمالفنينتيجةلذلك.
وقبل قراءة أهم تفاصيل الكتاب ودراسته لبعض أعلام الصناعة السينمائية بتفضيل الجزء الثاني منه والمتكون من أعادة لمضمون الجزء الاول مضافا الى تحليل الكاتب لنماذج فيلمية مختارة، علينا أن نشير أولا الى أجتهاد المؤلف ومثابرته في تجاوز أسوار البحث الاكاديمي صوب مسارات الحلم والامساك بحافز الرغبة الشخصية للابداع، لاسيما وهو المسكون بالاختلاف والتغاير أكثر من أي شيء آخر لتحقيق قدم سبق في موضوع تفتقد اليه المكتبة السينمائية، ويتوجس الكثيرون من الخوض فيه.

برناردو برتولوتشي– التورط الحضاري:
يمزج برتولوتشي جميع معارفه في بوتقة واحدة، لسرد حكايته المثيرة للجدل حول أزمة الاغتراب الانساني وهوس الحرية الجنسية، في فيلمه (التانغو الاخير في باريس)، عبر جدل حضاري للأخذ بخطاب الواقع على فرض ألغاء الآخر وبيان هشاشته وانهزاميته، صراع أمريكا العجوز واوربا الفتية الشابة.
وحسنا فعل الكاتب في أشارته الذكية الى أن الفيلم رد مباشر على رواية(لوليتا) لناباكوف، أن لم يكن الضد النوعي له، ومع أن هذا المبحث الاجمل – بالنسبة لي- في كتاب الشاروط، فقد تخللته بعض الالتباسات تسجل على المؤلف، والفيلم بالذات، فرؤيته برتولوتشي العنصرية المنحازة تعتلي المفاهيم الانسانية في خضم صراع المحن الاخلاقية والحضارية بين الافراد والامم.
ورغم التاريخ الاستعماري المشترك وتسامي العلاقة بين الجنرال (أمريكا) والشابة الفرنسية(أوربا) محور الفيلم، وتسيد الحسي وعلوه خلال ذلك الشغف تنتهي هذه العلاقة بقتل الشابة لعشيقها بعدما عجزت عن أحتماله، مع ولهه وصفائه لها ليفصح التشوش والارتباك عن عيب نفسي وروحي واخلاقي ظل يعتمل العلاقة التي لابد ان ينفصم عراها هكذا، ويسقط بين يدي (برتولوتشي) مفهوم الايروتيكا كحل ناجع لازمة الاغتراب، ويتضح قصور رؤيته حينما يقر مذعنا بانها ذات الاسباب التي انتجت هذه الحضارة،وخلقت مظهر تدهورها وبالتاكيد ليست هي الحلول المقنعة للواقع الجديد.
أمر سيتكرر عند كوبريك وبريغمان أيضا باختلاف أطر تقديمه فالخلل حضاري بشكل عام، ألا أن المؤلف أهمل الاشارة اليه كحل جمعي فاشل، أما الآخرغير الغربي تتمة الحكاية يبقى خارج الصراع وشيئا مموضعا في خدمة الذات حتى في أزمتها، فهو أسم كلبها ولذتها ومصدر خيانتها وموضوع كرهها ومجدها الزائف، فالجزائري كغيره مقبول لانه فرنسي لغة ومكانا لابوصفه جزائري لغة ومكانا.
ولايجد المؤلف بدا من تاييد المخرج مع التأثير السلبي لفكرة السياسي وخلل رؤيته الفنية، ولايعنيه تبدل المواقف او جديتها (يمثل الموقف الاصيل لبرتولوتشي من العالم بكل معطياته، أنه متفرد، خلاق، وصاحب رؤية سياسية ثاقبة) أو (أن التباس برتولوتشي السياسي قد يكون عنصريا أو احاديا في رؤيته لكنه صادق في محاولة فهم أزمته وخلق حلولها)، المؤلف قد يعييه قليلا لتحويله السياسي الى اجتماعي.
تلك الصياغات السريعة وغير المتصلة يكررها المؤلف في مباحثه الستة عند تحليل الافلام لتأتي الاستنتاجات بتعابير مختلفة أحيانا في أطالة تفضي الى رؤيتين في ذات الموضوع، تفرض على المؤلف الخروج من دائرة التاثير بالضوء الساطع لصناع السينما ومراجعة متأنية تجعل مايكتبه أكثر جزالة واناقة في موضوع مهم وشائك كالذي أنجزه

ستانلي كوبريك –أفتقاد الطهارة:
يعمد كوبريك في فيلمه (عيون مغلقة بأتساع) الى السخرية الحادة من طغيان الجنس والوعي السائد ثم قواه المحركة في تشويه البناء النفسي للانسان المعاصر، هي سخرية بعنوان الدفاع الذاتي ضد الخوف الكامن في النفس، فـ(كوبريك) ذو طهرانية دينية (يرجع دائما الى يهوديته في فهم أعماله) ووعي مستقل لاخلاقية فكرتي الشر والخطيئة، وعلاقتهما بالجسد والتوغل بعيدا لفهم فشل الروح ف التماهي مع الرغبة الكامنة، ويمكن لنا نتيجة لاستقرار مساره الفني رسم صورة موجزة لعالمه فهو يأمل في: أعادة الحياة والطاقة التعبيرية والجمالية الى المبتذل ايروتيكيا ف السائد من السينما، وأدراك المتلقي أن ثمة جدة واختلاف في بنية العناصر الموظفة للعمل، فالاصرار على العري رمز لتعرية الذات وكشف هشاشتها وضعف وجودها، وبمناسبة الجدة الصارمة لديه أصر على جلب زوجين حقيقيين لفيلمه (توم كروز ونيكول كيدمان) وكان يخرج الجميع من الاستوديو ويبقى لوحده معهما عند تصوير المشهد الجنسي، كوبريك يعنى باختيار مايريد قوله مع التحسب لفكرة التصاعد الفني بفضل ممارسة عمله خارج السائد من السينما، فجدله شمولي رغم ذاتيته وهو سبب قبوله بمصالحة الواقع بعد نقده السابق له، والقبول مرة أخرى بالجنس كحل (وان تم بشروط) بعد العجز ف ردم الفراغ الحضاري الذي سببته افعال الايروتيكا اولا، فلا نجاح للمبادرات الشخصية امام تردي الواقع مهما كانت شجاعة.
وينظر الى أن المؤلف وتحليلاته لافلام وشخصيات كوبريك يقترب بعض الشيء من طهرانية المخرج للجنس كفعالية تسخر او تهدم كل أنواع السلطات وعنفها وهوسها، وأن كانت حلا لابد منه،ولو بشروط معينة.

انغمار بريغمان– وهّم اللمسة:
يمتلك برغمان ذهنية فلسفية وجودية لبيان موضوعاته الملحمية بشكل متوالي في افلامه (الحب- الجنس- الدين- العزلة- السلطة- وطغيان النظم السياسية) دون كلل بمعية أسئلة الشك الدائم لبحث أزمة الوجود الى الحد الذي يهمش فيه فنية اعماله مقابل منحها فنية الذهن العميقة، من غير ان نعدم الظلال الكثيفة للشخصي والغالية بدوامها على الهامش او البعد الفلسفي للصانع الماهر (بريغمان) وسنجد الخوف- مثلا- يهمش مؤسسة الزواج ويسعى بكل ما أوتي من عدمية لموحها وكشف زيفها كما يفترض (هربا مما آل اليه مصير والديه).
بل يذهب الى ألغاء الحضور الديني في افلامه اساءة وانتقاما من ابيه (رجل الدين) مما يعرضه كما نرى الى سلبية غريبة دون حل، وهو يقطع الطريق امام اقوى الصفات الانسانية، وبمفهومه الغائم والمثالي المقرون بفوضى الانانية عن الحرية يبتعد عن حرية الاختيار لتمنح هذه التشاؤمية الطاغية الفرصة لتمثل المأساة حتى في الجنس والحب، فعندما يقر بالحب ويكون أمرا ممكنا لقيادة الفعل الحياتي، ويتوجب لذلك فيض جنسي يؤسس له، يشكك بريغمان بوجود عنصري الحب والجنس اصالة بعدمية تظل مجرد أسئلة مؤرقة للرد على الدوام.
اللمسة فيلم مفتعل أخضع فيه المخرج عنوة ادواته الفنية والفكرية للسقوط في فخ انسانية مفترضة، والدفاع عن عنصرية،مؤطرا موضوعه بالاثر الديني الفود العالم الاوربي للاحساس بعقدة الذنب ازاء ضحايا الهولوكوست فكل ما وجميع افعاله ستكون مبررة مهما بدت مستنكرة وغير انسانية (كاذب- مغتصب- خائن).

أوشيما- ايقونة الالم:
يجتهد أوشيما في فيلمه أمبراطورية الحواس الوصول الى نتيجة مقنعة لوجود الفرد المتوازن وصراعه الدائم مع الفعل الحسي عبر رغبته المتفاقمة والموغلة في الشهوة حد الموت، ولا يعني الحسي هنا محتوى أولي ووحيد خلال حكاية الفيلم العنيفة بين (السيد وخادمته سادا) ومختلف العلاقات الفرعية الاخرى، فـ(أوشيما) ليس بتلك السذاجة والمجانية الدعائية المقتصرة على ذاتية الحسي كغاية، فألى جانب استخدام الجنس كسلاح ضد القهر الطبقي والعمل على اعادة تراتبية تلك العلاقات الطبقية بين الافراد، هنالك الالم- الموت- العنف، ايقونات اوشيما المتأصلة في بحثه عن معنى وجود الفرد وخلاصه وفق وعيه بحضارته ومجتمعه ويؤكد على تمسكه بعادات وتقاليد مجتمعه الياباني، حيث سطوة الحسي وتحكمه في الوعي كمعنى أصيل لتلك الحياة دون ان يهمل الاشارة لما تفعله سلطة العسكر كسلطة تمارس القهر ايضا ضد الفرد، القهر الذي سيجعل (سادا) تقتل سيدها لانهاء أزمة طبقتها المقهورة، وهم آخر يفقد الفعل انسانيته مهما تعددت المسوغات لذلك وتحكم دائرة اليأس امام وجود الانسان ومصيره كما يرى اوشيما والذي سيتخلى عن هذه الاسئلة بعد ذلك فلعله تعب أو لم يعد يحتمل، لكنه تفوق على الجميع في نماذج الكتاب السينمائية حين يقدم نجاح وفشل الايروتيكا أمرا يرتبط بالواقع الطبيعي للانسان بسطوة الجسد اولا وعنفوانه ثم فقدانه لمسببات فتوته كلما تراكمت السنوات بين ايدينا واغلق الجسد ابعاده امامنا كملاذ آمن وينتهي السؤال.

فريد بو غدير- سقوط الذات:
يحاول (بوغدير) عبر سرد ذاتي نقد البنية الاجتماعية في جميع تحولاتها، بحيث يكون فيلمه (عصفور السطح) مقاربة الثالوث المحرم والمقدس بذات الوقت، الا ان تكرار مقاربة المحظور امر لا يفضي الى حل عندما يؤمن بوغدير اي يتوهم به سلوكا وفعلا لمحور المجتمع وكينونته، او غايته المنتظرة لا سيما وهو العاجز عن تقديم وعي مقابل لما يرفضه، ليعلن تخلفه عن واقع مجتمعه، تراجع لم يتأتى عن قصور وعي شخصي، بل فخ نصبه لنفسه ارضاءاللاخر الاجنبي تحت سيطرة الانتاج المشترك، في استبدال مذل لرؤيته ورؤية مجتمعه بما يوافق ما يعتقدهالآخرفهو يجتهد كأساس لسلبية المجتمع ورمز للظلامية والجحود الفكري والانساني، الى حد المتاجرة بالرقيق كواحدة من اساسياته، دون ان يدرك ان تلفيقاته الفارغة قد عافها الغرب قبلنا بعقود.

فلليني- تهشم الاقنعة:
أفقد فلليني بمنظومته الفيلمية بشكل عام وبفيلمه (كازانوفا) بشكل خاص قيمة المراهنة على الايروتيكا كحل للازمات النفسية والعاطفية، وسعى بكل مايملك من حذق الى تهشيم تلك الاقنعة،وفي كتاب الشاروط الاستثنائي هذا يأتي كازانوفا فلليني جواب واضح ومستقيم لكل الارتباك واللاتوازن الذي خيم على أطروحة من سبقه من صناع السينما الافذاذ (برتولوتشي- كوبريك- بريغمان) وليغلق دائرة الاسئلة تلك بسهولة، لكن الشاروط يرفض ما ينتجه فلليني من معان جديدة لمفهوم الجنس تبعا لاخلاقياته الكاثوليكية، وتقسيمه الجنس الى عاطفي مقبول يعتمد الحب، وآخر شهوي ايروتيكي صريح مرفوض ومسخور منه، ليرى المؤلف زيف ذلك رغم الغطاء الاحتفالي والفني الملقى على جوهر رؤيته، لأن البعد الايروتيكي هو السائد في الفعل الجنسي ومصحوبا بالعاطفة ومقدمة مشروطة مهما كان زائفا، وقد يبدو هذا الرأي مشوشا بعض الشيء بالنسبة لي فزيف ووهم فلليني يشير الى وهمه بالذات.
لكن الشاروط يؤكد بان فلليني لايريد عند اختياره لشخصية كازانوفا تحليل الايروتيكا كذات فقط وليس هو بداعية يحتفي برموزها، بل ساعيا الى ما يتناسب مع نقده الاصلاحي ورؤيته الاخلاقية من عمق، لكن في صفحات أخر وعند تحليل مشهد السيرك يصف فلليني بالطوباوية والبراءة المثالية والطبيعية الحلمية التي تسود علاقاته مع ما حوله ولا وجود لذلك في الواقع- الكاتب-، ثم أن فلليني وباصرار غبي يتوهم خوفه الشخصي من ابعاد شخصية كازانوفا خوفا عاما في النفس البشرية- الكاتب-، مثل هذه الاطروحات سنجدها تتكرر في جوانب اخرى من الكتاب.
غاية فلليني الكبرى والملحة في تهميش أعلى نموذج ايروتيكي (كازانوفا) وافراغه من سحر طاقته الايروتيكية في الطريق الى نقد زيف البنية الاجتماعية وتصنعها بعدما بات انحطاط الواقع الايطالي بعيدا جدا عن القيمة الاخلاقية لمكانة الفاتيكان وحضورها المقدس، وفللينيهو الاقدر على تهشيم الاقنعة رغم اخلاقياته الكاثوليكية الفنية.
في النهاية يبقى كتاب الناقد فراس الشاروط هذا واحدا من الاثار النقدية المهمة للسينما وظاهرة الجنس واضافة غنية بحق للمكتبة السينمائية العربية ومرجع حقيقي مهم لا غنى عنه.