مسرح الصورة بين النظرية والتطبيق

مسرح الصورة بين النظرية والتطبيق

خالد ايما
كيف لنا أن نقرأ"صلاح القصب"؟ سؤال محير لجواب نحتاج من خلاله إلى أن نفكر ونتأمل ونحلم...نعم نحلم بمدن (القصب)السحرية.. مدن الأحلام، والصور، والخوف، والقلق، والجنون، والمعرفة، والحزن، والفجيعة، والاستيقاظ، والفرح. كيف لنا أن نفكر ونبحر إلى عالم الفلسفة، عالم الجمال؟ وندخل فضاءات الفلسفة والشعر ونتجرد من أجسادنا،

و نرى الكلمات، نرى الرواية، والشعر والموسيقى . كيف لنا أن نرى الشعر ونشم رائحته؟ كيف لنا أن نرى شكسبير بعيداً عن ثرثرة اللغة؟ ونستشعر ذلك التدفق الوجودي لدى"هاملت"(أكائن أنا أم غير كائن) و نسمع بعيوننا ونرى بآذاننا؟كيف لنا أن نمسك بتلك الأرواح التي فارقناها زمناً أخر ربما أنها تبتعد عنا أزمنة طويلة؟ كيف لنا أن نتجاوز أدبيات الخطاب ونبتعد عن سطوة اللغة ودكتاتوريتها ونبحث عن ذواتنا ونطرح أسئلتنا وهواجسنا ونعيد قراءة النص من زوايا مختلفة؟. تساؤلات كونية معقدة، وحيرة كونية يطرحها القديس (صلاح القصب) المهووس بالبحث والتجريب والابتكار في كتابه الموسوم (مسرح الصورة بين النظرية والتطبيق) الصادر عام 2003 من المجلس الأعلى للثقافة والفنون(قطر) وهو عبارة عن دراسة نظرية مفعمة بالكثير من البيانات والمنطلقات الفلسفية والجمالية لمسرح الصورة،وأبحاث متفرقة مابين الدراسات والقراءات النقدية المخضبة بالجدل والتوالد المستمر

على امتداد (355 صفحة) لم نصل فيها إلى قراءة تسجيل نهائي، أو قراءة نهائية للرسالة الجمالية لما احتوته من خرق في المنظومة العقلية التي تحتاج إلى عملية فرمته وتنصيب لاستقبال هكذا أسئلة غامضة لمنظر ساحر يمكن أن ندعوه ب(صلاح كالفينو) الذي عرف كيف يرتدي ثوب المعرفة في مدنه المرئية الملونة ويخترق بها واقع المسرح العراقي الذي ظل يراوح مابين إلهنا وألهناك في ثوابت مألوفة غير قادرة على أن تخترق وتشاكس النص والمؤلف، والمخرج (الدكتاتور) أو ما يسمى بـ (المصطلح الأكاديمي) الذي ألغى سلطته في (فرضية صورة الذاكرة) التي أعتبرها إضافة ومدخل جديد للصورة موكداً في ذلك إن(روح الجماعة بتفكيرها المتعدد، وأحلامها المختلفة هي التي تستطيع أن تحدد فرضية العمل من خلال استحضار الذاكرة، والدخول في مدن الذاكرة الملونة إذ شاخت الصورة وهرمت) , وهذا الحديث هو إشارة أولى للدخول إلى مدن (كالفينو القصب) المتمثلة بـ ((الحلم الضوئي، العاصفة، الملك لير، الخال فانيا، مكبث، أحزان مهرج السيرك، حفلة الماس، عزلة الكريستال)المدن الصورية التي خصتها الدكتورة(عواطف نعيم) المخرجة والمستشارة الجمالية لبعض عروض القصب المسرحية بمقدمة افتتحت بها خارطة الذاكرة الصورية حينما أدعت أن"القصب"هو(من أشعل الفتنه في خارطة القراءة المسرحية عربياً وعالمياَ)، وان مسرح الصورة لدى القصب هو(نداءات للروح وللخلاص من ثقل المطار الأرضي صعوداً إلى مدن يسكنها اللون والحلم والضوء،)، وبعد هذه الرؤية يفتتح الكتاب بست قراءات مختلفة كان أولها قراءة في (البيانات والمنطلقات الفلسفية والجمالية في مسرح الصورة)شملت خمس بيانات هي (المنطوق النظري لمسرح الصورة، وما وراء الصورة، وكيمياء العرض، وكيمياء الصورة، وما ورائية الصورة(بحث تنظيري) مشترك بين الدكتور صلاح القصب، والدكتور كريم عبود، ولو وضعنا هذه البيانات تحت عدساتنا القرائية (الفحص الجدلي) نجد إن هذه البيانات قد توزعت مابين(بغداد ورومانيا والكويت والقاهرة والدوحة.) وفيها يؤكد (القصب) على إن المخرج في مسرح القسوة هو (من يفكر ويرى، ويعرف كيف يرى، وهو صانع مبدع للمفردة وقوتها، وكاتب خيالات مفعمة بالسحر)، وقد يكون(وسيط كيميائي (catalyst) يقف وحيداً في سماء العاصفة وأحلام الدهشة)،أو(بحثاً في اللامعنى لإيجاد معنى ما بعد (اللامعنى))، وقد يكون المنتمي لما بعد(اللامنتمي) الذي خرج من العاصفة، وعزلة الكريستال، وحفلة الماس،والخال فانيا بـ (كيميائية العرض والصورة)التي يستيقظ بهما التجريب الذي بدوره يوقظ سلطة الحلم التي أعتبرها (القصب) بمثابة الحياة والعقل والروح والخيال مؤكداً ذلك في جملة مفيدة (لولا الحياة لما كان هناك حلم، ولولا الحلم لما كانت هناك حياة)، وبالتالي نجد المخرج هو من ينتمي إلى الاتجاه الذي يحدده(ارتو) على حد تعبير القصب في البيان الأول (المنطوق النظري لمسرح الصورة)،ومن جانب أخر عمل هذا(المخرج) على إلغاء سلطة (المصطلح الأكاديمي) أو ما يسمى بدكتاتورية المخرج معتمداً في ذلك على ذهنية وقدرات الممثل(المفكر).واخص بالذكر(الحلم الضوئي) الذي قال عنه(انه حلم جماعي، ليس هو حلم"صلاح القصب".وإنما حلم مارسه كل الممثلين ولهذا لم أكتب على عملي تأليفاً أو أخراجاً،وإنما كتبت حلماً جماعياً،وهنا أريد أن أؤكد حقيقة إن المخرج لا وجود له في المسرح العالمي ما موجود هو ممثل(مفكر)، ومشاهد ناقد)، وبخصوص منظومة العرض المسرحي التي تبدأ بالمؤلف، وتنتهي بموت العرض المسرحي هنالك تساؤلات غريبة (دائمة) يطرحها الدكتور (صلاح القصب) في أكثر من مناسبة وهي: كيف يستطيع المخرج سحب روح المؤلف الشاعر الكاتب الهائمة في هذا الفضاء؟ وكيف يستطيع أن يعيد تلك الأرواح أو الذكرى التي نطلق عليها مصطلح العرض المسرحي؟ وكيف نستعيد ذلك الهاجس الخفي الذي أنجز هذا العمل؟ ومن بعد هذه التساؤلات الفكرية نجد القصب يضع بعض الحلول والمعالجات المراد بها العودة إلى أعماق الكيمياء وقدسية شعر المسرح وحركته، ومنها: (أن ننطق الصمت، والليل، والأشياء التي يعجز عنها التعبير. ليست هناك نقاط بعد نهاية الجمل، وليست هناك نهاية للجمل، هناك هدير في الصور التي تفجرها الذاكرة المتوحشة)،وبهذا يكون(القصب) شاعراً وصديقاً للروح والصفاء ، والفرح، والعذاب، والقلق الذي لا يفارقه لحظة ، ومن بين هذه الأسئلة المثيرة للجدل والشك (من أين جاء بهذه القيم الفلسفية ليؤسس خطابه الإبداعي؟؟) سؤال يحيلنا إلى أن نبحث عن مرجعيات وخلفيات مسرح الصورة المتأثر بأفكار السرياليين في بيانات (أندريه بريتون)، وبرسومات(سلفادور دالي)، وبتجارب بيرو البرازيلي، وكانترو، وباللغة المسرحية الخالصة بكتابات (أنتونان أرتو)، وهذه المعاني تمثل الخطاب الصوري الكوني والعالمي الذي نظر له القصب في بحوث ومقالات يؤكد من خلالها على (التكوين التشكيلي في المسرح، ومسرح الصورة بين الفلسفة والفن، وكيمياء التجريب في المسرح، والمدينة والمسرح)، وفي أضاءه تشكيلية يعلن (القصب)على أن(المجربين الكبار هم فلاسفة، ورسامون كبار)، ويسمي عروضاً عراقية بإشراقات تشكيلية، وهي لمخرجين عراقيين كبار مثل(سامي عبد الحميد، فاضل خليل، عزيز خيون، عوني كرومي، جواد الأسدي، شفيق المهدي، قاسم محمد، وكاظم النصار، وناجي عبد الأمير، وكريم رشيد، وعقيل مهدي)، وأن لحظة الأستشراق عند هؤلاء المبدعين هي حادث عابر لن يتكرر أبدا حسب قوله في (مونادا الصورة)البحث الذي يُرجع به مسرح الصورة إلى أصوله العميقة التي تكمن في ثلاثة جذور غير درامية بالمعنى المسرحي وهي(الشعر والرسم (الفن التشكيلي)، والسينما) ومن بعدها يقترح ثلاثة أنماط مفتوحة لتصعيد مسرح الصورة وهي (مسرح المرآة، والمسرح السينمائي، والمسرح الشعائري) و ثلاث قراءات فلسفية وشعرية وتشكيلية، واصفاً بها التجريب بـ (السحر الكوني الذي يحاكي الروح تحت وطأة الجسد) معتبراً إياه سراً من أسرار الجنون والخوف والفجيعة التي غاصت في الذاكرة ليكون(خزائيل) الشعر أول صرخة تطلقها الصورة. أما النصف الأخر من الكتاب والذي يحيلنا به (القصب) إلى قراءة ثالثة ضمت (ثمانية عشر حواراً) تعتبر من أهم الحوارات والإشراقات الفلسفية التي أجريت مع (القصب) نستشف من خلالها خمس حوارات للناقد (عبد الخالق كيطان) بدأها بالسؤال المعرفي الأول(مسارح تشيخ وتهرم ومسرحيون من الألوان كلها يتساقطون يومياً، أين يمضي بنا قطار المسرح يا أيها المسكون بعذابات الحواس؟) أما بقية الحوارات فهي موزعة بين(الناقد ياسين النصير، ومظفر كاظم،و وعماد النويري، وحسين الحسيني، ومنى سعيد، وعبد الرزاق الربيعي، ومحمد شاكر السبع، وناظم السعود ومحمد سيف و ماجد الأميري) وفي أشارة رابعة مهمة يتحدث (القصب)فيها عن الدراسة التي كتبها أثناء تواجده في مهرجان بغداد المسرحي 1987والتي ألغى فيها سلطتين سلطة المخرج، وإحراق دفاتر (سكريبتات) مدير المسرح مؤكداً في ذلك أنه أول من ألغى كلمة المخرج،وأول من أطلق مسرح(فرضية الذاكرة)،ومن بعد هذه الإشارة نكون مع المحور قبل الأخير وهو عبارة عن أهم الدراسات والمقالات التي كتبت عن بيانات ومنطلقات القصب الفكرية وهي للدكتور(عبد الكريم برشيد، وعبد الرحمن زيدان،وحميد صابر)، وعن(الرؤية في مسرح الصورة) للدكتور رياض موسى سكران، و(جماليات العرض المسرحي) للدكتور جبار خماط،و(أثيرية الصورة عند صلاح القصب) للدكتور وليد رشيد. وعلى مدى (54 صفحة) نقرأ فيها أهم القراءات النقدية التي كتبت عن عروضه الصورية ومنها(الملك لير، العاصفة، مكبث، طائر البحر، الشقيقات الثلاث، أحزان مهرج السيرك، الحلم الضوئي، عزلة الكريستال، وحفلة الماس) وبهذه القراءات نطلع على أسماء مهمة في النقد العراقي والعربي منهم من أستنشق هذه التجربة الصورية، ومنهم من أختنق بها مثل(نبيل بدران، عبد الحميد كاظم، نازك الأعرجي، عصام محمد، ناجي كاشي، حسب الله يحيى، عزيز عبد الصاحب، عقيل مهدي، محمد أبو خضير، حميد المختار، عواد علي، نهاد صليحة، وليد أبو بكر، بيار أبي صعب، بول شاؤول، فاضل ثامر، ومعد فياض) وفي قراءة أخيرة يدخلنا (القصب) في مصحات الذاكرة لنشم رائحة الصورة التي أرتئ فيها إلى جمع السيناريوهات الصورية على طريقة المشهد (الرقمي)أو الإشارة ، أو الرحلة، أو الفراغ ومنها (أحلام أدكار الن بو، واوبرا الأميرات الضائعة، ومذكرات رحلة الرجل...) ملحقة بذاكره صورية لمجمل عروض القصب السحرية التي وجدت بها (صورتي) أثناء تجوالي في (الحلم الضوئي) مع هادي المهدي(الممثل الأعمى الذي أراد أن يصطاد الطبيعة) ووليد غنية، ونيكار حسيب (مغنية الأوبرا التي انتظرت طويلا) وسميرة خنجر، وإبراهيم حنون (الممثل الذي حلم بأنه غيمه واحده فقط)، وعدنان بن احمد(الممثل الذي أصبح في الحلم فيلسوفاً)، وماجد درندش، وجبار خماط،وصالح حسن..،و....)
إذن هي دعوة إلى قراءة (صلاح القصب) من جديد...هذا العاشق الحقيقي للفن المسرحي.العلامة المضيئة في تأريخ المسرح العراقي بمسعاه الدائم لخرق المألوف والقبض على اللامرئي . دعوة إلى استنشاق هذه التجربة الرائعة والفريدة من نوعها لما شكلته في الماضي البعيد والقريب من اختراق ومغامرة في الوعي والمعرفة، ولما تشكله الآن من قراءة جديدة في الغد القادم المشرق الذي بدأ يحاور من الآن فصاعداً ماضيات الصورة وما بعد الصورة ليقرر من بعدها (الكولونيالي؟؟) انشقاقا جمالياً أخر، ولكن هذه المرة مع (ريتشاد الثالث عشر) ومع من؟؟؟؟ سؤال يحتاج إلى أن نفهم وندرك ونعشق كل ماله علاقة بـ(صلاح القصب) وتنظيراته الصورية.أخيراً ربما كانت قراءتنا المبسترة في تخوم (مسرح الصورة بين النظرية والتطبيق) تشوبها العجالة والتلمسات الخاطفة لكننا نعد بأن لنا قراءة أخرى في ربوع هذه التساؤلات الكونية.