العفيف دائما أخضر

العفيف دائما أخضر

د عصام عبدالله
رحيل المفكر الاستثنائي "العفيف الأخضر" في هذا المنعطف الخطير من تاريخ شمال أفريقيا والشرق الأوسط، خسارة لا تعوض للاستنارة والدعوة الى التحرر على كل المستويات وفي كل المجالات. عرفت "العفيف" – بعد قراءة معظم ما كتب – من التوانسة أنفسهم الذين رأوا فيه "أيقونة" التنوير والثورة المتجددة في تونس الخضراء، والامتداد الطبيعي لخير الدين والطاهر الحداد والطاهر بن عاشور وغيرهم.

في العيد الخمسين ( 2006 ) لصدور مجلة الأحوال الشخصية في 13 أغسطس عام 1956، شاركت في مؤتمر دولي في "قرطاج" تحت رعاية جامعة الدول العربية، وكان الإسم الأشهر الذي يتردد في معظم الكلمات والأبحاث هو "العفيف الأخضر"، فقد كان أول من ربط بين "الحداثة" و"المرأة" أو بالأحرى (تحرير المرأة)، خاصة وأن مجلة الأحوال الشخصية صدرت بعد أقل من خمسة شهور على إعلان الإستقلال في 20 مارس/ آذار عام 1956. مما دفعه الى التأكيد على أن الحداثة هي في الأساس (إرادة سياسية)، وان ميلادها يقترن دوما بتحديث شرط المرأة .
ألغي قانون الأحوال الشخصية تعدد الزوجات والطلاق الأحادي الذي غدا حقاً للزوجين يفصل فيه القضاء، ورد للمرأة ، لأول مرة في تاريخ الفقه الإسلامي، أهليتها المدنية فأصبحت قادرة على اختيار شريك حياتها. كما أعطاها حق التصرف في جسدها بالتحكم في الإنجاب عبر الحق في الإجهاض وفي تحديد النسل.
وهكذا مثلت قوانين الأحوال الشخصية نقطة حاسمة في تطور حقوق المرأة، منذ خير الدين، والطاهر الحداد،مؤلف "امرأتنا في الشريعة والمجتمع"، الطاهر بن عاشور،مؤلف تفسير"التحرير والتنوير" وابنه محمد الفاضل بن عاشور، "مؤلف" مجلة الأحوال الشخصية، وانتهاء بالعفيف الأخضر، الذين واجهوا في شجاعة نادرة الهجمة الظلامية الشرسة ضد قيم التنوير والتحديث والتقدم .
فقد تعرض الطاهر الحداد (1899 – 1935) على سبيل المثال، للأتهام بالتكفير بعد صدور كتابه "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" عام (1929) ؛ فهاجت أقلام المحرضين ضده وسبوه ولعنوه من فوق منابر المساجد، وألفوا الكتب في سبه وشتمه، لعل أشهرها كتاب "الحِدَاد على امرأة الحَدَّاد"، وهو عنوان كاف للدلالة على غرض السب والإهانة. وقد أثر هذا كله في حالته المعنوية والنفسية فمات كمدا وهو في عز الشباب. بيد أن أفكار "الحداد"، التي ناله بسببها ما ناله، كانت هي الأفكار الملهمة لمجلة الأحوال الشخصية فحققت للمرأة التونسية مكاسب غير مسبوقة .
الأطروحة المركزية للحداثة التونسية، كما شخصها بدقة "العفيف الأخضر"، هي القبول بمبدأ الواقع، أي التجاوب مع متطلبات الحداثة بتناغم مع الإسلام التونسي التنويري القائم على اجتهاد بدون ضفاف،عملاً بقول الشاطبي "حيث المصلحة فثم شرع الله". وهكذا ففي 1993 صدر قانون فريد في العالم العربي ألغى ركيزة المجتمع البطريركي: سيطرة الرجل المطلقة على المرأة. لم يعد الرجل هو رئيس العائلة وليس للمرأة والأبناء إلا السمع والطاعة. بل بات الزوجان كلاهما يديران العائلة بشراكة متساوية"في نطاق الاحترام المتبادل".
"حقوق المرأة" في تونس – قبل يناير/ كانون الثاني 2011 – كانت جزءا لا يتجزأ من حقوق الإنسان. ومن ثم كان التشريع رافعة أساسية لتحديث شرط المرأة. ومثلت المرأة في تونس - قبل حكم الإسلاميين - ثلث القوة العاملة. وهي نسبة لا وجود لها إلا في بلدان الاتحاد الأوربي. كما احتلت 11% من مقاعد البرلمان و21% من مقاعد البلديات. المفارقة أن شهادة المرأة ظلت نصف شهادة الرجل في أرض الإسلام، بينما كان 24%من قضاة تونس نساء...
في حوار العفيف مع قراء إيلاف والأستاذ عبدالقادر الجنابي المنشور في إيلاف، ألمح الى نقطة ضوء في نهاية النفق، أتفق في رؤيتها تماما بالنسبة لتونس تحديدا، فقد اثارت (أشجار الزيتون الكثيفة) على طول الطريق الى "القيروان" دهشتي واعجابي، ولاحظ ذلك مرافقي التونسي الذيي حكي لي أن هذه الأشجار الخضراء هي رمز للمرأة التونسية، التي كانت تتولي كل مراحل فلاحتها ورعايتها بينما كان الرجل يتولي عملية تسويق المحصول في الأسواق، وكأن الدعوة الى المساواة (اليوم) بين المرأة والرجل ليست تحصيل حاصل وإنما هي محاولة لنفض الغبار عن (تاريخنا) الحقيقي، بينما يريد البعض أن يزيف هذا التاريخ الأخضر باللون الأصفر الصحراوي الكالح، ونسي أو تناسي أن "العفيف" دائما (أخضر)!
عن الحوار المتمدن