المستشرق الفرنسي جان فييه.. رحلة الى حصن الاخيضر

المستشرق الفرنسي جان فييه.. رحلة الى حصن الاخيضر

ترجمة د. اكرم فاضل
الاب جان فييه راهب فرنسي مستشرق يسكن العراق منذ سنة 1939 يتقن العربية ويجيدها كأحد ابنائها ويحسن بصورة خاصة اللهجة الموصلية الدارجة حيث يقطن منذ سنوات عديدة كاي موصلي عريق.
له ابحاث عديدة عن اثار بلادنا اغلبها منشور في مجلة سومر وظهرت له كتب عن تاريخ بلادنا أهمها مجلده الضخم الذي يقع في سبعة اجزاء صدرت منها أربعة وهي بعنوان الاديرة المسيحية في منطقة الموصل.

الله معكم..
قال هذا بلهجة غاية في البساطة ولم يطلب هنا ولو مجرد كلمات شكر نظير ما صنعه معنا من جميل.. وقد ساعد اخونا له في الطريق يعانون مشقة والان هناك أخرون يحتاجون الى مساعدته فه يخف الى معونتهم والمسألة لديه مسألة اعتيادية فحتى نحن الاجانب كنا بمثابة اخوة له في البيداء العربية.
وضعنا خطة رائعة ان نسافر من بغداد في نحو الساعة التاسعة متجهين رأسا الى حصن الاخيضر عبر كربلاء فتناول هناك غداءنا بسرعة ثم نزور بعد الظهيرة كربلاء والنجف والكوفة ومقام حسن قيال في الكفل ومن يدري ماذا بعد؟
كل هذا يحدث بعد الظهيرة، ولكن الانسان يقدر والله يقرر وكان الظهر قد مال نحو العصر حين وصلنا الى الحصن وسط الصحراء.ز وما لبثت الغيوم ان تراكمت وبعد فترة من الزمن كانت هناك بروق وما كدنا نصل الى داخل الحصن حتى شرع المطر بالهطول.
ولم يكن لدينا الوقت الكافي لنتامل في اسرار القلعة نفسها، وفي الجيوش التي تقاتلت حولها عين التمر على بعد بضعة كيلومترات من هناك وكان لابد من مواصلة الرحلة رغم السحب المهددة.
وكسبا للوقت عزمنا على الغداء اثناء التجوال فامامنا طريق يقدر بخمسين كيلومترا للوصول الى كربلاء وانهال علينا المطر وكانه سيل حين بلغنا جوار قرية شعيب البعيدة فخرج رجل يهرول من مركز الكمارك وتوجه الينا قائلا: لا تبرحوا مكانكم فالطريق مقطوع وقد انهار سد تحت ضغط الفيضان واجتاح الماء المنخفض الذي يخترقه الطريق باكمله.
ما العمل..؟
كان ابو عادل رئيس عرفاء مركز الكمارك يعرف ببيداء وسيارتنا لن تستطيع المزيد من التقدم والماء في غاية الارتفاع على الطريق.
وقد سبقتنا سيارة جيب اعلى من سيارتنا وذات محركين اذ انطلقت مشحونة بالعمال فلن نراها بعد الان وستظل تمضي وبعد ذلك هناك لوريات ستفرغ حمولتها من الرمل وستجرب حظها وهناك سيارة لنقل الركاب ستذهب هي ايضا.
وستعود كل هذه السيارات اما نحن فقد انقطعنا من العالم الخارجي والمطر مازال ينهمر.
على بركة الله
كم سنظل منعزلين لن يستصلح الطريق للسير قبل انقضاء بضعة ايام، بل عدة اسابيع فاننا لم نر هذه الكمية من الماء منذ 1932 و1964 ولا جدوى من الرجوع على النفس بالائمة ونحن نفكر اننا لواقلعنا ساعة قبل رحيلنا لمضينا سالمين القضية هي هذه.. اننا لم نقلع قبل نصف ساعة.
في تلك اللحظة وصل لورد صغير مسلح تابع للكمارك وكان يقوده المفوض عبد الرحمن غليت فليت المطر يكف شيئا ليدلنا هذا الرجل على طريق اخر لعله يكون قابلا للسير فيه اكثر من سواه، ولابد ان هذا الطريق سيكون اطول فهل لدينا الكفاية من البنزين؟
لندع سائق سيارتنا يتناقش في الموضوع مع زميله في الكمارك فلعل الكمارك ستقرضنا بعض الغالونات.
واستمرت المفاهمات.. وطرحت الاقتراحات الكريمة على بساط البحث ثم صرف النظر عنها بعد برهة وكان هناك بنزين في المركز العام على بعد خمسة وثلاثين كيلومترا من موضعنا.. ولكن الطريق من تلك الجهة مقوطع ايضا.. ولعلنا نستطيع الوصول الى حافة المنخفض والدوران على الاقدام في الوحل والعثور على سيارة أخرى في الجانب الاخر؟
ويحاول كذلك عبد الرحمن ان يتلفن لاجلنا الى كربلاء لغرض طلب اخبار بغداد باحتمال عدم عودتنا في ذلك اليوم.. ولكن الخط معطل عمليا.. والتفريغات الكهربائية تتفرقع حول ايدي اولئك الذين يحاولون المساس بجهاز الاستقبال لقد انقطعنا عن المعمورة ولكن الى أي مدى.
ومع ذلك حاول احدهم ايجاد حل عملي وكان متعهدا لنقل الرمل تعود له هذه اللوريات باسرها كان هناك انذاك سبعة او ثمانية لوريات تحيط بمركز الكمارك وقد فلح في الاتصال تلفونيا بمكتبه في كربلاء في طالبا مكائن ولم انقطع المطر فلربما كان لنا متسع من الوقت لنشق طريق لنا حول المنخفض المغمور بالماء.
وكف المطر يضع دقائق فصعد رجال الكمارك الاخبار الى لوريهم الصغير وهم يقولون لنا اتبعونا على بركة الله فاتبعناهم سالكين طريقا اطول كثير المزالق مشبعا بالماء.
ليلة مع الاساطير
وبعد مسيرة بضعة كيلومترات عادت لوريات عالية كانت اقوى واعلى من سيارتنا عادت وهي تزمجر ذلك لانها وجدت نفسها غير مستطيعة شق طريقها.
واستدرنا نصف استدارة واذا بالمطر يهطل من جديد بغزارة.
اذن فالان قد انقضى النهار سدى فيجب التفكير في كيفية قضاء الليل تلطف مدير المدرسة فعرض علينا فتح باب احد الصفوف اذ في الاقل بوسعنا هناك ان نضع اقدامنا على يابسة.
وبديهي اننا سنتخذ مقاعد الطلاب بمثابة سرر لنا وهي غاية في الثسوة مقاعد المدرسة هذه..
كنا نعد اثنى عشر شخصا وعلى اقل تقدير كان يمقدورنا أن نستجم خلال بضع ساعات على تلك المقاعد الضيقة وقد جوزينا على تقصيرنا بما فيه الكفاية ولم يكن لدينا اختبار سبيل أخر.
ولعل الليل لم يبق له أن يحل سوى نصف ساعة وتحلق اعراب القرية مع مدير المدرسة حولنا وهم يقصون على اساطير القطر التي تخص صرحهم الغامض الاسرار ودار الحديث كذلك عن القنوات التي تزوده بالماء، وفجأة ارتفع صوت مناد يقول الطريق مفتوح وقد جاءت المكائن من كربلاء.. فدفعت الرمل المبلل في الوهاد التي قطعت الطريق الجديد واللوريات ذاهبة لمحاولة العبور ودعتنا للانضمام اليها.
واعطانا قائد اللوريات تعليماته فلينا ان نكون بين هذه اللوريات واذا غصنا في الاوحال فستخف هذه لانتشالنا.
وبعد ان شكرنا اصدقائنا الذين تعرفنا عليهم منذ بضع ساعات وهم عبد الرحمن وابو عادل والاساتذة والاعراب المجهولو الهويات شكرا اخويا عميقا وحلنا وقلوبنا تخفق ونحن نخفي مخاوفنا تحت عطاء من الممازحات المغتصبة وكان المطر قد توقف عن الهطول منذ نصف ساعة على أنه شرع يهمد من جديد ولكن قوس قزح بث الشجاعة في نفوسنا ومجددا قلنا على بركة الله.
مجهولون من الصحراء
مالبث المنخفض ان ظهر امامنا وعلى الطرف الايمن خط طويل وتبينا ان خطا طويى يحيط به ولا تكاد تبدو حدوده وخلال ذلك رمال متموجة تنز مياها، وفي الوسط من الجهة الاخرى تقوم الحفارة والكرافة الميكانيكيات بواجبهما في طرق اشق واصعب.
فاطمأننا الى وجودهما ومضينا في سبيلنا وغصنا مرتين في الرمال الى مستوى العجلات وتوقفت اللوريات مرتين ونزل السواق ورؤساءهم وملوا الاخاديد ودفعونا وجرونا واكاد اقول حملونا وهناك على الطر اشعلت نيران المواقع لان الليل قد خيم انذاك وانتظر رؤساء الخط وهم مستعدون لمد يد المعونة الينا.
ومضينا الطريق مطورق الان ومتماسك تحت اطارات سياراتنا ولدينا وفر من البنزين ونصيحة اخرى من رئيس الجماعة مايزال هنا وهناك ماء على الطريق ولكن الارض صلبة فانطلقوا ونحن معكم فانتعشنا بوجودهم معنا وطللنا نجتاز بركا من اماء ومستنقعات وبحيرات وبحارا يتقدمنا ملائكنا الحراس ويتابعوننا واحيانا يكونون الى جوارنا في خط مواز ونحن جميعا في غمرة اخوة الصحراء نتقدم صوب اضواء المدينة المقدسة العتبات كربلاء التي بدأت ترتسم في الافق.
ولكن ماكدنا نلاحظ ذلك حتى ركب احد اللوريات أحد الاعراب لم اردفه باخر كانا ينتظران على الطريق من ياخدهما وكنا مرهقين غاية الارهاق متعبين كل التعب بحيث لم نستطع ان نتبين ما يمكن ان يقع من محاذير في وجود هذين المجهولين في هذه الساعة من الليل من متاهات الصحراء وبعد فترة قصيرة توقفت سيارتنا فنزل منها الاعرابيان وهبط كذلك الرئيس واشار علينا اشارة مضمونها واصلوا مسيرتكم لوحدكم فانكم قد وصلتم الان الى مظانكم.
اما نحن فقد بقيت علينا مهمة طغيفة يجب انجازها فهناك لوري غائص في الطين على بعد ثلثمائة متر خارج الطريق حين قال لنا ذلك لمحنا فعلا اضواء السيارة.. وسنهرع لانقاذه.. الله معكم!..
قال هذه بلهجة غاية في البساطة ولم يطلب منا ولو مجرد كلمات شكر نظير ما صنعه معنا من جميل، وقد ساعد اخوانا له في الطريق يعانون مشقة والان هناك اخرون يحتاجون الى مساعدته فهو يخف الى معونتهم والمسالة لديه مسألة اعتيادية فحتى نحن الاجانب كنا بمثابة أخوة له في البيداء العربية.
مجلة بغداد اذار 1965