المتمرد

المتمرد

د. عاصم الدسوقي
عندما تابعت حياة محمود أمين العالم منذ نشأته وحتى انخراطه في صفوف الشيوعيين، وقد عرفت جانبا منها في اكسفورد عندما التقينا في صيف 1974 ، تذكرت ما قاله أديبنا توفيق الحكيم في شرحه لمعني اليمين واليسار في كلمات بسيطة من أن الأصل في الإنسان أنه يميني، وفي اللحظة التي يتمرد فيها على واقع حياته وظروفها يصبح يساريا، أي ينتقل من حافة اليمين الى اليسار.

المعني أن الإنسان في طفولته وصباه يعيش تحت سلطة الأسرة يأتمر بأوامرها في النهي عن أشياء والسماح بأشياء دون أن يكون له رأي فيما يأخذ به وفيما يمتنع عنه. ولكن عندما ينضج تفكيره خارج البيت مع رفاق المدرسة وصحبة الشارع، وتتسع آفاق معرفته من تجارب الشعوب الأخرى، يبدأ في عقد المقارنات بين هنا وهناك، ويبدي كثيرا من الرفض لما هو قائم ويطالب بالتغيير، يصبح في نظر الذين يعرفونه متمردا آبقا لعب الشيطان برأسه.
نشأ محمود العالم في مناخ ديني في أحضان القاهرة الفاطمية ونجده ينجذب الى تصوف الحلاج، ذلك المتمرد على الطقوس الشكلية في الدين "والذي لا يؤمن بقوة مفارقة.."
وفي تلك الأثناء قرأ نيتشه ووجد فيه التقاء روحيا مع الحلاج .. فالحلاج يقول بالإنسان الكامل، ونيتشه يقول بالإنسان الأعلى، أي لا توجد قوى مفارقة تفرض عليه مشيئتها. وأثناء معايشته لمثالية الحلاج-نيتشه، قرأ كتاب "آفاق العلم الحديث" ليعقوب صروف رئيس تحرير المقتطف فنراه يهبط من علياء المثالية الى عالم المادة.
وفي قسم الفلسفة بالجامعة حيث كانت المقررات الدراسية بعيدة عن الفلسفة المادية والبرجماتية بحكم المناخ السياسي -الثقافي القائم آنذاك، يتعرف محمود العالم أكثر وأكثر على أركان المدرسة المثالية في التفكير (برجسون وهيجل). وينهي دراسته الجامعية ويمضي في طريق الدراسات العلىا بمثاليته التي بدت واضحة في اختياره لموضوع رسالته للماجستير "نظرية المصادفة في الفيزياء الحديثة". ولما كان جوهر التفسير المثالي للظواهر يقوم على المصادفة وليس على الأسباب المادية والعقلية، فإن محمود العالم أراد من موضوع رسالته أن يثبت أن المصادفة تحكم كل شيء حتى الظاهرة الطبيعية (الفيزياء)، وأن العلم ليس موضوعيا. وتلك في تقديري قمة المثالية، وحجته في تحديد الموضوع بهذا الشكل أن العلم مصدره الإنسان، وأن الإنسان لا يمكن أن يكون آليا أو ميكانيكيا في تصرفه، وأن الإرادة والحرية تحكم تصرفاته واختياراته. مع أن الإنسان آنذاك كان قد عرف أسرار تكوين الظاهرة الطبيعية وتطورها من خلال الملاحظة والتجربة وأصبح يتحكم فيها ويخضعها لمصلحته بعد أن كان يخضع لها، الأمر الذي أدي الى انكماش مساحة التفكير الغيبي في ذهنه لحساب التفكير العقلي المادي.
ثم يقع على كتاب لينين (المادية والنقد التجريبي) خارج سور الدراسة المثالية بالجامعة فضطرب أركان مثاليته ويؤمن بموضوعية العلم ويبادر الى تغيير عنوان رسالته الى "نظرية المصادفة الموضوعية في الفيزياء" ، لكن هذا لم يجعله ماديا تجريبيا. ذلك أن هجوم لويس عوض الدائم على المادية الجدلية والتاريخية جعله يتحاشي الالتزام الماركسي، ويلوذ أكثر ومعه أنيس منصور (بعقلنة) عبد الرحمن بدوي للوجودية. ولكن ما أن قرأ كتاب إنجلز (جدل الطبيعة) وانتهي من بحثه للماجستير، انصرف عن المثالية الى المادية الجدلية تاركا أنيس منصور مع وجودية عبد الرحمن بدوي. وأصبح مقتنعا بالعلم في جانبه التطبيقي الطبيعي، وبالماركسية إطارا منهجيا للتفكير المادي.. والحال كذلك .. كان لا بد وأن ينخرط محمود العالم في صفوف الشيوعيين، واختار الانضمام لمجموعة "النواة" باحثا عن الحرية والعدالة الاجتماعية. غير أنه وهو داخل الحركة الشيوعية ظل محتفظا بروحه المتمردة ضد القولبة التنظيمية. فعندما تقوم ثورة يوليو 1952 وتقف ضدها أغلب فصائل اليسار المصري باعتبارها إنقلابا عسكريا فاشيا أبدى احترامه "لنظام عبد الناصر واعتبره وطنيا"، وحدد اختلافه مع الثورة في غياب الديموقراطية وفي استخدام الأسلوب الفوقي في الإجراءات المصيرية مثل الوحدة مع سوريا (فبراير 1958).
وعندما صدرت قوانين التأميم الكبرى في يوليو 1961 وهو في معتقل أبو زعبل بعد هجمة يناير 1959 على الشيوعيين، وسمع خالد بكداش زعيم الحزب الشيوعي السوري يصف التأميم "بأنه يسهم في تكوين رأسمالية الدولة الاحتكارية .. وأن ميثاق العمل الوطني (1962) يمثل الأساس النظري لهذا التحول" ويوافقه على هذا التحليل كثير من الشيوعيين المصريين، وجدنا أن محمود العالم يرفض هذا التحليل ويختلف مع الذين وافقوا عليه، ذلك أنه رأى في الميثاق مشروعا أكبر من مشروع الحزب الشيوعي المصري نفسه. ولهذا لا يجد حرجا في أن يبرق لجمال عبد الناصر من المعتقل قائلا له: "إن التأميمات العظيمة تحتاج لشكل آخر من التنظيم غير الإتحاد القومي لكي يحميها ويحسن تطبيقها"، فكان هذا الموقف في التحليل بداية خلاف عميق بينه وبين الرفاق.
كانت مشكلة محمود العالم وسط الحركة الشيوعية أنه رأى أن ثورة يوليو تمثل تيارا وطنيا ديموقراطيا اشتراكيا، وعلى هذا الأساس يصبح في الإمكان إن لم يكن ضروريا إيجاد وحدة بينها وبين الشيوعيين لتشكيل حزب ديموقراطي وليس حزبا شيوعيا مثلما حدث في كوبا وبلدان أخرى في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، ذلك أن الماركسية في مصر -في تقديره- لم تصبح جزءاً من ثقافة المصريين وأنها لم تمصر عكس الصين التي أصبحت الماركسية فيها جزءاً من تراثها الثقافي مثل الكونفوشوسية.
وما أن خرج من المعتقل وتم حل الحزب الشيوعي انضم الى التنظيم الطليعي داخل الإتحاد الاشتراكي، ثم ضمه عبد الناصر الى السكرتارية العامة للتنظيم الطليعي وتولى عدة مسؤوليات ثقافية تنفيذية في رحاب ثورة يوليو.
ولكن .. وكلما كان يجد الأمور تسير على غير ما يشتهي ينبض عرق التمرد داخله يغذيه القلق فنراه يعترف في مقدمة كتابه (الوعي والوعي الزائف) بأن حل الحزب الشيوعي كان خطأ كبيرا، وأن وجود الشيوعيين في أجهزة الدولة من خلال الحزب الديموقراطي الذي آمن بإمكانية تكوينه (أي تحالف الشيوعيين مع الثورة) لحماية الثورة ممن يحيطون بجمال عبد الناصر فكرة خاطئة .. والصحيح أن بقاء الشيوعيين مع الجماهير مختلفين مع عبد الناصر كان كفيلا بحماية الثورة.
وفي 1992 وبعد رحلة طويلة من القلق عاوده التمرد مجددا، فنراه يتخلى عن المادية التاريخية، ويرفض أن تطبق نظرية ما على التاريخ "لأن النظرية تتسم بالعمومية والكلية والثبات والاستقرار النسبي، على حين أن التاريخ محصلة عوامل ذاتية وموضوعية متداخلة ومتشابكة ومتفاعلة ومتناقضة تشكل إمكانات مفتوحة". ومن هنا يعجبه قول كارل بوبر بشأن عدم وجود قوانين تاريخية كلية، وبالتالي استحالة أن يكون التاريخ علما. والحال كذلك فإن محمود العالم يلتقي مع المثاليين مرة أخري الذين كان يعبر عنهم زكي نجيب محمود في رفضه للحتمية التاريخية واختلف مع محمود العالم.
وفي تلك المرحلة من إعادة النظر نراه يؤكد أن كارل ماركس لم يقل بالمراحل الخمس المتوالية في حركة التاريخ، وأن ستالين في كتابه "المادية الجدلية والمادية التاريخية" هو الذي أشاع هذا الطابع النسقي الغائي، وأعطاه مشروعية ماركسية زائفة، وخطورتها أنها لا تتعلق فقط بالماضي وإنما بالحاضر والمستقبل. ثم ينتهي الى خلاصة خطيرة لها مغزاها وهي إن المادية التاريخية في التطبيق رؤية مفروضة على التاريخ وليست رؤية مستمدة من دراسة موضوعية عينية للتاريخ.
وبهذا التحليل الأخير فسر محمود العالم (يوليو 1992) انهيار الاتحاد السوفييتي وسقوط حكم الحزب الشيوعي لأن الماركسية تحولت الى نسق مطلق مفروض بشكل علوي إرادوي على المجتمع. وبدلا من أن تكون وسيلة لتحرير المجتمع من الاغتراب أفضت الى مضاعفة اغترابه وسجنه في نسق نظري، فأصبحت النظرية التاريخية (الماركسية) نظرية غير تاريخية.
واستمرارا لهذا التحليل ينتهي الى أن النظام الرأسمالي الذي يقوم على العوامل الذاتية والتنافس، رغم أن جوهره الاستغلال والاغتراب، ينجح في تجديد نفسه ومن ثم في الاستمرار لوجود هذه الحرية النسبية، على حين يفشل النظام الإشتراكي في نموذجه السوفييتي بسبب تجاهل العوامل الذاتية والإنسانية مع أن الإشتراكية قامت أساسا بهدف إلغاء الاستغلال وإزالة الاغتراب.
وفي عام 1992 أيضا ينتهي محمود العالم الى أن الفكر القومي يغلب عليه طابع الانفعال الاستعلائي المثالي، ويفتقد الرؤية الموضوعية للتاريخ والمجتمع والواقع عامة، ويتغافل عن حقائق الاختلافات والتمايزات العرقية والطبقية والظروف الاجتماعية الموضوعية في "بلادنا العربية"، رغم أنه فكر يتبنى قضية القومية العربية وهي تحرير البلاد العربية جميعا وتقدمها ووحدتها ويناضل من أجل تحقيقها. والصحيح عنده أن الشكل الكونفيدرالي وليس الفيدرالي أو الوحدة هو المناسب في حالة البلاد العربية وقد يؤدي الى أشكال أعمق في ضوء الممارسة.
وهكذا ظل "فريد" (أي محمود العالم) في الحركة الشيوعية المصرية فريدا في الحياة الثقافية بما قدمه من رؤى إبداعية في عالم السياسة والأدب جديرة بالاهتمام والمتابعة، وفريدا في شجاعته في ممارسة النقد الذاتي الذي لولاه لما كانت هذه المقالة التي كتبتها اعترافا بفضله وتقديرا لعلمه.

جريدة الاهالي كانون الثاني 2009