غوركي ..الواقع و الطموح الإنساني

غوركي ..الواقع و الطموح الإنساني

ترجمة/ عادل العامل
عندما التقى غوركي تولستوي في عام 1900، كان الرجلان أشهر كاتبين في روسيا. و كان تولستوي طويل عهدٍ في " تحوله " الديني، و قد هجر الأدب و أعد نفسه باعتباره مخلِّص روسيا القلق الحكيم، و راح يبشّر باللاعنف و الروحانية الشخصية، و هو يرتدي زي فلاح،

و يستقبل حجَّاجاً و ساعين إلى الحقيقة من كل أركان روسيا و العالم. أما غوركي، فكان كاتباً شاباً يبحث عن معبود أدبي. و تعد مذكراته عن تولستوي واسطة العقد في مجلد دونالد فانجَر الجدبد الفاتن من الترجمات.
غوركي في مذكراته عن تولستوي
إن المذكرات، التي يترجمها فانجَر للمرة الأولى بتمامها، متهرئة الحواف، و قاسية بشكل مدهش، و لا يمكن التنبؤ بها، و تتسم بالتقمص العاطفي إلى حد أنها تكاد تكون أشعة إكس لشبح. و هذه المذكرات، المؤلفة من أربعة و أربعين جزءا ًيتضمن حكايات نادرة و اقتباسات، إضافةً إلى رسالة غير مُكمَلة مكتوبة بمناسبة وفاة تولستوي، تجمعها معاً التناقضات ــ جاذبية سحر تولستوي الكونية و احترام الذات مقابل صلابة الرأي العنيدة في وعظه الفاتر؛ إصرار تولستوي على البساطة الفلاّحية مقابل تأمله الصامت المعذب للتعقيد، الإنساني و الإلهي؛ الحنو على الإنسان، الواسع جداً إلى حد أن غوركي يكاد يغرق فيه و كأنه البحر، مقابل حقد غوركي الدفاعي.
و بكونه مفتوناً على الدوام بالطريقة التي يخاطب بها الناس الله أو يتحدثون عنه، فقد شعر غوركي في وعظ تولستوي بالطابع الزائف المهتز الذي يتَّسم به غير المؤمن. و تُعد مذكراته رسالة بديلة تتعلق بتعاليم و تناقضات إنسان شبيه بإله، أعاد نفسه كتابة الأناجيل بحثاً عن إله يمكن أن ينقذه . إنها كما هو واضح سيرة تقديسية hagiography، لكنها سيرة تخرج عن طريقها لتؤكد أن موضوعها ليس بقدّيس. في هذا، كان غوركي يتحدى عبادة تولستوي، التي كانت تصر على الاستشهاد الحقيقي لقديسها الشفيع. لم يكن إعجاب غوركي بتولستوي لإيمان غوركي الكبير بالله، و إنما لإيمانه الكبير بالكونت تولستوي. فقد بحث في العالم عن مستشار روحاني،إمامٍ لنظرية سمو البشر التي ستمكِّن بلاده من تجاوز ظلام الماضي و قساوة الحاضر و جهالته العديمة العقل، و وجد تولستوي ، الذي لا بد أنه قد بدا له تجسيداً لآماله.
إن صور غوركي الأدبية تنطوي على ثقافة القراءة التي كانت موضوعاتها تعيش فيها : الكلاسيكيات، و البحوث المنسية، و المجلدات المدروسة، و الروايات المثيرة التي تُذكَر بأنفاس واحدة و تُمرَّر بين المتحاورين مثل أوراق اللعب. و تتأرجح الإشارات إلى الوراء و إلى الأمام مثل القراقوزات. فمذكرات تولستوي تتضمن واحداً من أكثر التقارير حيويةً أينما كان عن مادية physicality المحادثة الأدبية، جو الخشونة و الشجاعة، الإهانات، مقارنات الكتَّاب أحدهم الآخر بالنساء الفاتنات، التأكيد على العمل و كمال التقنية، تهذيب الأسلوب و الشخصية. و تبدو المحادثات بين تولستوي، و غوركي، و تشيخوف، و صديقهم ل. أ. سوليرشيتسكي، و كل واحد يتنافس على ود ليو نيكولايفيتش، شبيهةً بخليط من مباراة الملاكمة، و حفلة شاي، و قرار باريس، و حجٍّ إلى ناسك متنور متضرر. و يمثل تشيخوف جاكوب قياساً على أيسو غوركي، لكنه لا يحتاج إلى فروٍ على ذراعيه لينال بركة البطريرك : ذلك أن نعومته ــ " مثل سيدة شابة " ــ هي ما يفضلّه تولستوي خفيةً.
و يظهر تولستوي في المذكرات كإلهٍ روسي " يجلس على عرش من خشب القَبقَب تحت شجرة زيزفون "؛ ساحر؛ إله من آلهة الغابات بفمِ بحّار؛ سفايتوغورSviatogor، الذي يعني اسمه " الجبل المقدس "، البطل الروسي الذي لا تستطيع الأرض نفسها أن تحمله؛ قوة الطبيعة. و لقد رآه غوركي في القرم مرةً يسير على طول حافة الساحل :
و فجأةً، للحظةٍ مجنونة، شعرتُ بأنه يمكن أن يكون على وشك الوقوف ليلوّح
بذراعيه، فيجري البحر هادئاً و زجاجياً، و تتحرك الصخور و تبدأ بالصياح،
و يهيج كل شيء هناك و يحيا و يروح يتحدث بأصوات مختلفة عن نفسه، و
عنه، و ضده. و لا يمكنني أن أعبر بالكلمات عمّا شعرتُ به آنذاك؛ كنتُ مليئاً
بالنشوة و بالرعب معاً، و عندئذٍ جاء كل شيء سويةً في فكرة سعيدة واحدة :
" لستُ يتيماً على الأرض ما دام هذا الرجل حياً ". ]
و في حين يوجه إلى عمل تولستوي، خاصةً (الحرب و السلام )، اعتراض على فكرة " الرجل العظيم "، تسجل حياة غوركي و عمله بحثاً متواصلاً عن مثل هذه الشخصية بالضبط ــ " الرجل Man بحرف كبير "، كما كان يدعو لينين. وكتب يقول، " أعتقد بأن مثل هؤلاء الرجال ممكنون فقط في روسيا، التي يذكّرني تاريخها و طريقتها في الحياة بسدوم و عمورة (1) " و غوركي، في صوره الأدبية، منجذب كثيراً إلى موضوعاته إلى حد أن إعجابه يقارب أحياناً التقلب الحرباوي. و في صورة فوتوغرافيةغريبة من عام 1920، يقف لينين في الأمام بينما نرى غوركي الأطول كثيراً و هو في بدلة مماثلة و بشعر رأسٍ محلوق، يميل بصعوبة إلى جانب وراء معبوده، مثل صورة مرآتية مطوَّلة مثيرة للشك. و المشهد صحيح ــ غوركي الملتصق، الببغاء، المعاون الدائم.
لقد كان غوركي يبحث عن رجل ذي " إيمان ٍ حي "، لكنه في تولستوي استقر، للسخرية، على تجسيد أزمة العصر الروحية العظمى على وجه الاحتمال. و كان تولستوي يلتمس الصدق البسيط للفلاحين، و بدلاً من ذلك واجه عينًي ثوري بروليتاري تتقدان عند فكرة قابلة للتطبيق. و قد أخطأ كلٌّ منهما الآخر في الظن بأنه الآتي بحسن الطالع لقضيته. و في تأمله نظرةَ تولستوي إلى التأثير الغربي على روسيا، لاحظ غوركي أن " شخصية تاريخنا المتأوجة ... كان يرغب ( شعورياً و لاشعورياً معاً ) في أن ينتصب كجبل عبر الطريق الذي يؤدي إلى أوروبا، إلى تلك الحياة النشطة التي تتطلب من الرجال أقصى تركيز لكل قواهم الروحية ". و يمثل تولستوي " روسيا القديمة " التي ستخلّفها الثورة وراءها؛ لكنه مع هذا قدم شيئاً لم يكن باستطاعتها أن تنجح من دونه.
و حين نشر غوركي مذكراته عن تولستوي في عام 1919، في ذروة الحرب الأهلية الروسية، كان و لا بد يفكر بلينين. ( سيكون من المفيد الحصول على ترجمة من فانجر لمذكرات غوركي عن لينين، التي تحتوي في نسختها الأصلية المثيرة للجدل ــ و لم تُترجم بالكامل ــ على مديح لينين لتروتسكي و تعليق غوركي حول سدوم و عمورة المستشهد به أعلاه، إلى جانب ملاحظات مريرة بشأن الفلاحين الروس ). و في أعقاب الثورة مباشرةً، أصبح غوركي المصدر الأبرز للنقد الداخلي لطرق و إيديولوجيا حكومة البولشفيك. و نشر مقالات تهاجم بعنف لينين و السلطات لوحشيتها، و عنفها الاستبدادي، و ازدواجيتها في المعاملة، و تجاهلها المتصلب لأنتيليجيستيا (2) روسيا ( أي فئة المفكرين و المثقفين فيها ). و لم يكن هناك مؤمن بالثورة الروسية أعظم من غوركي، و كان يعتقد بأنها تستطيع أن تسلك طريقاً آخر. و كان الطريق الذي سارت فيه لا يشبه في شيء الطريق الذي حلم به.
و كان شكلوفسكي يدعو غوركي بـ " نوح الأنتيليجيستيا الروسية ". فقد شكل لجاناً لتوفير العمل و المأوى للشعراء و الدارسين الروس المهددين، مؤلفاً مئات رسائل التوصية، و كان يشتم لينين بالتلفون. و راح يؤمِّن بطاقات تموين من خلال الزعم بأن جميع الكتَّاب هم أفراد أسرته، متباهياً فجأةً بوجود عشرات الأخوان، و الأطفال، و الزوجات لديه! و الأبرز هنا بين مجازفاته ( دار نشر الأدب العالمي )، التي انطلقت تترجم إلى الروسية الكلاسيكيات الأدبية العالمية من أجل " القارئ السوفييتي الجديد ". و كان يجلس في مكتبه، يتناقش مع أفضل مترجم لملحمة جلجامش بينما كان إطلاق النار المتقطع يُسمع في الشوارع.
و كان جزء من مشروعه، لجنة التمثيل التاريخي، سيُنتج مسرحياتٍ مستندة على كل حدث عظيم في التلريخ البشري. و حين قرأ ألكسندر بلوك، أحد شعراء العصر الكبار، مسرحيته عن حياة الفرعون رمسيس، علق غوركي فجأةً، " ينبغي عليك أن تعملها مثل هذا قليلاً "، و مدَّ ذراعيه إلى الجانبين مثل مصري قديم. كما كان هناك ( ستوديو الترجمة الأدبية )، ( دار الدارسين )، ( مفوضية الخبراء للحفاظ على الأشياء الوطنية ) و غيرها. ( و من الجدير بالذكر أنه في رواية المحاكمة لكافكا، كان النشاط العام الوحيد الذي يشارك فيه جوزيف ك. هو جمعية الحفاظ على صروح الفن البلدية ).

غوركي في المنفى
لقد كان إيفجيني زامياتين، مؤلف رواية الخيال العلمي ( نحن )، التي ظهرت في عام 1921، يتصور مغامرة الأدب العالمي كسفينة فضاء في بعثة ما بين الكواكب تبدأ، بعد حادثٍ، بالسقوط، و لو أن سنةً و نصف سنة ستمر قبل أن تصطدم السفينة فعلياً. و تساؤلاً منه عن الكيفية التي سيتصرف بها الرحَّالة هؤلاء، طرح القصة على غوركي، الذي رد عليه : " في غضون اسبوع، إذا لم يحدث شيء، سيبدأون بالحلاقة و كتابة كتب و بوجهٍ عام يتصرفون كما لو كان لديهم في الأقل عشرون سنة أخرى يعيشونها. ... لقد صرنا نعتقد بأننا لن نكون مبعثَرين، و إلا فنحن ضائعون جميعاً ".
كان قرار غوركي مغادرة روسيا في عام 1921 قد تم على الأرجح بسبب تحرره الشديد من الوهم المتعلق بالحكومة السوفييتية ــ و كان بلوك قد مات بمرض الأسقربوط، و الاستنزاف، و اليأس الروحي؛ و أُعدم شاعر آخر لمشاركته افتراضاً في مؤامرة. كما أنه تلقى تشجيعاً على نحوٍ متكرر للمغادرة من لينين، الذي زعم أن رئتي غوركي الضعيفتين بحاجة إلى الراحة. و كان غوركي غاضباً بشدة من لينين، الذي انتقده باعتباره نظرياً " ينفذ تجربة كواكبية " فشلت. و قد أقلقه كثيراً ظرف روسيا، التي كانت تعيش مجاعةً كارثية. و بعد ثلاث سنوات من التنقل في أوروبا، و جمع الأموال لإغاثة المنكوبين بالمجاعة، انتقل غوركي إلى فيلا في سورينتو المطلة على جبل فيسوفيوس، حيث عاش لمدة عشر سنين تقريباً قبل أن يعود بشكل دائم إلى روسيا. و بينما كان يعيش في المنفى، تذكر مشهداً من أيامه مع تولستوي :
سأل تولستوي سحليةً ذات مرةٍ بصوتٍ خفيض :
ــ " هل أنتِ سعيدة، ها؟ "
كانت السحلية تتشمّس على صخرةٍ في الأحراش على امتداد الطريق المؤدي
إلى ديولبَر، و قد وقف تولستوي مواجهاً لها و يداه ثابتتان في حزامه الجلدي.
و راح ذلك الرجل العظيم يتطلع من حوله بانتباه، و هو يعترف للسحلية :
ــ " إنني لست ... "
( و لقد كتب هنريك هاينه، الذي كان بلوك يترجمه لدار نشر الأدب العالمي، قائلاً في واحد من مشاهد تنقلاته الإيطالية إن السحالي على سفح تلٍ معين كانت قد بيَّنت أن الأحجار كانت تتوقع أن يتجلّى الله بينها على شكل حجر ).
فأين كانت الثورة، بصورتها الجوهرية عن الرجل الباحث عن معنى؟ يسجل أحد المصادر أنه، في إيطاليا، تلقى غوركي ثلاثة عشر ألف رسالة من روسيا. لكن أية أنواع من الرسائل كان يتسلَّم؟ وفقاً لأرشيف الـ (3) KGB، كان الكثير منها من مواطنين سوفييت يفصّلون فيها مظالم و لامعقوليات الحياة الروسية. و إقناعاً منه لنفسه بأن روسيا رغم هذا على الطريق الصحيح، اختار غوركي ألاّ يركّز على تحذيراتهم.
و يبدو أن غوركي، مثل تولستوي، قد مر خلال منفاه بمنعطف روحي أرغمه على أن يتخذ وضعاً زائفاً. لكن في حين تطلَّبت أزمة تولستوي أن يتبرأ من حياته الماضية باعتبارها مخطوءه على نحوٍ مضر، فإن أزمة غوركي أجبرته على التصرف كما لو أن أفعاله الماضية، و الثورة عموماً، كانت سليمة. و ما كان على الرهان هو مكان غوركي في القصة التي كان قد قضى حيانه و هو يُنشئها : إذا كانت الثورة عملاً فاشلاً، فإن دوره كنبيٍّ و شاعرٍ لها سيكون بلا معنى، أو أسوأ.
و قد اتَّسمت عودة غوركي إلى روسيا بغضب شديد من إعادة تسمية بعض الأماكن على شرفه، باقتراح من ستالين : الشارع الرئيس، المتنزه المركزي، و المعهد الأدبي في موسكوإضافةً إلى مسرح الفن؛ مدينة و إقليم نيشني نوفغورود؛ مئات المزارع الجماعية، و المعامل، و المدارس ــ كلها أخذت اسم غوركي. و قد مُنِح قصراً و عزبة خارج موسكو و في القرم.وفي عام 1932، طارت فوق موسكو طائرة سُميت (مكسيم غوركي)، متباهيةً بأعرض مسافة بين طرفي الجناحين في العالم. (تحطت الطائرة في العام التالي). و في نهاية حياته لم تعد موهبة غوركي في تذكّر أسماء الأماكن ضروريةً : فكل مكان يذهب إليه كان يسمى غوركي!
و هكذا أصبح غوركي المدافع الأبرز الوحيد عن نظام حكم ستالين. و خلال الاندفاع نحو الجماعية ، التي نجم عنها موت ملايين الفلاحين، قدم شعاراً لكفاح السلطات ضد الكولاك : " إن لم يستسلم العدو، يجب أن يُباد ". و ربما كان الأسوأ سمعةً، أنه قاد حملة من الكتَّاب إلى موقع قناة البحر الأبيض، المشروع الإنشائي الضخم الأول الذي تم بعمل السجناء في الغولاغ، و الذي مات خلاله أكثر من عشرة آلاف سجين. و قد حرر غوركي و ساهم في مختارات أدبية تُثني على ذلك العمل لطموحه و تأهيله المجرمين. و قد أوضح الباحث الدراسي جون فريكسيرو أن ( جحيم ) دانتي يشابه معسكراً للسجناء. و عند عودة غوركي من ذلك الجحيم، أخبر العالم بأنه كان مطهراً Purgatory فقط (4). و مع هذا، استمر غوركي، في الوقت نفسه، في كتابة رسائل إلى الشرطة السرية من أجل " إطلاق السجناء أو التساهل في العقوبة ". و يبدو أنه أُبقي تحت اعتقال منزلي مرهق في " بلاد الفراعنة ". و ذكر مراقبون أنه نادراً ما كان يمس الطعام في المآدب المقامة في منزله. و في نهاية حياته، أُعطي غوركي، المؤمن العظيم بالأدب الإيجابي، صحفاً مطبوعة بشكل خاص مع " الاختصارات و التعديلات الضرورية ". و قبل موته بالضبط، اقترح أن تجري تعبئة مئة كاتب لمشروع جديد :
إن الأدب العالمي و التاريخ كله، تاريخ الكنيسة و الفلسفة يجب أن تُعاد كتابته:
غيبون و غولدوني، الأسقف آيرَنيس و كورنيل، البروفيسور أنفيلونوف
و جوليان المرتد، هيزيود و إيفان فولنوف، لَكريشوس و زولا، جلجاميش
و هايواثا Hiawatha، سويفت و بلوتارك. السلسلة كلها يجب أن تنتهي مع
الأساطير الشفوية حول لينين.
و كانت الخطة غوركية الطابع ــ تشكيلة من القراءة، و حب العمل الجماعي، و التأكد من أن الجواب يمكن أن يوجد في الكتب، و التعصب للتصحيح. و كان الذوق مريراً.
غوركي و إيمانه الثابت بالإنسانية
وجد تولستوي أن الحقيقة هي مسواة leveler تمسح كل جانب من الحياة، مخلِّفةً نفس جدب الموت و المعاناة القاسي. و قد هزه ذلك، و كانت " تعاليمه " مقامة و مبشَّراً بها في مسعىً لتجديد إيمانه هو. مع هذا كان إيمانه بنفسه على الدوام واسعاً جداً. و كان رجلاً عظيماً و كان يعرف هذا. و لم يكن موقفه تجاه الحقيقة يتذبذب في الواقع، لكنه لم يستطع جعل نفسه تواجه بالكامل نتائج بحثه عنها. و كانت النساء يذكرنه بالموت، و لهذا كان يكرههن.
أما غوركي، مقارنةً به، فكان يشعر بالرثاء الشديد و الشفقة على الجنس البشري، لكن كما يبدو كان يلاحقه الشك في أن الصراع قد حُسم، أن الجُعالة هي على العالم و على المعاناة. و ما يبينه كتاب فانجر على نحوٍ لافت للنظر هو إلى أي مدى بلغ كتّاب آخرون رقم غوركي، حتى مبكراً و إلى ما بعد ذلك. و خلال الحرب الأهلية الروسية، كان بلوك قد أخبر غوركي ، على درجات سلم ( دار نشر الأدب العالمي ) : " لقد أصبحنا أذكياء جداً على الإيمان بالله، و لسنا أقوياء بعدُ بما يكفي للإيمان بأنفسنا. و كأساس للحياة و الإيمان هناك فقط الله أو أنفسنا. الإنسانية؟ هل يمكن لأي شخص أن يؤمن بمعقولية الإنسانية بعد الحرب الأخيرة، مع حروب جديدة، محتومة، و أقسى، في المستقبل القريب؟ " غير أن غوركي وضع إيمانه في الإنسانية. و راح يزخرف و يصقل الإنسانية بحيث يحافظ على إيمانه مصوناً. و قد قال تولستوي لغوركي " تريد على الدوام أن تصبغ فوق كل الحزوز و الشقوق بطلائك أنت ". و كان غوركي، مثل تولستوي، غير قادر على مواجهة الحياة كما توهم أن تكون، لكنه كان يفتقر إلى الإيمان بقواه الخاصة به التي منعت تولستوي من ارتكاب خيانة ذاتية حقيقية. و كان ذُعر غوركي من انعدام القوة شديداً إلى حد أنه في الآخر يحابي القسوة نفسها على الإقرار بالقسوة. و يبدو أنه آمن بأنه من أين قام، هناك في " الأعماق السفلى "، ليس من مكان يمضي إليه إلا إلى أعلى، و بأن الناس بحاجة لأن يقتنعوا بالكفاح إلى هذه الغاية. فأي قمعٍ سيكون مؤقتاً. و كان غوركي، و هو المؤمن على الدوام بالتنقيح، يعامل روسيا مثل كاتب شاب يحتاج فقط لأن يلقى التشجيع و تحرير كتاباته أكثر فأكثر. و كان على خطأ : كان هناك عمق أكثر انخفاضاً حتى. و قد جعلته حاجته إلى تزيين الحياة ينحاز إلى أولئك الذين، من أجل أغراضهم الخاصة، أرادوا أن يُظهروها أسوأ مما هي عليه. و تحوَّل المخطوط المصحح إلى تسهيل facility تصحيحي.
مع هذا فإن مذكرات تولستوي غريبة و مؤثرة جداً بحيث أن من الصعب إدراك ما أعقب ذلك تماماً. إنها عمل عظيم ( لم يقترب غوركي من نوعيتها أبداً لا قبلها و لا بعدها )، لكنه ليس بالعمل الحديث الطابع؛ و من المظلل تصنيف غوركي بين أنبياء القرن العشرين الساخرين، حين كان من نواحٍ كثيرة كاتباً من القرن التاسع عشر استمر في العيش إلى القرن الشنيع التالي. فالمذكرات تفتقر بشكلٍ مطلق إلى السخرية. و هناك عنصران قد ضلَّلا قرَّاءها كما يبدو. الأول هو موضوعها : إذ يظهر تولستوي نفسه على أنه الممهّد المعذب، المهيب للانسان الحديث ــ موسى المعاصرين الذي يُنعم النظر في الأرض الموعودة لكنه لا يدخلها. و يبدو أن القراء قد أخذوا هذا على أنه يعني أن غوركي كان حديثاً أو معاصراً أيضاً، بينما القطعة بكاملها في الواقع يمكن قراءتها كمحاولة منه لمبادلة يقين (دين ) بآخر (الإيمان الجماعي بالإنسان). أما العنصر الثاني، فهو شكلها المتجزّئ، المفتوح النهاية، الذي لا يبدو حديثاً فقط، بل حتى حداثوياً modernist. فبالنسبة لغوركي، على كل حال، لم يكن هذا الشكل متصوَّراً بروح حداثوية، من منطلق التجريب و السخرية، و إنما من منطلق الضرورة. فعندما يكتب أنه لا يستطيع أن يُنهي رسالته، فإنه يعني ذلك؛ فهو بالفعل لا يستطيع أن ينهيها. لكن بالنسبة لنا، يمكن أن يكون هناك فقط كتابة حديثة. لقد فقدنا القدرة على الكتابة بيقين غوركي، أو حتى قراءته بيقين. فحيثما رأى غوركي جسراً، رأينا نحن هاوية. و كان هناك بالتأكيد حس بالبروميثي (5)Promethean في آمال غوركي بالثورة الروسية. أن الإنسان سيحرز لنفسه سماتٍ من سمات الآلهة و يبدلها تدريجياً، متخلصاً بهذه الطريقة من كل المعاناة و الفوضى. و لقد أعاد كافكا نفسه سرد قصة بروميثيوس، قاسماً إياها إلى أربع أساطير. في الأولى، كان بروميثيوس مقيداً إلى الكوكاسيس لخيانته الآلهة لصالح البشر، و راحت النسور تتغذى من كبده، الذي كان يعود إلى حالته باستمرار؛ و في الثانية، كان بروميثيوس يضغط نفسه أعمق فأعمق في الصخر لينجو من المناقير، و أصبح شيئاً واحداً مع الصخر؛ و في الثالثة، نسيَ الآلهة، و النسور، و بروميثيوس نفسه تلك الخيانة؛ أما في الأسطورة الرابعة، فقد أصبح الآلهة و النسور ضجرين من القصة العديمة المعنى، و التأم الجرح بشكل ممل. و أخيراً، اختتم كافكا ذلك بقوله : " و بقيت هناك جبال الصخر العصية على التفسير ". و هكذا، أيضاً، في قصة غوركي، نبقى مع الصخر : صخر البطل سفاياتوغور، " الجبل المقدس "؛ صخر تولستوي الذي يمد نفسه كسلسلة جبال؛ صخر فيسوفيوس، مرئياً من فيلا سورينتو؛ صخر قناة البحر الأبيض؛ صخر الفرد الغامض؛ و مشهد جبلٍ يجعلنا نتخيل أننا نحركه، و هو ينكرنا، و نحن نعيد خلقه.