الإهداء بوصفه نصاً أدباء بابل أنموذجاً

الإهداء بوصفه نصاً أدباء بابل أنموذجاً

صبري الحيدري
اهتم النقد بقراءة (العنوان) في الرواية و القصة القصيرة , و هناك اهتمام مبكر بوصف العنوان العتبة الأولى , و المعبر الحقيقي لمعنى كل نص وما ينطوي عليه من دلالات – و لحد علمي – أهمل النقد قراءة الإهداء وهو عتبة ثانية تأتي بعد العنوان.ثمة إهداء مباشر لا يدعو الى التأمل ولا يستوقف القارئ ,

يثبته منتج النص كمحبة او عرفانٍ او توثيق لاسم المهدى له كي لا ينساه في زحمة الأيام! وهناك بالمقابل إهداء آخر يصاغ بعناية , يصدم القارئ و يشحذ طاقته الى التأويل , و يقيم علاقة مع النص في كشفه عن الدلالات المضمرة و المسكوت عنها في ثنايا النص , و لربما هناك اهداء يساعد القارئ على فهم الشفرات المراد ايصالها الى ذهنه بيسر و بلا عناء
فالشاعر عباس مزهر السلامي , في صوغه للإهداء , يعتمد على موجهات الذات /ذاته , بوصفها البؤرة التي ينطلق منها نصه , فهو يدون الاهداء لنفسه كالاتي) إلي. / محمولاً على جثتي(* وهو بلا شك اهداء مثير في استهدافه الموجع للبقاء ضمن اطار الحياة , علماً ان استراتيجية هذا الاهداء , ستوحد جميع افكار و رؤى السلامي على اغلب متن نصوصه الشعرية , هذا الاهداء الذي اخترناه يرشح لمركبين , الاول. (إليّ.) وهو ملفوظ خطابي لكينونة الذات حيث يتم تراجعها = الذات لمفلوظ ثان.(جثتيّ). و التي اصبحت لا علاقة لها بالذات , لكونها تسرب دلالة الأمحاء / الموت , من بداية الاتصال و التواصل.(إليّ.) الى ان يكتمل الانفصال وفق نسق العنف السادمازوخي.(محمولاً.) كجثة وهي نهاية الذات. في اهداء اخر للسلامي يشوش القارئ بنحته اهداء يتكون من الى / الى /مرتين ثم لى / انا , إلا انه سرعان ما ينظم فوضاه هذه بالدلالات و يحكمها في نسيج مركزي موحد , يحيل الى الغربة و الاغتراب , لينال الشاعر النصيب الاوفر منهما (الى الغرباء الذين عرفتهم / الى الغرباء الذين لم اعرفهم بعد / ولى انا فيهم (* بأكتمال قراءة هذا الاهداء , تم رفع الالتباس / التشويش , كذلك توضح لنا مغزى الاهداء في عموميته و تشابك علاقاته القائمة على (ألهُم) = الذين عرفتهم / لم اعرفهم بعد , و على ال (انا)الذات = /لي/انا. يكتب الشاعر شكر الصالحي الاهداء الأتي (مرة اخرى / الى ابي و امي / شكراً لكما على هذا العناء اللذيذ (* ينهض الاهداء هذا على بُنى علائقية تتصل بالأسرة , و تكرس تراتب الفوارق الاجتماعية (الاب / الرجل اولاً)و هي فوارق مقبولة , لكنه يؤكد على المساواة في تقديم الشكر لكل من الاب و الأم (شكراً لكما) اما الصالحي القائم بالاهداء , فيبدو ان واجبه الأجهار بالطاعة حتى لو سببت العناء له, فهو يقدم آيات الشكر كفرض اجتماعي دائما او (مرة اخرى) بحسب منطوق الاهداء , عموماً يحملُ هذا الاهداء في سياقه اشارة ايروسية مسكوت عنها! كونها مفعمة (بالعناء اللذيذ(ولم يصرح عنها الصالحي لربما بسبب الوازع العقلي والاخلاقي!. مثل هذا الوازع لا نرى له صدى عند الشاعر رشيد هارون الذي يكتب (الى امي وابي / لو تجاهلتما تلك الليلة / و كفيتماني شر النباح /و الى زوجتي و لي /لأننا لم نتعظ (* هنا القائم بالأهداء يمثل وظيفة القاضي الذي يبسط ظله /عتابه على المحكومين (الام /الاب)لأنه في (تلك الليلة(تكوّن هو ثمرة أدمية لشبقهما الأيروسي , ثم لينسحب في الحاضر (هو و زوجته)لأنتاج ثمرات ادمية اخرى – ان جاز التعبير- تعيش او هي عاشت معذبة نتيجة لنباح لم يتعظا لكبحه او لجمه , و العجيب ان الاهداء يُحملّ مسؤولية ما حدث سابقا ثم لاحقا الى المرأة اولاً ثم الرجل (الى (امي) و ابي / الى (زوجتي) ولي) وذلك تماشياً مع خيانة حواء اولاً لزوجها ادم في اكلها من شجرة التفاح! ناسياً طاعة المرأة للرجل التي اقرها الشرع و قانون السيادة على الجسد الأخر! و في قليل من الكلمات , يعيد الروائي فلاح رحيم حيوات اختفت بموتها ولم يعد لها وجود في الزمكان (الى الصديق كامل شياع/ الذي عاد من المنفى لأنه قرر ان لا يموت)* هذا يعني انه يود الاحتفاظ بشخص الصديق شياع – الذي استشهد كما هو معروف على يد الارهاب على طريق محمد القاسم – واخراجه من سطوة الموت , ثم استرجاعه على صعيد الواقع الحياتي , ومنحه صفة البقاء (قرر ان لا يموت) بصيغة الفعلين الماضي و المستقبل المضارع و بهذا الاهداء حقق فلاح رحيم تجليه في انتشال اسم صديقه من لجة النسيان الى الحضور حين (قرر) مروراً بالبقاء حياً عبر كلمات الاهداء. الشاعر صادق الطريحي يكن الولاء لشهداء مدينته بابل و العراق عموماً , وما ينتجه من اهداء يُعّمد عبر لغته الصوفية المكتنزة بالقداسة و الطهر , وقد صارا حجر الزاوية لمجمل اهداءاته , التي يشكلها في فضاء سماوي متعالٍ يرتبط بالدين و الغيب و السحر و الذات الالهية العليا, مع اختيار دقيق للشخوص و الرموز الثانوية في التاريخ و التراث (الى / شهداء مجزرة ابن نما) (الى النفري ملهم هذا النص) (الى منشئ مدينة الاسلاف)* و يضعنا الشاعر مازن المعموري وسط التساؤلات وهو يشكل اهداءه كمن يطلق رصاصة الرحمة على نفسه (الى الوقت الذي سلب طائري / و منحني العزلة) * الى اي عزلة يمضي المعموري؟ هل غادر اطمئنانه و سط لهاث العمر الذي يتصرم؟ احقاً يقوم المعموري بردم عنصر الحركة / طائري بأتجاه العزلة الممنوحة له ليكف عن الحركة / الطيران؟!! هل هرم الشاعر فيه؟! وهل من المعقول ان نهدي (نصنا) للوقت وقد سلب طائرنا المغرد حتى لو كان مجازاً؟! و المهم هل بوسعنا ان نجرد الاهداء من فيض الحنين الى العمر الاول , عمر عوالم الدهشة و الانبهار الخاصة بالطفولة في انفلاتها و جموحها وعدم احساسها بالهموم؟ كونها عوالم الدعة و البال الخلي؟ كل هذه الاسئلة تشكل البناء العام لهذا الاهداء , يتوفر اهداء القاص عباس الحداد على طاقة هائلة من التفاؤل و المحبة و الامان الانساني للأتي من الايام (الى القادم من الايام / حتماً سيكون اكثر اماناً و محبة)* الاهداء في مجمله يتوقع و يراهن و يستشرف المستقبل القادم و في طياته الأمان و المحبة لما لهما من فرادة و دلالة رمزية و جمالية , فلا وجود لأي توقع او مراهنة او استشراف خارج مديات المستقبل , كلنا في امس الحاجة لهذا الاهداء الذي يستدعي في بنيته العميقة رؤيا جديدة مغايرة للسابق الشديد الظلم علينا , وللقادم المليء بالمحبة و الامان , الذي نتمنى تحقيقه (حتماً سيكون)مع قادم الأيام.) كتب الشاعر عبد الأمير خليل مراد الى حاتم الصكر في محنته / اما زال في عيوننا بقية من الدموع) * الاهداء بسيط , ولا يتواشج مع اهداء الحداد اعلاه , ولا يغادر تلك الصورة النمطية الانطباعية الصميمية في المواساة , ولكن من يعرف الصكر ومدى محنته القاسية في اختطاف ابنه على يد الارهاب , حتى يرتقي الاهداء من مجرد مواساة الى انحياز تام للصكر و الوقوف الى جانبه في محنته العميقة , وهي محنه كونتها ادوات القسوة و العنف و القتل , محنة تعودناها بحيث انها الغت , او الصحيح حجرت(من عيوننا بقية من الدموع(بحسب الملفوظ الاشاري المهم في الاهداء اما القاص فاضل عبد الله القيسي , يبدو صادقاً كل الصدق مع رسم صورة الاهداء الذي نسجه , فبدلاً من الزوجة – كما هو متعارف عليه – تحضر لديه ممكنات اخرى هي الأم التي تخلخل السائد في رفضها لشراء الكتب (الى امي/ التي كانت اشد ما يحزنها شرائي كتاب) * يفصح الاهداء على اولاً: تضاد دلالي بين العلم / الأبن و الجهل / الأم 0 ثانياً خرق المألوف في انزياح للزوجة و احلال الأم كطرف نزاع مسلوب من القوة / السيطرة فهي لا تستطيع كبح رغبة ابنها في الشراء , كذلك هي / الام , تعمم على فكرة نقصان العقل (المعرفة) كما هو السائد في المخيال الجمعي و التأريخي , لكن الاهداء يشير الى اكثر مما ذكرناه , فلو اعدنا تشكيل مفرداته خاصة عنصري (شرائي / يحزنها) وما احدثا من الشدة (أشد) عند الأم لبرزت هنا وظيفة الفقر و الحاجة , لما هو اجدى و انفع من شراء كتاب نسد به انين المعدة الخاوية! ولو رفعنا هذه الوظيفة (الفقر + الحاجة) ففي اقل تقدير هو ضيق المكان الذي لا يستوعب شراء الكتب و خزنها! ولو بسطنّا الأمر – وهو ايضاً معقول – لبرز خوف الأم ان يصاب ابنها بامراض العين! لذا فحزن الأم مبرر في رصها العداء لشراء الكتب , مما يمنع الأبن من متعة معرفية و عقلية و حسية ايضاً توفرها الكتب.

الاحالات
* غواية الصلصال / عباس مزهر السلامي / سوريا / دار رند /2011 /ص 4
* هذيانات عاقلة / عباس مزهر السلامي/ سوريا /دار تموز / 2011 / ص5
* ساراها انثى / شكر الصالحي/سوريا /دار تموز /2011 /ص5
* المسير بهذا الاتجاه/ رشيد هارون /بابل /دار الارقم / 2008 /ص6
* القنافذ في يوم ساخن/فلاح رحيم/بيروت/دار الكتاب الجديد المتحدة/ 2012/ص5
* للوقت نص يحميه/ صادق الطريحي/ المركز الثقافي العربي السويسري/2009/ص5/33/55
* كتاب الموتى/ مازن المعموري/ كتاب مطبوع بطريقة الاستنساخ وبلا تاريخ طبع
* ريم وعيون الاخرين / عباس الحداد / سوريا / دار تموز / 2011 / ص7
* الضحك من الايام الاتية / عبد الامير خليل مراد / بابل / دار الفرات / 2009 / ص66
* خريف الجعلان / فاضل عبد الله القيسي / القاهرة / دار الحضارة / 2010/ ص3