فاضل شنيشل
كان من بين ضباط الشرطة فی العهد الملكي فی العراق ضابط اسمه علي خالد حجازي من ابناء السليمانية من الاكراد مواليد بغداد . اتم دراسته العسكریة في كليتها بالاستانة وخدم فی الجيش العثماني وتدرج فی مراتبه .
ولما تشكلت الدولة العراقية بتتويج الملك فيصل الاول في 23 اب عام 1921 قدم الئ بغداد يومها . وللحاجة الى امثاله استخدم في سلك الشرطة معاونا لمدير شرطة البصرة .. وتدرج فی سلكه حتى اصبح مديرا لشرطة بغداد لمدة طويلة .. ولبطشه وعدم التزامه ببعض الاعتبارات. اصبح الناس يحذرون منه ويتهيبون من اسمه . كما وصفته جريدة الاستقلال فی عددها ليوم 14 شباط 1950 ان البعض كان يتملق اليه والاخرون يسعون الئ الاستفادة من مركزه . كما قال الشاعر . يجود عليه الخائفون بمالهم وهو بمال الخائفين يجود ..
الى درجة ان البعض اشاد بكفائته واكد اخلاصه للعرش. وروج في الاوساط ان سلامة البلد بوجوده .. لذا اصبح موضع اعتماد الامير عبد الاله الوصي على العرش . واعتقد الوصي بإن علي هذا حجازي الاصل والامير حجازي الاصل مما يعتمد عليه ..
كان على مراكز الشرطة في انحاء بغداد كافة وضواحيها ان تقدم اليه كل شهر حصيلة ماتظفر به بشتى الاساليب من ابناء منطقتها وبصورة مكشوفة لدى الجميع .
ولما اصبح مديرا عاما للشرطة العام استفحل امره من هذه الناحية بشكل رهيب ، مستفيدا من دعم البلاد له واعتماد الامير عليه باعتباره درعا من دروعه ..!!
وعندما شكل توفيق السويدي وزارته الثالثه في 5 شباط 1950 وفيها صالح جبر وزيرا للداخلية ومديرية الشرطة العامه تابعة له ، وبين علي حجازي وصالح جبر تنافر وتباغض شديدان، طلب وزير الداخلية من مجلس الوزراء فصل علي حجازي من الخدمة ، كما اوردته صحيفة صوت الاهالي في عددها 124 ، عارض الامير عبد الاله ذلك ، طلب وزير الداخلية صالح جبر نقله الى احدى المتصرفيات في المحافظات.
سمع علي حجازي بقرار نقله محافظا لمحافظة السليمانية. لذلك قرر القيام بحركة ترغم الوزارة على الاستقالة . وشرع بتنفيذ خطته المرسومة في خاطره.
ولمزيد من الاطلاع زرت صديقي الاستاذ معمر حسين مكي الحجازي الاصل وامه بختيار خانم مرضعة الامير عبد الاله ومربيته وهو اخ له بالرضاعة ومدير للقلم السري الخاص له في البلاط الملكي ، زرته في منزله ليلة الخميس 15 شباط 1950 وسألته عن الموضوع قال :
إثر قرار مجلس الوزراء بنقل علي حجازي من سلك الشرطة الى الادارة لسوء تصرفاته وكثرة الشكاوى عليه واتهامه بالارتشاء المفرط والسافر ، إجبرت الوزارة على ابعاده من السلك الذي هو فيه ..
وما أن علم بذلك حتى اظهر عصيانه ، واعلن للجهات العليا ولبعض الاوساط إن الحكومةجائرة وجاءت خلاف رغبة الشعب ، وإن الوزارة ذات طابع مخالف لرغبات الاهلين .. وإن عملاء الانكليز عادوا الئ الحكم ثانية .. وأخذ يهرج لإثارة لنفوس ضد الوزارة .. ثم استقر رأيه في الليل على خطة جهنمية حاكها لنفسه على غرار رجال الانقلابات !!في بعض الاقطار .
فشرب قسطا وفيرا من الكحول ، واتجه الئ دائرته بعد منتصف الليل من ليلة الاحد 11 شباط 1950 واتصل بمراكز الشرطة وجعلها تحت الانذار ، وأخبر قوة الشرطة الألية أن يكونوا على استعداد للهيمنة علئ المرافق المهمة في الحكومة . ثم اتصل بعد منتصف الليل برئيس الوزراء توفيق السويدي هاتفيا واخبره بالحالة وقال له : إشلون انت صابر وساكت ؟
قال السويدي : شسوي ! الأمر مو بيدي !!
رد حجازي قائلا : هاي الوزاره ضد رغبات الشعب والناس غير مرتاحه ابدا !!
قال السويدي : ياپاشا ، سيدنا اختار هذا الراي ونسب لنا أن نقبله !!
قال حجازي : يعني الوزارة هم كلها پورتسموثية !! ونصهم من جماعة صالح جبر ، الناس كلها متوترة وتكول هاي الوزارة ضد رغبات الشعب !!
قال السويدي : يعني شسوي هسه ؟ فهمني ياپاشا ؟
قال حجازي : قدم استقالتك وإلا أني اوجه الشرطة بالحال حتى يسيطرون على دواوين الحكومة واحتلها ! مايمكن غير هالشكل ومانقبل بهاي الحاله !!
قال السويدي : لابأس باچر الصبح أقدم استقالتي !! أني ايضا ماراضي علئ هاي الحاله ..
وأثر انتهاء المكالمة الهاتفية بين مدير الشرطة العام اللواء علي حجازي مع رئيس الوزراء توفيق السويدي ، شرع الحجازي بالاتصال من دائرته بأمرية شرطة السيارة لاحتلال العاصمة بغداد قبل الصباح الباكر .
ثم اتصل بمراكز الشرطة في الالوية والمحافظات للاستيلاء علئ الدوائر المهمة وفق توجیهاته .. !!!
كان السويدي قد علم بتحركات مدير الشرطة العام من بعض من اخبروه قبلا ولم يشعره بذلك وانما استرسل معه .. ثم اتصل بالوصي على العرش ليلا واعلمه بعزم الحجازي قبل أن يتصل احد ليكون على علم . ورأى اللواء علي الحجازي أن يتصل بالامير عبد الاله الوصي هاتفيا في قصر الرحاب ، واعلمه بعزمه . وإن الحالة في البلاد لاتحتمل هذه الوزارة التي جاءت خلاف رغبات الشعب .. فقال له الوصي : هل اخبرت رئيس الوزراء بما تنوي ؟ .
قال : نعم ..
قال الوصي : طيب الصبح نجتمع هنا ونبحث هذا الموضوع ، واغلق الهاتف .
لم تشف هذه المكالمة المقتضبة عبر الهاتف غليل الحجازي .. فأستمر على اتصالاته بالمراكز التابعة له ، وكانت بعض الجهات قد اعلمت الوصي بهيمنة الحجازي على المرافق العامة !! وقامت رئاسة الاركان بدورها المقابل لصد ما يواجهها .
أمر الوصي مرافقه الخاص العقيد عبيد عبد الله المضايفي بالذهاب الى الشرطة العامه في السراي ومعالجة الموقف ، وعبيد حجازي الاصل و والده الشيخ عبد الله صفر المضايفي ، والمضايفي في عرف الحجاز كرئيس التشريفات وهو الحاجب عند ملك الحجاز ، يومها كان هذا في خدمة الملك فيصل الاول في الحجاز ورافقه عند مجيئه الى العراق ، واصبح تشريفيا في البلاط لشيوخ القبائل لمدة طويلة ، ويتمتع بكرائم الخلق وسداد الرأي مما جعله موضع رضى الجميع وتقديرهم ، وكذلك إبنه الكبير عبيد الذي دخل على اللواء علي الحجازي والبشاشة ملء وجهه ..قائلا :
شنو هاي ياپاشا ؟؟ ما افتهمنه ؟؟
قال علي الحجازي :
يا أخي حمضت !! الناس ماتكدر تتحمل هذا الوضع !! الوزارة پورتسموثية ! ونصها من جماعة صالح جبر ! صدور الناس راح تنفجر من الخنق ! كافي !
قال عبيد : طيب ياپاشا ليش ماتروح للقصر وتفهم سيدنا زين !! سيدنا مايدري !! وهذوله مايوضحون له الاوضاع زين ! وقبل مايصير شي إنت احفظ جانب سيدنا لجنبك حتى تقدر توجهه زين !!
رد علي الحجازي : امشي نروح عند سيدنا !
ويخرجان سوية في الساعة الثالثة والربع بعد منتصف ليلة الاحد 11 شباط 1950 من مديرية الشرطة العامه ..
قال عبيد : يا پاشا تركب معي احسن لو اركب معاك ؟؟
علي حجازي : كيفك !
عبيد : اركب معي احسن وارجع اوصلك ..
وركب الاثنان سيارة عبيد عبد الله المضايفي ومعهم أحد الانضباطية الخاصين بعبيد ، وحينما وصلوا قصر الرحاب كان الوصي ينتظرهم ولحقت بهم السيارات المصفحه للجيش .. ودخلوا بهو قصر الرحاب قبيل الساعة الرابعة صباحا ، وقد لاحظ الوصي عليا مخمورا . وفات على علي حجازي إنه سيمثل أمام الوصي بهذه الحالة !!
قال الوصي : شنو هاي يا علي ؟؟
قال علي حجازي : سيدنا .. الاوضاع رديئة والناس ماتحب هذه الوزارة .. ولاتحب صالح جبر! ولاتزال تذكر موقفه في پورتسموث ، ونصف الوزارة من جماعته ، مايصير !!
رد الوصي: أنا اختاريت الوزارة واشخاصها!!
الحجازي : سيدنا نصفهم من جماعة صالح جبر ! والناس ماترتاح لهم ولا بهذا العدد!
الوصي : نسيت يا علي إن جماعة صالح جبر هم ضعف جماعة توفيق السويدي وتوفيق وهبي معا ! وأنت تعرف هذا زين ، مع هذا جعلت سبع حقائب وزارية لجماعة توفيق وصاحبه وهم اقلية خمس حقائب وزارية لجماعة صالح وهم الاكثرية . وقبل صالح واشترك مع توفيق ..
ونظر الوصي له يحنق .
حجازي : سيدنا كلامك على الراس ولكن الناس امتعضوا من هاي التشكيلة .
رد الوصي : أني اعرف إشلون اعالج الموقف ! هذا مو شغلك ، ثم . انت مدير شرطة عام ! ومهمتك الرسمية المحافظة على الامن والنظام بالبلاد . وأني إئتمنتك على هالمنصب ؛ واذا عندك شي تخبر رئيسك ثم تخبرني ، لا بهذا الاسلوب تحرك من نفسك قوة سيارة وحسب رغبتك تعلن العصيان على الحكومة . هذا اللي انتظرنا منك ؟؟
الحجازي : لاسيدنا أني ما اعلنت العصيان ! ...
التفت الوصي حانقا ونظر الى احد المرافقين الذي تقدم في الحال الئ اللواء علي حجازي ؛ حياه اولا ثم قال له تفضل سيدي معي !! وأخذ المرافق علي پاشا الحجازي معه الى حيث اعتقله بقية تلك الليلة ..
انتهى حديث معمر حسين مدير القلم السري للامير عبد الاله ..
وفي يوم 13 شباط 1950 أحالت وزارة الداخلية علي محمد خالد الحجازي الى محكمة الجزاء المختصة ، وطلبت وزارة العدلية محاكمته وفق الماده 80 و81 من قانون العقوبات التي تنص الاولى منه (المعاقبة بالاعدام لمن نظم أو ترأس أية عصبة مسلحة هاجمت فريقا من سكان البلاد أو قاوم بالسلاح تنفيذ القانون .. الخ) ونصت المادة الاخرى (معاقبته بالاشغال الشاقة والحبس مدة لاتزيد على خمس عشرة سنة ...الخ ) .
وفي 9 نيسان 1950 حكمت محكمة الجزاء الكبرى عليه بالاشغال الشاقة المؤبدة ، وكانت ساحة المحكمة مليئة بالمتظاهرين ضده والمتحاملين عليه بهتافات نابية ، ومعظمهم من رجال الشرطة يتقدمهم عبد الرزاق الفضلي من مدراء الشرطة المتقاعدين ..
واستؤنف القرار والتمييز واعيد ثانية الى ان حكم عليه مؤخرا في 17 حزيران 1950 بالسجن لمدة ثلاث سنوات . وادخل السجن المركزي بباب المعظم من بغداد وأعدت له غرفة مبردة وسرير و وسائد وفرش من منزله ، ومناضد وكراسي للزائرين له يوميا من شخصيات البلد ..كما اعد له ليلا سرير خاص وفراش وثير علئ سطح السجن بحكم حرارة الصيف ومراوح لتلطيف الجو ، وكراسي ومناضد لزائريه ليلا مع الهدايا المناسبة اليه ..
والمعروف إن الذين حرضوا علي حجازي على عصيانه ودفعوه الئ القيام به هم عدد معروف من وزراء الداخليه والماليه والدفاع السابقين في مجلس خمر ..وانه اعتمد باسنادهم له فأقدم على ما اقدم عليه .. وكان هؤلاء وغيرهم من كبار الساسة ومن خصوم صالح جبر وجماعته هم في مقدمة زائريه الموجودين عنده ليلا وسياراتهم عند باب السجن ملحوظة ، وصوت الطاولي على السطح مسموع لهؤلاء اللاعبين المرفهين وله وضعه المتميز في السجن ، وموظفو السجن في خدمته .
وهذا لون من الوان السجن وبالاشغال الشاقة ايام العهد الملكي في العراق ونقيضه لمشايخ الوطنيين ايضا مدون ومشهود ..
ولما شكل نوري پاشا السعيد في 16 أيلول 1950 وزارته الحاديه عشرة ؛ استصدر إرادة ملكية في 30 تشرين الاول 1950 بإعفاء علي محمد خالد حجازي مما تبقى من محكوميته ، فأطلق سراحه في الحال بعد أن امضى ثمانية أشهر فقط من مدة محكوميته ، في غاية الترفيه والتكريم .
بحكم التوصيات المتوالية من الامير بشأنه وكان يرعاه في جميع مراحل عصيآنه ومحاكمته وسجنه ، وحين خرج كان عدد من الوزراء السابقين بصحبته الى داره ، لإن الامير عبد الاله لم ينس موقف علي حجازي اثناء حركة رشيد عالي الكيلاني في مايس عام 1941 ، ولذلك قربه اليه ولم يحفل بما اشتهر عنه وماعرف به . وفي عصيانه المسلح على الحكومة كيف الوصي الموقف على نحو ماتقدم. وكان له ماكان !! ولو كان صادرا من غيره لكان غير هذا الشأن
(من مذكرات الوزير رؤؤف البحراني طبعت في بيروت)