الحلاج.. السيرة والاسرار

الحلاج.. السيرة والاسرار

عباس التميمي
الحلاج / السيرة
لم يحظ متصوف من هذه (العائلة المقدسة) بما حظي به (الحلاج) (244هـ - 309) وبما أثاره من زوبعة في الأوساط الدينية وبما تركه من تأثير امتد خارجا إلى الهند وفارس وتركيا وكان اسمه يتردد في أدعية الهائمين بالذات الإلهية وفي أفكارهم ومواجيدهم وفي ترانيم العشق وكانت كلماته نحو الالتحام والتجلي لها حضورها القوي في الأوساط الصوفية.

(والحلاج) هو (أبو المغيث الحسين بن منصور بن محمي البيضاوي) وكان جده مجوسيا , ولد الحلاج في سنة 244هـ في قرية تسمى (الطور) في مدينة (البيضاء) من إقليم فارس , نزحت أسرته إلى العراق وكان أبوه يعمل في حلج القطن ودخل إلى مدينة البصرة ولكنه لم يستقر بها ورحل إلى (واسط) واستقر بها وكان الحلاج حينها في بدايات شبابه.
وقصد الحلاج في بداياته الاولى (تستر) وتعرف فيها على (سهل بن عبد الله التستري) 283 هـ وهو من الزعامات الصوفية في عصره فصحبه الحلاج واخذ منه مبادئ التصوف وتقول المصادر التي ذكرت هذه الصحبة أنها استغرقت سنتين فقط. وبعدها نرى الحلاج في (البصرة) يتعرف على (عمر بن عثمان المكي) 297 هـ المتصوف المشهور ويأخذ عنه الحلاج علوم التصوف والزهد فاخذ نجم الحلاج بالبروز واخذت الأوساط الصوفية تتعرف على نجم جديد في سماء التصوف. ولكن علاقته مع (المكي) لم تدم طويلا إذ سرعان ما ساءت هذه العلاقة بسبب (زواج الحلاج) من إحدى بنات (أبو يعقوب الاقطع) وهو منافس عمر بن عثمان المكي على زعامة الصوفية في البصرة فانقطعت العلاقة بين الرجلين وحدثت بينهما جفوه. وبعد ذلك التقى الحلاج في بغداد (بالجنيد البغدادي 255 هـ) اكبر المتصوفة المشهورين ودامت علاقته نحو ست سنوات ويذكر (بروكلمان)ان الحلاج شعر انه متفوق على أستاذه لأنه رأى نفسه وقد بلغ (مرتبة الكمال) التي سعى إليها الجنيد عبثا. والجنيد البغدادي ترك تأثيرا كبيرا على الحلاج فهو الذي البسه بيده (خرقة التصوف) فهو مرشد الحلاج الروحي ولكن الحلاج في النهاية رمى الخرقة وتمرد على شيخه ليختلط بالشعب راغبا وزاهدا وواعظا بالحياة الروحية, وارتبط الحلاج كذلك بصداقة قوية مع (أبو بكر ألشبلي) 334 هـ الشاعر الصوفي المشهور. أما العصر الذي عاش فيه الحلاج فهو أكثر العصور الإسلامية خطورة وقلقا.
فقد أخذت مؤسسة (الخلافة الإسلامية) بالضعف والتفكك ودبت الصراعات بين أطرافها وأخذت التهديدات للخلافة تأتي من كل الاتجاهات. فقد عاصر الحلاج ثورة الزنج عام 255 هـ وشاهد تأسيس دويلات لا تخضع للسلطة العباسية وظهرت الحركات الثورية المهدوية في عصر الحلاج لتجعل من ذلك العصر عصر الانقسامات والإحداث الجسام. وفي عهد الحلاج ايضا ظهرت (الحركات الإسماعيلية) وازداد نشاطها واخذ دعاتها ببث أفكارهم مستخدمين شتى الوسائل الفكرية والفلسفية والدينية مع التنظيم الدقيق والعمل السري المحكم. عند هذا المعترك الخطر من حياة الأمة الإسلامية ظهر (الحلاج) متصوفا ومتفلسفا في وقت حرج تعيش فيه الشعوب الإسلامية بوضع مأزوم ينذر بالخطر الوبيل. وكانت (الحركة القرمطية) المنسلخة من (الإسماعيلية) هي اكبر تهديد لسلطة الخلافة في ذلك العصر قد أخذت تشن الهجمات كذلك نجح الاسماعيليون في إقامة دولة لهم في المغرب وأقيمت دولة أخرى شيعية زيديه في طبرستان فلا غرابة إذن ان يحدد (ابن النديم) سنة 299هـ بأنها ألسنه التي ظهر فيها (أمر الحلاج) وهذا التاريخ يعني دق ناقوس الخطر لمؤسسة الخلافة الإسلامية فالأوضاع الاقتصادية تزداد سوءا والإخطار المحدقة باتت على الابواب. وأخذت السلطة العباسية ترى الخطر الداهم من الداخل في الحركات الصوفية ذات الأفكار الغنوصية والعرفافية والتي كانت تجذب إليها الفقراء والمهمشين والجياع وأصحاب المهن البسيطة للثورة على الأوضاع السيئة فقد كانت لهذه الطبقات الفقيرة المصلحة الاجتماعية في التغيير السياسي للخلاص من أوضاعها المزرية كما نبه إلى ذلك المستشرق الانجليزي هاملتون جب.
ولا زالت هذه الطبقات الفقيرة والكادحة وقودا للحركات الثورية التي تهدد المركزيات السلطوية والحركات التي تنادي بإيديولوجية النهاية التاريخية للطور البشري وقيام المنقذ والمصلح الغيبي.
نهض الحلاج إذن بدعوته الصوفية في جو الصراع السياسي والديني المحتدم آنذاك وكانت له على ما يظهر اتصالات كثيرة مع الأطراف المؤثرة لكنه كان قلقا لا يهدأ ورأينا كيف ساءت علاقته مع متصوفة عصره (أهل الخرقة) فانتهت بالقطيعة لأنه هتك (الإسرار الإلهية) وانزلها لعامة الناس , واقترب الحلاج من (الشيعة) فسافر إلى (قم) وكانت مركز التشيع الأمامي آنذاك ولكنه اصطدم مع زعاماتهم الدينية بسبب أفكاره الجريئة حول وفاة الإمام الثاني عشر أثناء فترة الغيبة الصغرى ومطالبته لهم بالبحث عن إمام جديد. مما فجر الصراع وعاقبه الشيعة بالطرد من قم.
وكان للحلاج علاقات أكثر عمقا وامتدادا في الأوساط (الهرمسية) الغنوصية وحملة الفكر الروحاني القديم ويذكر مؤرخو حياة الحلاج انه قام بسفرات عديدة إلى (الهند والصين) وربما ترجع بعض الأفكار الحلاجية وتصوراته الغنوصية إلى المعارف التي حصل عليها في هذه البلدان. وأخذت السلطة العباسية تبحث عن الحلاج فقد انتشر أمره فاختفى الحلاج عن الأنظار لكنه سقط في أيدي السلطة العباسية سنة (301 هـ) في أيام وزارة (علي بن الفرات) وكانت التهمة الموجهة إليه هي (القرمطية) وهذا هو (الوجه السياسي) وتهمة (الكفر والقول بالحلول) (والانسلاخ من الدين) وهو (الوجه الديني) فقد قتل الحلاج بسيفين: سيف الدين وسيف السياسة. وألقى الحلاج في السجن وبقي مدة (ثماني سنوات) ونودي عليه بأنه احد (القرامطة) وصلب أولا تشهيرا به وكان هذا الصلب التمثيلي يستهدف اهانة الحلاج وكسر همته. وفي سنة (309هـ) صلب الحلاج بعد ان ضرب ألف سوط وقطعت يداه ورجلاه ثم قطع رأسه وأحرقت جثته بفتوى من القضاة الذين حاكموه وبسعي من الوزير (حامد بن العباس) الذي كان يكره الحلاج كرها شديدا هكذا انتهت حياة الحلاج (جسدا) لتولد الأسطورة الروحية بعده

آثار الحلاج
ترك الحلاج الكثير من الكتب والرسائل أهمها (ديوان شعر مشهور) وكتاب ذاع صيته هو (الطواسين) كتبه الحلاج أثناء فترة اعتقاله في سجن الخليفة المقتدر العباسي (والطواسين) مكتوب بلغة رمزية مشرقة وبنفس صوفي متفلسف ويعتبر بحق من الكتب الخطيرة التي تركها الحلاج شهيد العشق الإلهي.
أما ديوانه ففيه الكثير من الشعر الصوفي حول موضوعات تدور حول (الإلوهية) (والتوحيد) وحول العلاقة بين الإنسان والله وان هذه العلاقة الوجودية تتمحور حول (الحب) ولكن في ديوانه ايضا الكثير من الإشعار المثيرة ذات المعاني الرمزية المتناقضة مع ألمألوف الديني ومنها قوله:-
على دين الصليب يكون موتي ولا البطحا أريد ولا المدينة

وقوله:-
جحودي فيك تقديس وعقلي فيك تهويس
وما ادم ألاك ومن في البين إبليس.
مقولة المشهور:

مزجت روحك في روحي كما تمزج الخمرة في الماء الزلال
فإذا مسك شيء مسني فإذا أنت أنا في كل حال

وان كان الصوفية لهم مسلك خاص في الشعر والرؤيا وهم مغرمون بالرموز وبعكس المعاني وخرق البدا هات ولكن مع الحلاج يشعرون بالحرج من أقواله وتأويلاته الصادمة , فقد كان الحلاج يمزج بين (الإلهي والإنساني) (وبين التصوف والتفلسف) فيكشف عن روحية جديدة جاعلا من(التصوف) قوة اجتماعية وثورية تندفع نحو المطلق (واللغة الرمزية) هي الأداة المركزية لتأويلات الحلاج فالرمز (لغة الروح) (والعالم ينطق بواسطة الروح) وهذه الروح الحية التي تتقدم في الزمان لتكشف عن نفسها في كل حين وعندما نقرأ (طواسين الحلاج) نراه يقف على القضايا الدينية الكبرى مثل (الإيمان والكفر) (الله والشيطان) (الإرادة الالهيه والإرادة الإنسانية) ويقوم بزحزحتها عن مواقعيتها المألوفة في ظل ثنائياتها التراتبية الوجودية الصارمة ويقلب المعادلة ليصبح (الكفر , الله، الإنسان) في نهاية المطاف (اعترافا وإيمانا وتعاليا) فالوجود وحده كلية شاملة (والله) هو الموجود الحقيقي والكلي فلا شيء خارج عنه فهو (البداهة الأولى). ان وحدة الوجود الحلاجية وحدة شاملة بين كل الكائنات وكل شيء في النهاية يرتد إلى الله.
يقول الحلاج في طاسين (الأزل والالتباس)
(ماصحت الدعاوى لأحد الا ابليس واحمد(صلعم) غير ان إبليس سقط عن العين واحمد(صلعم) كشف له عن عين العين.
قيل لإبليس اسجد ولأحمد انظر هذا ماسجد واحمد مانظر ما التفت يمينا ولا شمالا إما(إبليس/فانه دعي لكنه مارجع إلى حوله (واحمد) (صلعم) ادعى ورجع عن حوله (بك أحول وبك أصول).
ويقول الحلاج عن إبليس ايضا(ولعن حين وصل إلى التفريد وطرد حين طلب المزيد) يغوص الحلاج هنا يبحث عن((الحقيقة الأزلية)فيكشف عن الإسرار فالدعوة وجهت لإبليس واحمد،إبليس (إمام الملائكة) واحمد (إمام البشر) غير ان إبليس ثبت على موقفه ومارجع فهو (موحد) لأنه يعلم ان السجود لايكون الالله وحين هدد بالعقاب الأبدي قال له:اولست تراني في تعذيبك إياي؟؟ قال بلى.قال فرؤيتك إياي تحملني على عدم رؤية العذاب،مضى إبليس في طريقه إلى النهاية تحقيقا لتوحيده الشخصي وإثباتا لذاته.
ويقول الحلاج في (طاسين الفهم) (ضوء المصباح علم الحقيقة وحرارته حرارة الحقيقة والوصول إليه حق الحقيقة ولما وصل الى حق الحقيقة ترك المراد واستسلم للجواد..) وفيه إشارة إلى المعراج النبوي ووقوف النبي إمام الحضرة الإلهية ورجوعه مرة أخرى إلى الدنيا. وبالطريقة التأويلية ذاتها يكرر الحلاج موقفه مع فرعون مدعي الالوهة يقول الحلاج في(طاسين الأزل والالتباس) تناظرت مع ابليس وفرعون. فقال إبليس ان سجدت سقط عني اسم الفتوة وقال فرعون ان أمنت برسوله سقطت من بساط الفتوة قال إبليس إنا خير منه حين لم ير غيره غيرا. وقال فرعون (ماعلمت لكم من اله غيري) حيث لم يعرف في قومه من يميز بين الحق والباطل وقلت أنا ان لم تعرفوه فاعرفوا أثاره وانا ذلك الأثر (وأنا الحق) لأني مازلت أبدا بالحق حقا.
يقرر الحلاج في سرديته الميتافيزيقية بأنه ماض في طريقه إلى نهايته بل يصرح بان (إبليس وفرعون) هما (صاحباه وأستاذاه) نموذج الفتوة المحتذى وانه سائر نحو هدفه حتى لو قتل وصلب بهذه المأساة التراجيدية وبهذا الموقف انتهت حياة هذا (القديس الشقي) مخضب بالدماء مقطوع الإطراف مصلوب أمام الأعين.

/الحلاج/الدرس والتأويل

صنع الحلاج لنفسه (الأسطورة) التي بقيت ممتدة تغري الباحثين عن الإسرار والحقائق محاولين الدخول في عوالمه وتفسير محتواه (الصوفي الفلسفي) الذي يمتاز بالخصوبة والتفرد والغرابة وستكون لنا هذه الوقفة مع أهم الذين درسوا الحلاج وحللوا شخصيته وقدموا تأويلاتهم لمنحاه الصوفي والروحي.

1-المستشرق الفرنسي(لويس ماسينون)(1883-1962م) مستشرق حاز على شهرة كبيرة أعجب بعوالم (الشرق الروحية) واهتم بالحلاج اهتماما قضى معه سنوات طويلة باحثا ومنقبا عن كل مايتعلق بحياة الحلاج عمل ماسينون مساعدا للضابط السياسي الملحق ببعثة جورج بيكو المفوض السامي الفرنسي في الأراضي المحتلة في فلسطين وسورية وكان عمره انذاك (35 سنة).
أحب الشرق وجذبه سحره الخاص.وروحانيته والظاهر من سيرته الشخصية انه مر بأزمة روحية واهتدى أخيرا إلى البلسم وكان البلسم في (العراق) وهو شخصية الحلاج المتصوف والذي كتب عنه رسالته للدكتوراه (آلام الحلاج) عام 1914 ولكنها لم تر النور إلا عام 1922 م وأفنى ماسينون (خمسين عاما) قضاها مع كل مايتعلق بالحلاج وتاريخه وأفكاره ومسلكه الصوفي فقد سماه (الشهيد الروحي للإسلام) بل انه (صديق الله)المضحي بنفسه وبذاته خليل الله كما هو إبراهيم. وهو العاشق الكامل الذي يكشف عن روعة هذا (المبشر الجوال) وقتل هذا الصوفي ضحية لمؤامرة سياسية ونظرا لان ماسينون (كاثوليكي يساري) فقد اظهر ميلا مناهضا للاستعمار وذهب فكره باتجاه مايسميه مكسيم رود نسون(الكونية الكلية) فبدا مشبعا بروح صوفية للتاريخ ويعكس عطشا للفقراء والمهانين بروح (مسيحية) وكان يبحث (عن رجال حلفاء محتملين صادقي النيه) يمتلكون قيما روحية تقترب من مسيحيته ورمزها السيد المسيح وهذه الملاحظة التي أبداها(رود نسون) في تعليله لموقف ماسينون وتعلقه بالحلاج وبالنزعة الصوفية الكونية نراها مقاربة تحتوي على الشيء الكثير من الصحة.
فقد شهدنا يساريا عريقا هو المرحوم هادي العلوي () يتجه في فلسفته نحو الصوفية الصينية (فلسفة التاوية) ويعلن تعلقه الروحي بالتاويه ورؤيتها حول الإنسان و الوجود ويقوم بترجمة كتاب (التاو) إلى العربية كذلك نرى بعض الكتاب والباحثين اليساريين ينحازون إلى الحركات الثورية في العصر العباسي كالإسماعيلية القرمطية والبابكية وثورة الزنج ويعدونها حركات اشتراكية أو شيوعية استهدفت تحقيق العدالة والثورة الاجتماعية ضد ظلم وطغيان مؤسسة الخلافة العباسية ونعتقد ان هذه المنهجية تولدت بتأثير الفكر الماركسي والمؤرخين الروس.
يحاول ماسينون ان يفهم صيرورة الدين الاسلامي بالرجوع إلى الذكرى الأولى والمنابع الرمزية مستخدما تأويله الرمزي الباطني للحالة التي عاشها الدين الاسلامي مبتدأ بإسماعيل (عليه السلام) وهاجر وعملية (النفي) والهجرة التي تعني عنده (الاستثناء من الوعد الإلهي لإسحاق) فتتحول هذه الهجرة , وهذا النفي إلى خاصية تميز هذه الديانة بأنها (ديانة شعب مستثنى من الوعد الإلهي..) فالإسلام دين مقاومة (للرب / الأب) و(للمسيح / التجسد) يحتفظ في داخله بالأسى والحزن الذي يبدو أولا في دموع هاجر ولذلك أصبحت اللغة العربية(لغة الدموع) كما ان مفهوم الجهاد الاسلامي يمثل بعدا فكريا مزدوجا طرفاه هما الحرب المقدسة ضد المسيحية واليهودية بوصفها العدو الخارجي وضد الهرطقة بوصفها العدو الداخلي وان الإسلام يشكو من عقدة عدم اكتماله الروحي ويعاني شيئا من الجفاف وانه مادي أكثر من منه روحاني ولذلك يأتي دور (الحلاج) لإحداث التوافق والاكتمال الروحي وإنقاذه من (العدم الميتافيزيقي) وهذا لا يتم الا بفهم التضحية وتحمل الآلام (والحلاج) عند ماسينون(متصوف سني) ولكن جماعته ألسنيه تعيش أزمة دينية عميقة فالله يقدم نفسه للإنسان نمطا من (الغياب ورفضا للحضور) وان قلب الإنسان الصوفي يحس بهذا التجاوز الفائق للالوهة ولا يستطيع تحمل الشرك فتكون هذه الأفكار والإيحاءات مصدرها قلوب العارفين المملؤة بالإسرار الالهيه. وما سينون هنا يقرأ الإسلام بعيون مسيحية انه يريد ان يعثر على بؤرة من الضوء يتواجد فيها السيد المسيح فكان الحلاج هو الغاية المبتغاة وهو المثل الحقيقي للمسيحية داخل الإسلام فبذلك هام به ماسينون واعتبره أنسانا مؤمنا ومتصوفا نقي القلب وهنا تأتي الإشكالية في قراءة ماسينون للإسلام فقد تقرب ماسينون من الإسلام لكنه ركز على مفاهيم (التضحية والشهادة) وفكرة (الحلول والإبدال) وهذه تمثل جذور مسيحية رأى فيها ماسينون الإسلام انه بتعبير (ادوارد سعيد) لا يرى في (الأخر إلا الأنا).

2- ماكس هرتون / مستشرق ألماني له اهتمام بقضايا علم الكلام الاسلامي واهتم كذلك بالتصوف الاسلامي وترتكز أفكار هرتون حول التصوف الاسلامي على فكرة الأثر الأجنبي في نشأة التصوف فهو يرى ان التصوف الاسلامي أساسه من (الهند) وان مرجعياته الفكرية هي من (البراهما الهندية) وبالخصوص من مذهب الفيدانتا الهندي الذي تعتبر فيه فكرة (وحدة الوجود) و (القول بالتناسخ) من أهم العقائد في الديانة الهندوكية وهذا الرأي حول المرجعية الهندية للتصوف الاسلامي قال به مستشرقون آخرون منهم (نيكلسون في كتابه الصوفية والإسلام) و (وجولتسهر في العقيدة والشريعة) و (اوليري في الفكر العربي ومركزه في التاريخ) ورد ماكس هرتون على ماسينون حول (سنية) تصوف الحلاج ومسيحية بعض جوانبه بأنها أطروحة متناقضة فلا يمكن الجمع بين (الطابع السني والروحية المسيحية والميل للغنوص والعرفان) للتعارض الشديد بين هذه التأويلات وعدم اتساقها. إما الباحث العراقي (قاسم محمد عباس) والذي قام بنشر الإعمال الكاملة للحلاج فيعترض على كلا الأطروحتين (ماسينون + هرتون) ويقول بان كلا الأطروحتين تؤديان إلى النتائج ذاتها وهي تخليص المسلمين من (العدم الميتافيزيقي) عند ماسينون وتخليصهم من (البداوة والغفلة) عند هرتون وان كلاهما ينظران إلى الإسلام بعين الريبة وانه ينتظر (الاكتمال) الروحي. ويقدم تصوره حول تصوف الحلاج (بأنه تناوب لفاعلية المصادر والمرجعيات في الحلاج من المسيحية إلى الهندية ثم المصدر اليوناني الهيليني). أي تعددية الرؤية الصوفية عند الحلاج بتعددية المرجعيات الفكرية عنده.

3- أطروحة الباحث السوري محي الدين اللاذقاني.
يأخذ محي الدين اللاذقاني على ماسينون دراسته للحلاج دراسة (نخبوية) ويقول انه تعامل معه على أساس (روحي) بحت وأهمل دوره السياسي والأجدى كما يقول اللاذقاني ان يدرس الحلاج ضمن إطار (الحركة القرمطية) ويقول ان هناك ألكثير من المشتركات بين القرامطة والمتصوفة التي جمعتهم في ذلك العصر لأجل إحداث التغير السياسي والاجتماعي والاقتصادي منها (التشيع والغلو والتمرد) وان الحلاج واحد من قيادات القرامطة لأنه وبحسب ابن النديم فانه كان يظهر (مذهب الشيعة للملوك ومذهب الصوفية للعامة) وهو يقدم راية هذا بناء على نصوص وردت في بعض الكتب التاريخية حول علاقة الحلاج بالأوساط القرمطية مثل عقود الجمان للعيني والمنتظم لابن الجوزي والبداية والنهاية لابن كثير والنجوم الزاهرة لابن تغري وصلة تاريخ الطبري لعريب بن سعد وبعد حكمه على الحلاج (بالقرمطية) وإنها أصبحت قضية مسلم بها كما يقول انتقل إلى الخطوة الأخرى وهي تحديد دوره السياسي ومنزلته في الحركة القرمطية ومع غياب (النص الحاسم) الذي يحدد دور الحلاج وموقعه فانه يقدم افتراضا لا يخلو من الإثارة وهو ان (الحسين الحلاج) الصوفي ليس إلا (الحسين الاهوازي) الداعية القرمطي الأول الذي ألب الناس في سواد الكوفة ثم هرب واختفى نهائيا من بطون كتب التاريخ وانقطعت إخباره والحسين الاهوازي داعية قرمطي مشهور وهو الذي جند (حمدان قرمط)لنشر الدعوة في سواد الكوفة لكن إخباره ضاعت واختفى أثره وبقي لغزا في التاريخ ومالت إلى هذا الافتراض ايضا الدكتورة (مي محمد الخليفة)في دراستها (من سواد الكوفة إلى البحرين) وقالت رغم إننا لانستطيع الجزم بذلك إلا ان المنطق التاريخي وبعض الدلائل تؤيد ذلك الافتراض.
تأثيرات حلاجيه
امتد اثر الحلاج في التصوف والعرفان لكن اللافت للنظر ان تأثيره وصل إلى الرسم والتشكيل فهناك لوحات فنية قديمة رسمها فنانون إيرانيون وأتراك تصور عملية صلب الحلاج في لوحات فنية رائعة احتفظت بها المكتبات العالمية وجمع الباحث العراقي قاسم محمد عباس في نشره للإعمال الكاملة للحلاج بعضا من هذه اللوحات.
ان هذه اللوحات المعروفة باسم (المنمنمات) تصور الحلاج وصلبه لتحتفظ بذكراه الأليمة.
وتذكر المستشرقة الألمانية (آن ماري شيميل)ان قصة (الفراشة والقنديل التي وردت في كتاب(الطواسين)قد انتقلت إلى الشعر الفارسي على يد حافظ الشيرازي وانتشرت في ألمانيا عن طريق ترجمة الشاعر الكبير غوتيه وتركت أثارها الفنية وخاصة في مجموعته الموسومة ديوان (الغرب والشرق) ونحن نختم هذه السطور بقصة(الفراشة والقنديل)في (طاسين الفهم)
يقول الحلاج(الفراش يطير حول المصباح إلى الصباح ويعود إلى الإشكال فيخبرهم عن الحال بألطف مقال ثم يمرح بالدلال طمعا في الوصول إلى الكمال) بذا إذن يكون (المتصوف العارف) كالفراشة تقترب أولا من القنديل فترى نوره أولا ثم تشعر يدفئه وأخيرا تقذف بنفسها في لهيبه لأنها لانريد ان تكتفي بمجرد النظر والإحساس بل تريد ان تكون الشعلة ذاتها للوصول إلى حياة جديدة فتكون النتيجة أنها تحرق نفسها بشعلة القنديل.