عبد الكريم قاسم وعلاقته بالخطاط هاشم البغدادي

عبد الكريم قاسم وعلاقته بالخطاط هاشم البغدادي

محمود موسى
الراحل الكبير هاشم محمد الخطاط علم من اعلام العراق والعرب.. وفنان قلما يجود الدهر بمثله وهو معجزة الخط العربي وقد قال الخطاط الشهير حامد الآمدي: (ولد الخط العربي في بغداد ومات في بغداد) وهذه الجملة قالها بعد وفاة هاشم الخطاط وكان يقصد بالولادة الخطاط البغدادي ابن البواب، وموت الخط يقصد وفاة هاشم الخطاط.وهنا نحاول ان نسلط الضوء على بعض الجوانب الخفية من حياته الثرة والمثيرة ومعظم هذه المعلومات تنشر لاول مرة بعد سقوط النظام الذي اضطهد هذا الفنان الكبير في حياته وحتى بعد مماته.

ويبدو ان عقدة الحقد على هذا الفنان الخالد سببها العلاقة الاجتماعية الوطيدة التي ربطت عائلة هاشم محمد الخطاط بعائلة الزعيم عبد الكريم قاسم، فقد كانت والدة الزعيم عبد الكريم قاسم السيدة (كيفية حسن اليعقوبي) ترتبط بعلاقة صداقة حميمة مع السيدة والدة هاشم الخطاط، وعندما بزغ النجمان في سماء العراق عبد الكريم قاسم وهاشم محمد الخطاط كانت صداقتهما امتدادا طبيعيا لنقاء العلاقة الإنسانية التي ربطت عائليتهما وكانت سيارة الـ(واز) العسكرية الصغيرة تأتي بشكل شبه يومي الى دار هاشم الخطاط لتصطحبه الى مقر الزعيم في وزارة الدفاع ليتناول غداءه او عشاءه بصحبة الزعيم.
وكان الراحل هاشم الخطاط غالبا ما يسخر من تلك الآراء المريضة التي تصف الزعيم بالدكتاتورية فقد كان هاشم شاهدا حقيقيا على بساطة هذا الرجل.. وكان يقول لهم كنت أراه بعيني كيف يعيش وماذا يأكل ولم يكن هاشم محمد الخطاط محط إعجاب ومحبة الزعيم عبد الكريم قاسم بحكم العلاقة الاجتماعية، فقد كان الملك فيصل الثاني يكن له كل الإعجاب والتقدير وكان يحرص على افتتاح معارضه بنفسه برعايته الملكية المهيبة.
اما بعد ثورة 14 تموز 1958 فقد كان هاشم الخطاط من اقرب المقربين للزعيم وكان الزعيم اقرب انسان الى روح وعقل هاشم الخطاط وهذا ما رسخ بعض الاعتقادات لدى الناس واتهام هاشم الخطاط بانتمائه الى هذا الحزب او ذاك رغم ان السياسة لم تكن تعني شيئا له فقد كان جل اهتمامه هو فنه فقط.
وقد حرص الزعيم عبد الكريم قاسم على افتتاح معارض هاشم الخطاط بنفسه حيث اوصاه وصيته المهمة، قائلا له:ـ(يا هاشم تقع على عاتقك مهمة كبيرة وهي اني اوصيك بكتابة وخط القرآن الكريم) وفعلا بدأ هاشم الخطاط بهذا المشروع الكبير، واستمر يعمل به ليل نهار لمدة خمس سنوات حتى جاء ذلك الصباح الاسود من تاريخ العراق عندما كانت الطائرات تدك عرين الزعيم عبد الكريم قاسم في مبنى وزارة الدفاع في الثامن من شباط 1963 وكانت دار هاشم الخطاط لا تبعد مسافة بعيدة عن بناية وزارة الدفاع حيث تقع داره في الوزيرية وكانت السيدة والدة هاشم الخطاط تندب باكية، ناحبة وهي تقول وبالحرف الواحد: ـ (اويلي عليك ابن كيفية.. كلهم عليك!!).
كان انقلاب شباط يوما كارثيا في حياة الفنان هاشم حينها لم يستطع ان يكمل خط المصحف الشريف، فقد كان يقول ليس هنالك غير عبد الكريم قاسم من يستحق هذه الهدية، وفاء منه للزعيم ولوصيته اخذ ما انجزه من المصحف الشريف ورماه في نهر دجلة في المكان نفسه الذي اشيع ان جثة الزعيم قد رميت فيه بعد اعدامه.
كان المرحوم هاشم الخطاط هو الذي يكتب معظم (البراءات) المرافقة للاوسمة التي يمنحها الزعيم عبد الكريم قاسم وقد خط معظم مقولات الزعيم الشهيرة وفي مؤلفه المعروف (قواعد الخط العربي) قام بتضمينه اسم كريم وزعيم في تمارين الخط تخليدا لذكرى الزعيم وبقيت هاتان الكلمتان في هذا الكتاب حتى في الطبعات اللاحقة بعد رحيل الزعيم ومجيء الانقلابيون للسلطة.
حدثنا الاستاذ راقم هاشم الخطاط النجل الاكبر للراحل وهو يستذكر ذلك اليوم من حياته قائلا: في احد الايام من عام 1969 جاء الوالد الى البيت كغير عادته مهموما وحزينا بشكل واضح، وعندما استفسرنا منه عن حالته اجاب بألم: لقد طلبوا مني ان اكون خطاط القصر الجمهوري، لذلك سأسافر الى المانيا تحاشيا لهذا الامر، وفعلا شد الرحال الى المانيا لمدة ثلاث سنوات، وفي المانيا منح لقب (بروفيسور) وقد طلبت منه الحكومة الالمانية العمل في متحف (هامبورغ) و(برلين) ولكنه رفض ذلك وفضل العودة الى بلده والتدريس في معهد الفنون الجميلة ببغداد.
ومن الصفحات المشرقة في حياته، ان بابا الفاتيكان استقبله ومنحه (وسام البابا) تقديرا له على انجازه خط القرآن الكريم حيث اهدى هاشم الخطاط نسخة من القرآن الكريم الى البابا.
وكان بيت المرحوم هاشم الخطاط اشبه بمزار لشخصيات العراق المهمة من ادباء وشعراء وموسيقيين ورجال دين وسياسة ومن امثلة هذه الشخصيات جواد سليم وفائق حسن وخالد الجادر والجواهري واحمد سومة والدكتور علي الوردي.
وقد زار بيت الراحل اشهر خطاطي العالم من تركيا وباكستان وافغانستان وسوريا والاردن ومصر ومعظم بلدان المغرب العربي ودول الخليج العربي، وقد تلقى الراحل رسائل عديدة من بعض الدول العربية وتمت مفاتحته لغرض فتح متاحف خاصة باعماله في مصر والكويت ولكنه رفض مفضلا العمل في بلده.
ومن مظاهر الظلم التي عاناها الراحل في حياته هي منع الكراريس التعليمية التي قام بتأليفها وخطها حيث تم استبدالها باخرى هزيلة ومن المعلوم ان تلك الكراريس باجزائها الاربعة والتي كانت تدرس في المدارس العراقية عبر مختلف مراحلها حيث قدم اول مجموعة خطية الى وزارة المعارف سنة 1946 لتعتمدها الوزارة كراسة يتدرب عليها الطلبة وهي كراريس تختلف من حيث الاداء والتركيب بالنسبة للصفوف الابتدائية وقد ساهمت في تقويم كتابات الطلبة وقد ظلت هذه الكراريس معتمدة فترة طويلة، ويعتبر اصدار هذه المجموعة حدثا تاريخيا كبيرا في مجال الخط العربي لان العارفين بهذا الفن يؤكدون انها من ارقى مجاميع الخط العربي التي ظهرت في العراق ومصر والشام وتركيا وايران.
وعندما اشرف على طبع القرآن الكريم حيث قام بترميم الآيات وكتابته لعناوين سوره وقد طبع هذا المصحف لاول مرة في مطبعة المساحة العامة ببغداد سنة 1951، عندما كان المرحوم هاشم يعمل بها، ثم اشرف على طبعه في المانيا مرة ثانية وفي عام 1972 انهى طبعته الثالثة بإشرافه ولابد من الاشارة الى ان بعض سور المصحف وما طمس منها او تلف او ازيل اثناء التصوير قد اكمله المرحوم هاشم، وعندما اشرف على طبع هذا القرآن في المانيا، وضع اسمه في الصفحة الاخيرة من المصحف الكريم، ولكن في الطبعات اللاحقة امرت الجهات المسؤولة في السلطة برفع اسم هاشم محمد الخطاط من المصحف رغم جهوده ودوره الكبير واشرافه مباشرة على طبعه.
وقد كانت امنية المرحوم هاشم الخطاط ان يكتب مصحفا خالدا يحفظ ذكره، ويبقي اثره حيث تقدم بطلب التفرغ الى وزير التربية آنذاك الدكتور احمد عبد الستار الجواري، والحقيقة ان الدكتور الجواري قد وافق مبدئيا على رغبة المرحوم هاشم الخطاط ولكن مماطلة المسؤولين حالت دون ذلك وكان الراحل بانتظار عدة العمل مثل الورق الخاص بذلك والاحبار الخاصة ولكن هذه العدة وصلت متأخرة جدا وبشكل مؤلم وغريب حيث وصلت قبل يوم واحد من وفاته!!.
في العام 1978 اي بعد وفاته بخمسة اعوام جاءت لجنة من وزارة الثقافة والاعلام وقامت بجرد كل محتويات المكتبة الشخصية للراحل، وصادرت ما لا يقل عن خمسة الاف مخطوطة اصلية تعود له ولأشهر خطاطي العالم، وهذه اهم واغلى مجموعة خطية في العالم ولا يمكن ان تقدر بثمن. ولاعطاء عملية المصادرة هذه او بالاحرى السطو صبغة او غطاء قانونيا قامت وزارة الثقافة والاعلام بدفع مبلغ عشرة الاف دينار عراقي كتعويض او ثمن لهذه الثروة الهائلة، وهذا المبلغ الضئيل قد صرفته العائلة كمصروف بيتي خلال شهر واحد فقط.
يحدثنا الاستاذ راقم هاشم الخطاط النجل الاكبر للراحل ان والده سئل ذات يوم:
ماذا تركت لابنائك؟ فاجابهم بزهو: لقد تركت لهم ثروة تغنيهم وتكفيهم لعشرين جيل من بعدي ولكن كل هذه الثروة قد صودرت مقابل عشرة الاف دينار فقط.