الجواهري  قارئ  لغوركي

الجواهري قارئ لغوركي

ترى.. هل لامة من الامم ان تكتفي بأدراج اسماء ابنائها من المبدعين في سجلاتها وتنام ملء جفونها على ذكراهم؟ ان ذاك الاسم هناك في حصن حصين وهو ملك مطلق للتاريخ والمجد ولمهرجان الشعر الذي يحمل اسمه..؟

. والسؤال الموازي اذا كان المبدعون قد كرسوا العمر كله كي يتمثلوا الامة تاريخاً وموروثاً ومجتمعاًَ فما الذي كان في مقابل ذلك؟.اسئلة تترى كلما كنا في مواجهة هذا الوهج الساطع للمبدعين الكبار وهكذا جاءني الكاتب والمسرحي صباح المندلاوي في ظهيرة تموزية حامية وبكل ود وتواضع حاملاً على كاهله حصاد ايام وليال من معايشته الجواهري والعيش معه في دائرة بيت واحد.
وهكذا وجدنا في صفحات هذا الكتاب منظوراً مختلفاً للاحتفاء بالمبدع انه هو الذي يحتفي بالكتب وبالمبدعين شرقاً وغربا عربا وغير عرب، مفكرين وادباء وسياسيين يحتفي بهم في كل ليل. وتصبح تلكم الكتب مرآة صافية اخري تعكس رؤى الجواهري الكبير وافكاره وكان مجرد تعليق موجز منه علي تلك الاسفار كافياًٍ ليكشف ما يكشف عن ذهن متوقد لم تنل منه سنوات العمر وخريفه شيئاً فهو في شيخوخته بقي حتى الرمق الاخير نداً للكلمة والفكرة والراي ولكل ما هو مبدع ومشرق وجميل.
في عالم دوستوفسكي الذي اعجب به ايما اعجاب وها هو يصغي لروائع الابداع العالمي من خلال روايات لمكسيم غوركي وتورغنيف وكازنتزاكي (الف ياء)
ليلة الأحد الثامن عشر من كانون الأول أتممت قراءة ما تبقي من رواية مذلون مهانون.
قال عنها: الخاتمة جميلة، لولا أن هناك مفاصل كان يمكن أن تكتب بطريقة أجمل وأفضل، وليس بهذا الابتسار والاختصار أو تربط بجملة واحدة ومنها الانتقالة السريعة.
وكذلك الحديث عن حب ناثاشا له. كان الأجمل لو صوره بطريقة إيحائية، وليس بهذا الشكل المباشر، لو صوره بتلك الصورة، لكان وقعه أكبر على المستمع أو القارئ.
في الثانية عشرة ليلاً قال: كتب شكسبير أيضاً تقرأ، أبحث عنها وهاتها.
قلت له: أن بعضاً منها مثل المسرحيات التراجيدية تحت اليد، متوفرة في مكتبتي.
ساوره فرح غامر وقد اطمأن لوجودها وإمكانية مطالعتها.
طفولتي؛
لمكسيم غوركي
هذا المساء، مساء الثامن عشر من كانون الأول عام 1994 ما أن أخبرته بأنني عثرت على كتاب بعنوان ـ مكسيم غوركي ـ وفيه رواية ـ طفولتي ـ مع مقدمة حتي أشرقت أساريره، وطلب مني قراءة المقدمة. كانت المقدمة لأناتول لوناتشارسكي، وزير الثقافة في الاتحاد السوفيتي سابقاً.
وله مسرحية بعنوان ـ روح اليانورا ـ.
شرعت أقرأ المقدمة، فأعجبه أسلوب الكاتب، بعض العبارات الشاعرية كان يطلب إعادتها، وفي أحايين، ويا لشدة تركيزه، كان يعيد الجملة مترنماً بها.
في الصفحة 8 لفت انتباهه ما جاء في المقدمة وبخصوص غوركي: فهو بحكم كونه إنساناً تجرع الماء الأسود من قاع بحر الحياة؛.
وكذلك في الصفحة 11.
وكاد حبل الحياة ينقطع آلاف المرات؛.
واكتشف عبر هذه المقدمة أن الاسم المستعار غوركي؛ يعني المر؛ من المرارة؛.
كما أبدى إعجابه أيضاً بما قاله إنجلز حول المثالية في الصفحة 9: أن الظلال في نظرته إلى العالم كثيفة أيضاً وفظيعة وبغيضة ولكنه يواجهها بإيمان عظيم بالسعادة البشرية وبالمثالية، بذلك النوع من المثالية الذي قال عنه إنجلس: أنتم البرجوازيون الصغار، تعتقدون بأننا الماديين نمتلك آفاقا واطئة ومصالح أنانية، كلا فنحن في الواقع أكثر منكم مثالية بألف مرة، لأننا نقود الجماهير إلي الأمام بقوة جبارة؛.
سألني الجواهري: يا تري كان غوركي حاضراً أثناء إلقاء الكلمة أم بعد وفاته؟!
قلت له: لا أعرف.. كل ما في الأمر أنها قيلت بمناسبة الجلسة المكرسة للذكري الستين لميلاد مكسيم غوركي والمقالة مذيلة بتاريخ أيار 1928 فيا تري أحياً كان أم قد ودع الحياة؟!
وأضفت: علي الأغلب أنه كان حياً.. ربما ستبين لنا المقالة نفسها ذلك. انتهينا من قراءة المقدمة ولم تسعفنا في معرفة ذلك، وللتيقن من معرفة العام الذي توفي فيه.. وللتأكد أن كان حاضراً أو غائباً.
بعدها قال لي: هل لك أن تقرأ لي صفحة أو صفحتين من طفولتي؛؟!
فقلت علي الفور: أجل.
ورحت أقرأ له، كانت البداية مشجعة، يتحدث غوركي عن طفولته وعن أمه وجدته. مرت عليّ أثناء القراءة مفردة ـ عبلة ـ ربما المقصود بها من تكون بمثابة الخالة.
وأنا أقرأ له عن تلك المرحلة، سألني: من هو المترجم؟!
فقلت له: المحامي سهيل أيوب.
أما المقدمة فقد ترجمها خيري الضامن.
وذكرت له بأن الكتاب صادر عن دار التقدم ـ موسكو وتاريخ الإصدار عام 1981 وقد طبع في الاتحاد السوفيتي.
ليلة الاثنين التاسع عشر من كانون الأول، تابعت قراءة ـ طفولتي ـ، كان الجزء الأول جميلاً علي حد قول الجواهري ويطفح بالصور المعبرة والمؤثرة ومن منظور طفل صغير.
في الصفحة 60 وردت فقرة علي لسان غوركي تبين لنا أنه كان يستشف من عينيها ما يجول بخاطرها من أفكار وخواطر، ربما الحديث عن أمه أو خالته عادت الذاكرة بالجواهري إلي قصيدته ـ جربيني ـ تلك التي أثارت ضجة كبيرة في الأوساط الاجتماعية والثقافية، وكيف تطرق إلى العيون وبوصفها مرآة لفضح الأسرار.
أنا لي في الحياة طبع رقيق
يتنافي ولون وجهي الحزين
قبلك اغتر معشر قرأوني
من جبين مكلل بالغضون
وفريق من وجنتين شحوبيــن وقد فاتت الجميع عيوني
اقرئيني منها ففيها مطاوي
النفس طرا وكلّ سر دفين
فيهما رغبة تفيضُ وإخلاصٌ
وشكِّ مخامرٌ لليقين
فيهما شهوة تثور وعقلٌ
خاذلي تارة وطورا معيني
فيهما دافع الغريزة يغريني
وعدوي وراثةٍ تزويني
ومن بين تعليقاته وهو يسمع ما أقرأ له: أن الضرب لن يفيد المرء أن لم يزده تعقيداً.
وتذكر حادثة وقعت في الطفولة يوم تشاجر مع ابن عمه وكيف جرحوا عينه وسال الدم منه.
وكذلك حدثني كيف أصيب بالتيفوئيد وكيف جاء كبار الأطباء لفحصه وتشخيص مرضه.
مساء الأربعاء الحادي والعشرين من كانون الأول وفي السادسة تحديداً، رحت أقرأ له المقطع الثالث من الرواية ـ أعجبته المقاطع والعبارات التي تصور سحر الموسيقي على المستمعين ومن خلال عزف الخال باكوف.
كنا نقرأ كل جملة بتأن ونتمتع بصورها وإيقاعاتها.
جملة جميلة كانت تقول كنهر رقراق تأتي من مكان سحيق؛.
قال الجواهري: أن جمل غوركي تشع بالجمالية والقوة والوضوح والشاعرية.
سألته هذا المساء عن معني مفردة ـ صاقبت ـ؟
قال: يعني قاربت؛.
توقفت عن القراءة بعد أن بلغت المقطع الرابع.
ما أكثر الجمل المؤثرة التي مرت بنا فيعلق عليها: بديع.. بديع.
أفرحه مشهد الجدة ترقص رغم تقدمها في السن، وأثار اهتمامه قول الأعمي: لأفقد بصري بعد هذا الذي رأيت؛ هذه الليلة ردد الشطر التالي من الشعر: تعبت من الكتب.
قلت: لمن هذا الشطر من بيت الشعر؟!
قال: لمحمد رضا الشبيبي.
ثم عقب: أما أنا فلا أتعب من الكتب.. أنها نعيمي في الحياة. أنا قلت فيها عكس ما قاله الشبيبي ترى هل كان يقصد رباعيته المعنونة في سبيل الكتاب؛:
إعارة الكتب رسمٌ
بين الصحاب ورمزُ
وقد أخذت كتابي
أظنه سيَبزُّ
المستعار عزيزٌ
والمستعير أعزُ
قرناك؛ تغدو طحينا
والصوف منك يجز

والتي نظمها في مسقط رأسه النجف عام 1922.
في الليلة التالية وفي الساعة السادسة قرأت له المقطع الرابع من الرواية.
في الصفحة 98 استلطف السطور التالية:
وكانت قرقعة تكسر الجليد وراء النافذة تصافح سمعي، ونور القمر المخضر يرنو من خلال زجاج النافذة المغطي بالجليد، فيضيء بأنواره الفسفورية ذلك الوجه اللطيف البارز وعينيه السوداوين؛.
في الصفحتين 108، 109 يدور الحديث عن الصراصير ونفور البشر منها.
حينها يعلق الجواهري: في مدينتنا النجف أيضاً كنا نكره الصراصير لأنها تكثر في التواليتات؛ والأماكن القذرة.
في ص111 وردت كلمة الزاج؛ فسألته عن معناها فلم يعرف.
ليلاً في الثانية عشرة إلا ربعاً قرأت له المقطع الخامس.
في ص122 وردت جملة تقول غكان المنزل يفيض بالمستأجرينف علماً أن هناك جملة قد وردت في الصفحة 121 تقول غواقتنى جدي لنفسه منزلاً رائع البناء في شارع بوليسفويف.
فتساءل الجواهري: كيف اقتنى جده وكيف يفيض بالمستأجرين؟! ثمة تناقض.
في ص122 وردت الجملة التالية:
غوهي تكردح هنا وهناك النهار بطوله مثل خدروف كبير.
سألته عن تكردح؛ وخدروف؛ فلم يسمع بهما.
قال: ربما هي مفردات عامية لبلد ما.
في ص133 لفت انتباه الجواهري سؤال الكسي:
من هو السعيد؟! هو الخال باكوف.
ويجيبه الجد قائلاً:
سأضربك علي رأسك، فتعرف وقتئذ من هو السعيد.
ليومين متتاليين لم نقرأ في الرواية بسبب من مشاغل صادفتنا.
ليلة الأحد الخامس والعشرين من كانون الأول قرأت له المقطعين الخامس والسادس.
في ص168 لفت انتباه الجواهري قول الكسي:
وعندما سنحت لي الفرصة فيما بعد لزيارة مجاميع اليهود، أدركت أن جدي لا يختلف في صلاته عن اليهود؛.
وكذلك الجمل التالية:
الشمس تطل جذلانة من خلال النافذة؛.
الندي يتضوأ كاللؤلؤ علي الأشجار ونسيم الصباح العليل يحمل رائحة طرية من نبات الثمار وتوت العليق والتفاح الناضج؛.
قال معلقاً: بديع.. اي شعر هذا؟!
وفي هذين المقطعين الخامس والسادس؛ وردت عبارات تكشف عن تنكر الأبناء لآبائهم، كان يصغي بإمعان إليها، وكأنه مأخوذ بها، حتي إذا ما انتهيت من قراءتها حتي علق: طالما عشت أراك الدهر عجباً؛.
في الأيام التالية تابعنا قراءة مقاطع جديدة.
في الصفحة 119 من المقطع التاسع وردت الفقرة التالية: وكانت ياقة قميصه تقدم له في كثير من الأحيان، فرائس تسليته؛.
هنا تذكر الشاعر أحمد الصافي النجفي، فقال راوياً عنه: أنه في المقهي كان يمد يده إلي رقبته فيمسك ببعض القمل ويصكعها؛ علي المائدة أمام الأنظار. واستهجن ذلك.
استوقفته جملة تقول في الرواية غرباء في أوطانهم؛.
تذكر العديد من الأمثلة علي ذلك. وكيف أن ذلك يشكل تاريخ الشعوب ـ وكيف الاغتراب يدفع بالصراع إلى الأمام؟
ليلة الخميس التاسع و العشرون من كانون الأول قرأت له المقطع العاشر من طفولتي.
وأنا أقرأ له فقرة ـ حديث الجد والجدة ـ عن أبنائهما وكيف أنهما يربيان والمحصلة عقوق الأبناء.
علق الجواهري: وحتي يومنا هذا.. كم من الآباء يعاني من عقوق الأبناء أو أحدهم؟
عصر الجمعة 30/ 12 وبينما أقرأ المقطع الحادي عشر وفي الصفحة 279 وردت السطور التالية:
كانت صناديقه ملأى بكثير من الثياب الغريبة قمصان حريرية مزركشة، وصدار من الساتان والفرو، وأثواب من البروكار طويلة الأكمام مطرزة بالفضة، وقبعات مزينة باللؤلؤ، ومناديل براقة وعقود من أحجار مختلفة الألوان؛.
قال الجواهري ممازحاً: ليت عندي بعضاً منها.
في ص280 في السطر الثامن ورد ما يلي:
تنحني لوالدي؛.
قال الجواهري الأصوب: تنحني لوالدها؛.
في ص283 علق ما ورد في الصفحة بابتسامة مع قوله:
- ما أجمل الأطفال في ألاعيبهم؟!
في ص286 سألته ما معني قاءك؛ قال: أنها من القيء.
ليلاً أكملت ما بقي من المقطع الحادي عشر وتابعت ما تبقى من الرواية.
سألته عند انتهائي منها:
كيف رأيت المقاطع التي قرأناها معاً؟!
قال: أنها تتباين من واحدة إلى أخري، بعضها تعاني من التكرار والحشو، وبعضها جميلة أن مكسيم غوركي أبرز ما يتميز به في طفولتي هو قدرته على الوصف والتعبير الدقيق والتصوير المتقن لخلجات النفس البشرية.
وبكلمة أخري أنه متمكن من أسلوبه.
وهنا تذكر أيضاً ما نشره في جريدته عن غوركي فقال: قبل أكثر من نصف قرن من الزمان.. أخذت على عاتقي نشر كتاب ـ حياتي ـ لمكسيم غوركي وعلى شكل حلقات في جريدتي ـ الرأي العام ـ كانت أشبه بالسيرة الذاتية يوم كان يعمل خبازاً ويوجه سهام نقده الساخر إلى البرجوازيين. كان مدافعاً بحق عن المقهورين والفقراء

عن كتاب الجواهري .. الليالي والكتب.. صباح المندلاوي