الايام السود من حياتي في عام 1963

الايام السود من حياتي في عام 1963

د. شاكر الجنابي
التحقت في معسكر سعد "مقر الفرقة الثالثة في بعقوبة" عام 1961. كان قد تم افتتاح مستشفى بعقوبة العسكري، الذي قامت بتشييده شركة المانية حديثاً، من قبل قائد الفرقة الثالثة خليل سعيد. صرت آمراً لهذا المستشفى وكانت هناك وحدة الميدان الطبية السابعة التي كان آمرها د. فاضل الصياد ومن بعده د. محمد علي عبدالحميد.عمل في المستشفى في تلك الفترة الكثير من اصدقائي الاطباء الاحتياط ومنهم

د. ضياء الصّراف ود. محيي الصّراف ود. زهير قصير ود. طارق الحلي ود. ضياء الحسني ود. محمود البحراني و د. هادي الجمالي و د. بطرس قلابات
و د. هاشم العاني.. وكثيرون آخرون. استقرت اموري في بعقوبة.. وشعرت براحة اكبر في حياتي العائلية والمهنية.
اكملت زوجتي دراستها في دار المعلمات الابتدائية في بعقوبة كما انني فتحت فيها عيادة طبية.. وسكنا بجوار عائلة كريمة "بيت عبود اسطة عباس" ساعدتنا كثيراً. كما نشأت لنا صداقة عائلية مع قائد الفرقة خليل سعيد وعديله الرئيس الاول الركن محمود العمري وكذلك مع عائلة رئيس اركان الفرقة العقيد الركن عبدالجبار شنشل والعقيد نصيف السامرائي والكثير من الضباط والاطباء واهالي بعقوبة الطيبين.
سارت الحياة على وتيرة واحدة وانشغلت بالعيادة واشتهرت سمعتي في بعقوبة والقرى المجاورة لها، وكثرت الاحاديث عني واقترنت سمعتي بالطبيب الانساني الذي يحب مساعدة الفقراء.. وسياسياً كنت محسوباً على الديمقراطيين جماعة الزعيم عبدالكريم قاسم.
في نهاية عام 1962 بدأت الغيوم تتراكم، وتوحدت القوى الرجعية والبعثية والقومية وقوى العهد البائد وقوى العصابات والشقاوات.. كلها وجهت نشاطها ضد عبدالركريم قاسم. وكان هو يحيل الضباط الديمقراطيين والمخلصين له على التقاعد ويستبدلهم بالضباط القوميين والبعثيين امثال صالح مهدي عماش وسعدون غيدان وجماعتهم.
في نهاية عام 1962 ارسل الحزب الشيوعي رسالة إلى الزعيم عبدالكريم قاسم يخبره فيها ان انقلاباً عسكرياً بات وشيكاً بقيادة حزب البعث والضباط القوميون واعطوه قائمة بأسماء الضباط المتورطين مدعومة بالادلة الدامغة.. كانت الادلة والاعترافات قاطعة لاقناع عبدالكريم قاسم بمصداقية تلك المعلومات.. فاقتنع بها وعلم بقرب تنفيذ الانقلاب.. وعليه قرر ان يعمل شيئاًَ بعد ان تأكد ان هؤلاء الضباط مصممون على قلب نظامه فكان ان اصدر قراره بأحالة جميع اولئك الضباط على التقاعد، واجتمع بهم في وزارة الدفاع وكان بينهم صالح مهدي عماش وعبدالجبار شنشل ومحمد علي سباهي وسعدون غيدان وحردان التكريتي وعدنان الشالچي وهادي خماس… وغيرهم، وقال: (انني مقتنع كلياً انكم متهيؤن للقيام بانقلاب عسكري ضد حكومتي.. لقد قررت احالتكم على التقاعد.. ولكن لن اقوم بتوقيفكم ومحاكمتكم.. لاني لا اخاف منكم.. انا مستعد لان اجهزكم بالاسلحة اللازمة.. لانني اعرف جيداً ان الشعب العراقي سيهب لنصرتي ويقضي عليكم.. لذلك فانتم مطلقوا السراح ولا داعي لتوقيفكم.. فانتم الان طلقاء!!).
على الرغم من هذه القرارات التي اتخذها عبدالكريم قاسم.. استمرت الاشاعات بان انقلاباً عسكرياً بات وشيكاً.
في تلك الفترة الرهيبة التي تُنبئ بالعاصفة ظهرت قائمة باسماء حوالي ثلاثين ضابطاً اصدرتها القوى التي تسمي نفسها بالقوى القومية وهي القوى التنظيمية التي تريد الاطاحة بنظام عبدالكريم قاسم.
واعلنت هذه القوى عن مطالبتها بتصفية هؤلاء الضباط باعتبارهمً خطرين ومخلصين لنظام عبدالكريم قاسم. علمت فيما بعد ان اسمي كان مدرجاً في هذه القائمة (كما اخبرني لاحقاً بذلك الضابط محمد علي السباهي).
عند صدور الاوامر باحالة اولئك الضباط القوميين والبعثيين على التقاعد اختفى الكثير منهم وانهارت اعصاب القسم الاخر، فراجعني قسم منهم في مستشفى بعقوبة العسكري.. يطلبون مني ادخالهم المستشفى لاسباب مرضية عسى ان اتمكن من حمايتهم في المستشفى ومن ثم اعطائهم اجازات مرضية يستفيدون منها لمساعدتهم في التقاعد.
وقفت معهم موقفاً انسانياً وساعدتهم كثيراً على الرغم من كل تحذيرات قائد الفرقة اللواء الركن عبدالكريم محمد الذي قال ليّ: (دكتور شاكر، هؤلاء ضباط متأمرون ضد الزعيم عبدالكريم قاسم.. فكيف تدخلهم المستشفى كمرضى.. انك تتحمل المسؤولية وحدك بذلك!).
قلت له: (سيدي انا اعرف ذلك جيداً ولكن هؤلاء ضباط.. واغلبهم كانوا اصدقاء ومن المرضى الذين يراجعونني ولي مع بعضهم صداقات عائلية.. ويحتاجون المساعدة والاخلاق تستوجب مني عمل ذلك بكل ما امكن.).. اتذكر جيداً كان من بين الحاضرين الزعيم الركن عبدالجبار شنشل و محمد علي السباهي وكل منهما كان في قائمة المتقاعدين.. وكلاهما وقفا معي موقفاً نبيلاً بعد انقلاب 8 شباط المشؤوم.

8 شباط (14 رمضان) عام 1963:
لقد حدث ما كنا نخشاه ونتوقعه، كان يوماً اسوداً ورهيباً.. قام حزب البعث والقوى الرجعية المتحالفة معه باسقاط حكومة عبدالكريم قاسم وعهد حكمه.
كان ذلك يوم 14 رمضان (8 شباط) وعلى ما اذكر كان يوم الجمعة.. حدث ذلك حوالي الساعة 7 صباحاً عندما قُطِعت برامج اذاعة بغداد عن البث لتعلن ثورة 14 رمضان والقضاء على نظام عبدالكريم قاسم واسقاطه.
ذهبت إلى مستشفى المعسكر.. وكان الوضع مضطرباً.. فهناك قوات من صنف الهندسة تؤيد عبدالكريم قاسم وقوات أخرى تتقدمها سرية الحراسة برئاسة محمد علي السباهي تؤيد الثورة والانقلاب، اما بقية الوحدات فبقيت ساكنة لا تتحرك.
حدثت مناوشات بالاسلحة في المعسكر بين الوحدات المؤيدة للانقلاب والاخرى المؤيدة لعبدالكريم قاسم، وقتل فيها بعض الضباط. وفي اليوم التالي تم اعدام حوالي عشرين ضابط صف من الوحدة المؤيدة لعبدالكريم قاسم.
حضرت إلى المستشفى وكنت خائفاً والتقيت بصديقي مساعد الوحدة ورئيس عرفاء الوحدة وبعض ضباط الصف في المستشفى واخبروني بوجود محاولة لقتلي من قبل زمرة يتزعمها الملازم اول الطبيب "قحطان السعيدي". وقالوا لي:ّ (دكتور، سوف نكون سوراً واقياً.. لا تخرج من المستشفى وسنقوم بحراستك 24 ساعة يومياً ولن نترك لاحد منهم مجالاً للوصول اليك).
كان الوضع مضطرباً والاخبار من بغداد متضاربة.. حتى الإذاعة اخبارها متضاربة وغير مشجعة، وبدأت البرقيات بتأييد الحركة من الكثير من الوحدات العسكرية...
بعد يومين او ثلاثة.. بدات المؤشرات تدل على نجاح الانقلاب وانهيار القوى الديمقراطية وامتلأت مواقف الحرس القومي بالالاف من افراد الشعب الطيبين وساد القتل والتعذيب وانتهاك الاعراض في كل مكان.
في اليوم الثاني والثالث بعد بدء الثورة.. جاء إلى المستشفى الملازم اول محمد علي السباهي (اصبح يحمل رتبة رئيس) مع ثلة من الجنود من فصيل الحراسة وطلب مني اصطحابه إلى مقر القيادة وقال لي ونحن في الطريق (انهم يريدون تصفيتك.. لكن لا تخف سوف لن يصلوا اليك الا بعد ان يقضوا عليّ – انك انسان طيب- شوهوا سمعتك ولكنني اعرفك جيداً).. وصلنا إلى قيادة الفرقة وكان هناك القائد الجديد (عبدالهادي الراوي) ومعه الزعيم الركن عبدالجبار شنشل وضابط الاستخبارات عدنان الشالچي وغيرهم من الضباط وظهر ليّ انهم كانوا يتكلمون عني- وعندما وقفت امامهم قال الزعيم شنشل: (دختور شاكر.. اننا نعرفك جيداً انساناً طيباً وطبيباً انسانياً ونحبك كثيراً.. ولكن صدرت قوائم باحالة الكثيرين من الضباط على التقاعد.. وهناك أمر من رئاسة اركان الجيش وأمر خاص من صالح مهدي عماش بأعتقالك ونقلك إلى السجن رقم واحد في بغداد. انبرى له محمد علي السباهي وكان يبدو ليّ وكأنه الشخص المؤثر وصاحب القرار وواثق من نفسه في هذا الاجتماع فقال: (لا يمكن توقيف الدكتور شاكر الجنابي.. فنحن كنا قد راقبناه منذ مدة طويلة وكلكم تتذكرون موقفه النجيب قبل عدة اسابيع عندما ادخل زملائنا إلى المستشفى بعد احالتهم على التقاعد وتحمل مسؤوليات كبيرة.. واثبت اصالته بمساعدتنا.. انا لا اؤيد توقيفه. اما موضوع اوامر صالح مهدي عماش.. فأنا مسؤول عن ذلك وسأتصل به شخصياً واتحمل المسؤولية).. طلبوا مني بعد ذلك الرجوع إلى وحدتي فرجعت. بقيت في وحدتي لمدة اسبوعين او ثلاثة في حالة خوف شديد.. وتحت حراسة شديدة من قبل اصدقائي الجنود في المستشفى، وكان يزورني الرئيس محمد علي السباهي كل يوم او يومين ليطمئن على سلامتي. واعترف ليّ مرة وقال: (قبل عدة اشهر وصلتنا اوامر من تنظيماتنا بتنفيذ تصفيتك في خان بني سعد.. وانت في طريقك إلى بغداد مع عائلتك، وانا قررت رفض تنفيذ هذا الطلب.. لانني اعتبرت ذلك أمراً خاطئاً واقنعت المسؤولين بصواب رأيي وسأستمر بالمحافظة عليك الان ومستقبلاً .. والان اعتقد انه من الاصلح لك هو الاحالة على التقاعد لكي تكون بعيداً عن هذا الجو العسكري المضطرب.. وساكون انا مسؤولاً دائماً عن سلامتك).
هكذا تمت احالتي على التقاعد.. فتركت المعسكر وذهبت إلى البيت وبدأت ازاول مهنتي في عيادتي في بعقوبة.

في موقف الحرس القومي في بعقوبة:
وقف الكثير من اصدقائي العسكريين سداً واقياً للمحافظة على سلامتي اثناء وجودي في الخدمة. ولكن بعد احالتي على التقاعد أصبحت تحت رحمة الحرس القومي، خاصة وانني اخطأت التقدير حين اخذت امارس عملي في عيادتي حال احالتي على التقاعد وحدث ما توقعته.. ففي صباح احد الأيام داهمتني في العيادة مجموعة من افراد الحرس القومي واقتادتني إلى مركز شرطة بعقوبة حيث سجنت هناك مع مئآت الموقوفين.. واغلب ظني ان زميلي وابن دورتي الدكتور عبدالودود المفتي رئيس الصحة آنذاك، وهو بعثي قديم ومسؤول في الحرس القومي، قد ساهم في قرار توقيفي.
كانت الاهانات والتعذيب على اشدها، وكان المسؤول عن التحقيق والتعذيب هو نبيل نجم التكريتي وهو موظف صحي في بعقوبة وكانت معاملته ليّ لا بأس بها.. ولقد توقفوا عن تعذيبي واهانتي بسبب الزيارات التي حظيت بها من وجهاء المحافظة المحترمين. ولا انسى ذلك اليوم الذي كنت فيه امام لجنة التحقيق من الحرس القومي وهي في الحقيقة لجنة تعذيب لا تحقيق.. عندها دخل علينا جمع من الشيوخ يتقدمهم الشيخ عبدالكريم الشيخ مهدي الجنابي وفيصل الشيخ مهدي وغيرهم من شيوخ تلك المنطقة "منطقة إلحدّيد" وهم معروفون ومحترمون لموقعهم الديني والعشائري في هذه المنطقة، وحالما رأوني انهالوا عليّ تقبيلاً واحتراماً وتعاطفاً. قال الشيخ عبدالكريم امام اللجنة (ان هذا الدكتور شاكر هو خيّرة ما عندنا.. واذا اصيب بأي مكروه منكم.. سوف لن تسلموا من العقاب.. انه امانة في اعناقكم.. الخ).. وفعلاً منذ ذلك الحين تحسنت معاملة الحرس تجاهي.. بعدها تكررت زيارات الشيخ عبدالكريم وجماعته ليّ في موقف الحرس القومي. في هذه الفترة كان يزورني في الموقف بعض الضباط ومنهم محمد علي السباهي والمقدم مجيد الفدعم وكذلك الدكتور هاشم العاني وهو من اقرباء مدير الشرطة آنذاك في بعقوبة.
في احد الأيام اخبرني الحرس القومي بأنني مطلوب من قبل مديرية الأمن العامة في بغداد ويجب ارسالي إلى هناك، فتوقعت شراً كبيراً وادركت ان نهايتي قادمة.
اتصلت بمحمد علي السباهي ومجيد الفدعم "عن طريق زوجتي" ليكونوا على علم بذلك.
جاءني المقدم مجيد الفدعم وكان آنذاك آمر الانضباط العسكري في معسكر سعد ومن قادة ثورة 14 رمضان وقال ليّ: (هذه خطة يراد منها تصفيتك يا شاكر.. ساخذك معي وساحافظ عليك مثلما احافظ على عيني.. فلا تخف.. انا لا يمكن ان أأتمن جلاوزة الأمن العامة في بغداد.. غدا ساكون عندك صباحاً ونذهب سويةً!).
في اليوم التالي جاءني المقدم مجيد الفدعم صباحاً وذهبنا سوية في سيارتي الخاصة وكنت اقودها بنفسي!.. وصلنا إلى مديرية الأمن العامة ببغداد وذهبنا إلى دائرة مدير الأمن العام وكنت خائفاً جدا،ً وعندما دخلنا على المدير وكما اعتقد كان الرئيس الاول جميل صبري وتبين انه يعرفني وعرفته.. ويكنّ احتراماً كبيراً إلى المقدم مجيد وقال لمجيد "ارجو ان تترك الدكتور شاكر عندنا لمدة يوم او يومين لاكمل التحقيق معه وبعدها يرجع اليكم لا تقلق على ذلك.. انني اعرف الدكتور شاكر جيداً فهو انسان طيب ومناضل معروف!!".
اجابه المقدم مجيد (انا اعرفكم جيداً ولن أأتمنكم على سلامة شاكر.. لن اسلمه لكم ابداً.. حققوا معه الان وسابقى معكم حتى نهاية التحقيق ونرجع سوية إلى بعقوبة ولا مجال إلى النقاش).
استمر الجدل بينهما وكان المقدم مجيد متمسكاً برأيه ومنفعلاً بعض الاحيان واخيراً استقر الرأي على اخذي إلى لجنة خاصة في مديرية الأمن وذهب معي المقدم مجيد. حيث هناك وجهت اليّ اسئلة كثيرة خاصة حول الموقوفين في معسكر ابو غريب عام 1959 وموقفي من الحزب الشيوعي وتعذيب الموقوفين.. شرحت لهم كل شيء وبصراحة تامة. واخيراً رجعنا إلى السيد المدير فقال لنا: (ارجعوا بأمان إلى بعقوبة ويجب بقاء الدكتور في التوقيف واذا احتجنا حضوره مرة أخرى سنخبركم بذلك). شكرنا السيد المدير وودعناه ورجعنا إلى بعقوبة بسلام والحمد لله ولم اصدق ما حدث!.
وبعد عدة اسابيع جاءت برقية جديدة طلبوا فيها أرسالي موقوفاً إلى "الحرس القومي" في البتاويين مقابل سينما النصر في شارع السعدون.
أُخذت مخفوراً وبحراسة اعضاء الحرس القومي.. وصلت المكان المطلوب واذ به مجرد بيت كبير قد زجوا فيه حوالي 200-300 موقوفاً من المثقفين!!، وفي كل غرفة فيه حشروا حوالي 20-30 شخصاً!!.
وكان معي في نفس الغرفة د. نوري السعدي ود. هاشم العاني واستاذي سليم نعش وفائق الشوك وغيرهم. كان التعذيب هناك على اشده وعرفت من المحققين د. سداد صبري. كان اصعب ما واجهناه في تلك الفترة هو عدم امكانية النوم بسبب اصوات التعذيب المستمرة وكذلك مشكلة الحصول على فرصة للذهاب إلى دورة المياه الصحية.. وللقارئ الكريم ان يتصور كيف يمكن لهذا العدد الكبير من الموقوفين ان يكتفي بدورات مياه صحية عددها 2-3 في بيت تم تحويله إلى سجن.!
في احدى الليالي اخذوني إلى لجنة التحقيق (لجنة التعذيب!!) وكانت برئاسة د. سداد صبري وكنا نعرف بعضنا البعض جيداً الا انه كان فظاً وغير مهذب معي وقال لي: (انك كنت المسؤول عن تعذيب الموقوفين في ابو غريب عام 1959 وانت شيوعي والاحسن لك ان تعترف وتكتب اعترافاتك قبل التعذيب!).
كتبت لهم اعترافاتي بالتفصيل وما قمت به ضد تعذيب الموقوفين في عام 1959 واشرت إلى الكتب الرسمية التي ارسلتها آنذاك.. وما دار بيني وبين العقيد طه الشيخ احمد ومن ثم اعطيتهم نسخاً من الكتب التي ارسلتها في حينه. لم يصدقوا افادتي وما قلته وكانوا يتهكمون عليّ وقالوا: (انك محسوب على عبدالكريم قاسم وانت شيوعي فكيف يمكن ان نصدق هذا الادعاء.. انك تكذب).
كان قد حضر صدفة إلى هذه اللجنة اللواء الركن نصيف جاسم السامرائي، آمر كتيبة الهندسة في بعقوبة وعندما سمع هذه المناقشة بيننا قال: (انا حضرت صدفة إلى هنا.. وسمعت هذا الكلام واقول لكم رأيي.. انا اعرف الدكتور شاكر الجنابي منذ سنتين وهو انسان طيب جداً ولا استبعد قيامه بأرسال تلك الكتب.. لقد اعطاكم نسخاً منها.. فلماذا لا تستفسروا من وزارة الدفاع عن صحتها.. وبعد ذلك.. قرروا مصيره).
اقتنعت اللجنة برأي اللواء نصيف وقال احدهم (خذوه إلى غرفته.. يؤجل التعذيب لحين ورود جواب من وزارة الدفاع).. بعد اسبوعين او ثلاثة.. اخذوني مرة أخرى في احدى الليالي إلى لجنة التحقيق وكان خوفي على اشده!. وقفت امامهم فقال احدهم (لقد وصلنا الجواب من وزارة الدفاع وتأكد لنا صحة ارسال هذه الكتب الرسمية التي اخبرتنا عنها والمكتوبة عام 1959 عن قضية الموقوفين في معسكر ابو غريب.. لم نصدق ابداً ان شخصاً مثلك محسوباً على عبدالكريم قاسم وزمرة الشيوعيين ان يقف هذا الموقف الجريء في ذلك العام.. لذا قررنا اطلاق سراحك هذا اليوم او غداً).
وفي اليوم التالي تم اطلاق سراحي وبدون كفالة وأصبحت حراً ولكنني فضلت بعد كل هذا ان اتوارى عن الانظار.
بعد حوالي شهر او شهرين بلغني ان هناك امر من الحاكم العسكري بتوقيفي ومحاكمتي. وصلني هذا الخبر عن طريق قريبي وصديقي القاضي عبدالقادر الجنابي (ابو صلاح) وهو قاضي التحقيق الخاص في مديرية الأمن العامة وأيد هذا الخبر الاخ محمد علي السباهي.
واخيراً اتفق الاثنان عبدالقادر والسباهي على محاولة تأمين جواز سفر ليّ بأي طريقة ممكنة.. والخروج من العراق.. (فقد بلغ السيل الزبى!).
تكفل الاخ عبدالقادر الجنابي بموضوع احضار جواز سفري.. طلب مني ان اذهب معه إلى دائرة جوازات السفر في البتاويين.. ذهبت معه حسب الموعد وكنت خائفاً وقال لي لا تخف فانا قاضي التحقيق في مديرية الأمن العامة وانا المسؤول عن اصدار التوقيفات!.
دخلت معه إلى غرفة مدير الجوازات.. تكلم ابو صلاح واخبره بأنني ابن عمه.. وأحتاج إلى جواز سفر.. اظهر مدير السفر احتراماً كبيراً واهتماماً بالاخ ابو صلاح وقال له: (لماذا تكلف نفسك يا ابا صلاح.. كان بأمكانك ارساله اليّ وانا اقوم بالواجب) اخيراً.. اعطى المدير ورقة صغيرة مكتوب عليها اسمي الكامل "شاكر محمود الجنابي" إلى احد موظفيه وقال له ان ينهي الموضوع بسرعة لانه طلب مستعجل من السيد قاضي تحقيق الأمن العامة السيد ابو صلاح.. ذهب ذلك الموظف وبعد فترة جاء ليتكلم مع السيد المدير حول الموضوع..
كنت اراقب العملية بحذر.. وكنت اتوقع شراً.. سمعت المدير العام يقول للموظف (ان اسم شاكر محمود الجنابي اسم عام ولا اعتقد انه المقصود بامر الحاكم العسكري بتوقيفه فوراً.. اذهب وتأكد من الاسم الثلاثي.. الخ).
شعرت ان القاضي عبدالقادر اصبح يتوقع شراً.. فقال ليّ همساً (يظهر يا شاكر ان هناك امراً من الحاكم العسكري بالقاء القبض عليك!.. لذا سأفتعل نقاشاً مع المدير وحينذاك انت اترك الغرفة.. واذهب إلى أي مكان غير بيتكم.. فسيكونون وراءك لالقاء القبض عليك!). وبالفعل اشتد النقاش بين ابو صلاح والسيد المدير وقال ابو صلاح (هل تقبل يا سيادة المدير.. ان اجلب لك ابن عمي لاجل الحصول على جواز سفر واسلمه لكم موقوفاً حسب امر الحاكم العسكري!؟... الخ).
وقف ابو صلاح امام السيد المدير وهو منفعل.. وكنت قريباً من الباب وبينما هما في حالة من النقاش الشديد.. اختفيت خلسة وبهدوء من الغرفة خلال لحظات.. وذهبت لافتش ليّ عن بيت اختفي فيه.. اصبح الان هناك امر من الحاكم العسكري بالقاء القبض عليّ. واخيراً وبعد عدة اسابيع.. تمكن الاخ ابو صلاح من الوفاء بعهده واحضر لي جواز السفر المطلوب. تم لقاء بين الاخ ابو صلاح والسباهي وابن عمتي فاضل الجنابي واستقر رأيهم على التخطيط للسفر بسرعة إلى أي مكان خارج العراق وهم على يقين من ان هناك امراً من الحاكم العسكري بالقاء القبض عليّ.
قام الاخ "ابو خالد" فاضل الجنابي بحجز تذكرتي على الطائرة البريطانية BOAC القادمة من دلهي في رحلتها إلى لندن، وكان برفقتي إلى المطار اضافة إلى الاخ السباهي كل من زوجتي واخي سلمان. كان موعد وصول الطائرة مطار بغداد هو الساعة الثالثة صباحاً وسياتي معي الرئيس محمد السباهي وبالزي العسكري ليتولى موضوع سلامتي في المطار. كنا نعلم انا والاخ ابو صلاح ان في محاولتنا هذه بعض المجازفة بحكم وجود أمر من الحاكم العسكري لمنعي من السفر إلى الخارج.. خرجت إلى المطار انا وزوجتي والاخ محمد السباهي وبعد ان هبطت الطائرة توجهت نحوها برفقة الاخ السباهي الذي كان معروفاً لدى مسؤولي المطار واخذت التحيات العسكرية تنهال علينا من هنا وهناك.. ولم يحدث أي تحقيق جدي عن اسمي.. وهكذا نجوت باعجوبة وصعدت الطائرة لتحلق بيّ إلى لندن وتنفست الصعداء. وكنت المسافر الوحيد من بغداد الذي صعد هذه الطائرة.. وبقدرة قادر خرجت من العراق سالماً.

(من مذكرات د. شاكر الجنابي الصادرة عام 2005)