العفيف الأخضر يموت حياً !

العفيف الأخضر يموت حياً !

شاكر النابلسي
كان المثقفون العرب في العصر الحديث من أكثـر فئات المجتمع العربي اهمالاً واحتقاراً وتعذيباً ودماراً من قبل الدولة العربية، خاصة إذا كان هؤلاء المثقفون من المعارضة لنظم الحكم. وحين يمرض المثقف من هؤلاء، أو يقترب منه الموت، لا يجد دولة أو هيئة أو منظمة أو شخصية عربية غنية أو سياسية أو اجتماعية أو دينية تأخذ بيده وتعينه على مرضه،

وتتولى علاجه إلا فيما ندر. وهذا يثبت أن الأمة العربية – ولله الحمد – أمة تُعنى بالثقافة والمثقفين، وأنها أمة حضارية تحتضن المثقفين في أيامهم البيضاء وفي أيامهم السوداء، ولا تتركهم يموتون جوعاً أو مرضاً كالكلاب.
-1-

فعندما مرض بداء السُّل شاعر العراق الأكبر في العصر الحديث بدر شاكر السياب (1926-1964) مثالاً لا حصراً، تركته الدولة العراقية يموت في أحد مستشفيات الكويت، دون أن تمتد يد الدولة العراقية إلى مساعدته مما اضطره في عام 1963 وقبل موته بعام إلى أن يكتب قصيدة (أغثني يا زعيمي) يمتدح فيها عبد الكريم قاسم، ويطلب منه مساعدة مالية لاستكمال علاجه. وعندما منحه قاسم 500 دينار فقط لا غير، أنشد له السياب قصيدة مديح قال في مطلعها:

يا أبا الأحرار، يا رافعها راية تزهو على شط الفرات
دُمْ لشعب عاش من تموزه في نعيم فوق أشلاء الطغاة

ولكن السياب مات بعد ذلك، بعد أن التهم داء السُّل جسمه النحيل، وكانت الدولة العراقية في ذلك الوقت مشغولة بالصرف السخي على المغنين والشعراء والكتبة وعمال الثقافة والمنشدين والمطبلين والمزمرين والراقصين في زفات الانقلاب العسكري الذي قام به قاسم في 14 تموز 1958.

-2-
بالمقابل عندما مرض (العندليب الأسمر) عبد الحليم حافظ بالبلهارسيا، ومات عام 1977 في أفخم وأغلى مستشفيات لندن، كان الملوك والأمراء والرؤساء العرب يتسابقون لحمله في طائرة خاصة إلى لندن، وعلاجه على حسابهم الخاص في أفخم مستشفيات لندن، ولم يمت عبد الحليم حافظ كالكلب الأجرب، كما مات الشاعر العظيم السياب، ولكنه مات ميتة ملوكية أو أميرية على سرير من الذهب والورد محاطاً بملائكة الرحمة والايقونات الذهبية!

كذلك، عندما مرضت المغنية الجزائرية وردة (وردة العرب) قبل ثلاث سنوات بمرض خطير، حملتها أكف الأغنياء العرب إلى فرنسا على ريش النعّام لتتعالج هناك على نفقتهم الخاصة. وتسابق المتسابقون على التبرع لعلاجها. وعندما قررت الاعتزال والاقامة في موطنها الأصلي الجزائر، أهداها الرئيس بوتفليقه منزلاً فخماً، وتكفّل بإعالتها مدى العمر على حساب الدولة الجزائرية!

وقد قرأت مؤخراً بأن شعبان عبد الرحيم (شعبولا) المكوجي المصري، ونجم الغناء الأهبل المتحشرج الصاعد، تُرسل له الطائرات الخاصة لكي يقيم حفلات غنائية في انحاء مختلفة من الخليج، ويُدفع له في الليلة الواحدة ثلاثين ألف دولار، مقابل الحشرجات والظراط الذي يُطلقه من الأمام ومن الخلف!

كل هذا لاخلاف عليه. وهو دليل على أن الأمة العربية "المباركة" تعشق "الفن" وتكرم "الفنانين" وتحتضنهم. وهو حال العرب منذ الجاهلية حتى الآن. فالخلفاء لم يحفلوا بالعلماء والمفكرين كما حفل الوليد بن يزيد الخليفة الأموي بالمغني المشهور "معبد" الذي أقام في قصر الوليد ومات في قصره. ولم ينل مفكر عربي أو عالم عربي منزلة مادية وحفاوة كبيرة ومالاً كثيراً من الخلفاء كما نال المغنون في العصر الأموي والعباسي من أمثال طويس، ومسجع، وعطرد، والغريض، والموصلي، وسلامة القس وغيرهم.

-3-

العفيف الأخضر ليس عندليباً أسمر، ولا هو (وردة العرب).
العفيف الأخضر ليس راقصة شرقية، تُنثر الدنانير الذهبية على قدميها كل ليلة.
العفيف الأخضر ليس غانية من الغواني، لكي يتسابق العرب على مساعدته في أزمته.
العفيف الأخضر طير مُحلّق خارج السرب العربي، يُحلق وحيداً، ويطلق عليه رجال الدين "طائر البين" وهو أشبه بالغراب الناعق كما يصفه الأشياخ.
العفيف الأخضر ليس (وردة العرب) الحمراء الجورية، ولكنه شوكة العرب الجارحة الفاتحة للدمامل العربية المتقيحة.
العفيف الأخضر ليس (وردة العرب) البيضاء الفوّاحة، ولكنه مبضع جراح ماهر وحاد ومُلمٍ بأبي حامد الغزالي وماركس، وبأبن تيمية وهيجل. ويعرف كيف يفتح الدمامل العربية المتقيّحة، وكيف يعالجها ليس بالطب العربي ولا بالطب النبوي، ولكن بالعقل، وبطب القرن الحادي والعشرين.

العفيف الأخضر مفكر تونسي يعيش في باريس منذ السبعينات وحيداً. وهو مفكر شيطاني كما يُطلق عليه رجال الدين في العالم العربي. ومن رجال الدين من رماه بالكفر والإلحاد والزندقة. ومن القوميين من رماه بالعمالة للأجانب. ومنهم من أحلَّ دمه في الأشهر الحُرم. وهو ممنوع من الكتابة في معظم الصحف العربية الرسمية وشبه الرسمية. وهو مُقاطع ومنبوذ من الفضائيات العربية الرسمية وشبه الرسمية. و 999و99 ٪ من الدهماء والغوغاء العربية تكرهه، باعتباره محامي الشيطان، وباعتباره ضد المقاومة الدينية الأصولية المسلحة في فلسطين، وضد "المقاولة" المسلحة المرتزقة في العراق. وهو أعلى صوت في العالم العربي ينادي باصلاح التعليم الديني الظلامي. وله كتاب حول هذا الموضوع سوف يصدر قريباً في بيروت. وهو شيوعي سابق، وماركسي وعلماني التفكير حالياً. وهو في طليعة المفكرين الليبراليين الجدد الذين ينادون بالاصلاح الخارجي إذا عجزنا عن الاصلاح الداخلي. وهو من دعاة الحرية والديمقراطية والمجتمع المدني والعلمانية والعولمة، وكل "الشرور" و "المنكرات" و "الموبقات" الغربية. وهو من ألد خصوم ياسر عرفات وصدام حسين والقذافي وجعفر النميري وحكم الملالي في إيران، وكل الديكتاتوريين في العالم العربي والإسلامي. وهو أخيراً وبكل بساطة ووضوح من المفكرين الخارجين الذين يحملون مشعل التنوير العربي الجديد ضد الظلام والظلامية وفكر القرون الوسطى الذي تنشره الفرق الدينية السياسية الأصولية بقيادة الغنوشي والترابي والظواهري وأبن لادن والقرضاوي وجماعة الإخوان المسلمين وغيرهم من قادة الرأي السياسي الديني الذي يتصدر المنابر العربية هذه الأيام، بعد أن هزُل العرب وهزُل تفكيرهم السياسي.

-4-

هذا هو العفيف الأخضر.
اليوم، العفيف الأخضر أصبح عفيفاً شبه أصفر. فليسعد خصومه الكُثر في العالم العربي.
اليوم، العفيف الأخضر، الذي يصفرُّ صُفرة الموت شيئاً فشيئاً، يموت موتاً بطيئاً وهو حي وواقف كأي نخلة من نخيل تونس الخضراء.
اليوم، العفيف الأخضر على مشارف السبعين من عمره. مريض ومهدد بالشلل في "كهفه" الحقيقي في احدى ضواحي باريس، والذي زاره المفكر السوري جورج طرابيشي في هذا الكهف، وقال عنه إنه كهف لا يليق إلا بكلب أجرب متشرد. ورغم ذلك فقد كان الأخضر راضياً بهذا الكهف لأنه يعيش من الداخل وليس من الخارج. ولكن الأخضر أصيب بالشلل في ساعده لكثرة ما حمل من مشاعل التنوير العربي، ولم يعد يقوى على الحياة.
وربما يتساءل محبو ومريدو الأخضر عن سر انقطاعه طوال الفترة الماضية. فهذا هو الجواب.

الأخضر مشلول اليوم، ولا يستطيع الكتابة أو القراءة أو التفكير أو الحركة. وهو بحاجة إلى العلاج، والعلاج الطويل الأمد. وهو بحاجة إلى العناية والرعاية حيث لا ولد لديه ولا تلد. فالأخضر لم يتزوج. وهو ابن فلاح فقير من ضاربي الأرض. وأقاربه من الفقراء المُعدمين. وليس هناك من يُعينه غير من يهمهم أمر الأخضر كإنسان فقير مُعدم، وليس كمفكر معارض وليبرالي وحداثي وخارجي.. الخ.

-5-

لا أظن أن الرئيس التونسي زين العابدين بن علي يتخلّى عن مواطنه العظيم العفيف الأخضر، الذي هو أشبه بـالمواطن "توم بين" الأمريكي البريطاني الأصل، ولا يقدم له يد العون كعلم ثقافي من أعلام تونس المهمة.

فالأخضر أشبه بـ "توم بين" صاحب كتاب "الحصافة Common Sense " وصاحب كتاب "حقوق الانسان" والذي يعتبره الأمريكيون رسول الحرية، ويعتبرون كتابه "الحصافة" انجيل الثورة الأمريكية. وهو القائل "أينما لا حرية فهناك وطني". وهو أحد موقدي شعلة الثورة الفرنسية كذلك.

والأخضر هو كذلك أحد موقدي شعلة التنوير والعقلانية والواقعية السياسية في العالم العربي.
والعفيف الأخضر لا يقل أهمية عن الرواد التنويريين التونسيين من أمثال الطاهر حداد والطاهر بن عاشور والفاضل بن عاشور وغيرهم من رواد التنوير التونسي الذين جعلوا من التعليم والفكر والثقافة التونسية مثالاً حراً وتقدمياً يُحتذى في العالم العربي.
لا أظن أنه لا يوجد في العالم العربي شخص أو مسؤول أو منظمة عاجزة عن انقاذ العفيف الأخضر من الموت بالشلل.
لا أظن أن العالم العربي خلا تماماً من أصدقاء الفكر ومحبي المفكرين الأحرار أياً كانوا وكيفما كانت توجهاتهم ذات اليمين أو ذات اليسار.
لا أظن أن العالم العربي قد خلا من الرجال الحريصين على شرف الفكر العربي وتقدمه وعلى حياة المفكرين وحريتهم.
إن العفيف الأخضر يقترب كل يوم من الموت، فهل من مسؤول أو جهة أو صاحب مال أو منظمة تبعد شبح الموت عن هذا المفكر الثمين.

هذا المقال سبق ان نشر
في المدى عام 2006