عبقري الموسيقى الكلاسيكية

عبقري الموسيقى الكلاسيكية

ندى سامي
ولد"موزارت"في"زالسبورغ"عام 1756 وترعرع فيها الى ان كره هذه المدينة وغادرها بحثاً عن الموسيقى والموسيقيين.. ولم يوافق والد موزارت على قرار ابنه ولم يستوعبه حتى مماته.. الى درجة ان بعض المختصين في سيرة حياة الموسيقار قالوا ان هذا القرار كان وراء هلاك والده.. بل وموته وهو ايضاً مكتئباً عن عمر يناهز 35 عاماً فقط.

وقد اكتشف علماء الطب مؤخراً عبقرية (موزارت) في مجال الصحة.. فقد تبين نتيجة الابحاث ان الاستماع الى مقاطع قصيرة من (سوناتاك 448 لموزارت يؤدي الى الاقلال من حدوث نوبات الصرع لدى المصابين بهذا المرض.. وقد دفعت النتائج المشجعة لهذه البحوث بالبعض للمطالبة باجراء المزيد منها للكشف عما اذا كانت لانواع اخرى من الموسيقا آثار ايجابية على الامراض التي تصيب المخ.. يقول البروفيسور"جون جنكينـز"بعد مراجعته لنتائج البحوث الدولية التي اجريت في حقل الموسيقى العلاجية أنه من المحتمل جداً ان تكون لمؤلفات الموسيقيين الآخرين آثار موازية لموسيقا موزارت.. وقال البرفيسور جنكينـز ان مؤلفات"باخ"الموسيقية تشبه من الناحية التركيبية مؤلفات موزارت.. وكانت البحوث قد بينت ان تعريض مرضى الصرع الى موسيقا موزارت لمدة عشر دقائق فقط أدت الى تحسن ملحوظ في قدراتهم الحركية كطي الورق وتقطيعه.

ولئن كانت العبقرية تبدأ من الصغر.. فقد كتب أول اعماله الموسيقية قبل ان يتجاوز سبعة أعوام واخرج أولى اوبراته وهو في سن الرابعة عشرة.. الا ان اشعاعها يعيش الى الابد.. وتحتفل ألمانيا والنمسا، بل أوربا كلها بالذكرى.. على نحو يكشف حجم الأثر الذي تركه موزارت في نفوس مئات الملايين من البشر.. وتبدأ الاحتفالات باقامة عدد من النشاطات واللقاءات حول موسيقا هذا المبدع المتفرد الذي طبع الموسيقا الكلاسيكية العالمية بطابعه الخاص.. ومدها بطاقات سحرية لم يقو عليها مرور الزمن بل زادها ندرة وبهاء.. وصدر بهذه المناسبة ايضاً العديد من الكتب والاسطوانات المدمجة التي تحتوي على مجموعة الاعمال الكاملة لموزارت.. أو على مقتطفات منها حتى المجلات الاسبوعية.
وخرجت في باريس وعلى غلافها الاول صورة لموزارت.. موسيقى موزارت تختزن في داخلها وبعبقرية فذة كل ما يعتمل داخل النفس البشرية.. هو الذي استطاع ان يسبر اغوار السر الانساني حيث تمكن من الانتصار على الوقت وعلى ما يطفو امامنا من ثقافة الابتذال التي تحكم اكثر فأكثر قبضتها على العالم.

وشق موزارت طريقه بنجاح كبير وقام بتقديم أوبرات جلبت انتباه المراقبين مثل زواج (فيغارو ودون جوفاني والناي السحري).. ولم يقتصر تراث موزارت الموسيقي على الأوبرات بل أنه ألف أكثر من 56 سمفونية و21 كونشيرتو بيانو وأكثر من 20 سوناتة بيانو و15 أوبرا.. وتجدر الاشارة الى ان جميع هذه الاعمال الموسيقية أنجزها موزارت في فترة قصيرة وها قد مضى مئتان وخمسون عاماً.. ولا يزال موزارت لغزاً وكما يقول بعض النقاد فقد ولد وكمانه في قلبه.. يعزف الموسيقى.. بل كانت الموسيقى هواه ولعبته.. غير انها لعبة تعد من المصادر الاولى والينابيع الغائرة.. ويبقى اللغز لغزاً على الرغم من آلاف المراجع والوثائق والكتب والرسائل.. وبداية على الرغم من آلاف الصفحات المليئة بالنوتات ومائتي ساعة من الموسيقى ضمن 600 معزوفة عزفها طوال عمره القصير.. وتمثل نتاجاً شاسعاً داخل حياته القصيرة.. كتلك التي عاشها ايضاً الشاعر"أرتور رامبو"الا ان ملامح موزارت تطالعنا في موسيقاه.. تلك التي تسمو حيناً فوق العواطف والأحاسيس.. أو تلك التي حملتها ألحان الروكييم (جناز لراحة أنفس الموتى).. الذي أنكب على تأليفه بطلب من شخص مجهول.. وهذا ما ضاعف السر حوله.. وقد ظل يكتبه حتى الرمق الأخير وكأنه يكتبه في وداع نفسه.. وبدون ان يتمكن من وضع النوتة الأخيرة فيه.. وهو على أي حال لا يحتاج الى بداية ونهاية.. لأنه اشبه بالحالة القائمة بذاتها ولانه اروع روكييم كتبته يد بشر على الأرض.. غريباً ومتألقاً ومدهشاً شيئاً ما يجمع بين الكآبة والقداسة.. كآبة لم تعثر على أسمها بعد.. شيئاً مما وراء العالم.. تساعدنا ايضاً على رسم صورة له.. ألفا رسالة من أبناء عائلته تم الاحتفاظ بها بأعجوبة حتى اليوم.. منها ما كتبه والده أو زوجته (كونستانس) أو ما كتبه هو نفسه.

يطالعنا موزارت ايضاً في الأوراق التي تحمل مخطوطات نوتاته الموسيقية المدهشة التي وصلت إلينا بدون أن يكون فيها أي تصحيح أو تعديل.. كأنها كانت مكتوبة قبل ان تكتب.. من هنا فأن البحث عن موزارت الانسان لا يستقيم بدون النظر اليه خارج الموسيقى.. هو الذي نذر لها من حياته بأكملها متجاوزاً من خلالها الذات والزمن.. من الخامسة من عمره حين وضع معزوفته الاولى لآلة الكلافسين الى سيمفونيته الأولى التي ألفها في الثامنة من العمر.

يقول احد المعاصرين له: كل شيء فيه موسيقى طالما هو يعزف والموسيقا مستمرة.. لكننا نعود فنراه طفلاً ما ان يتوقف عن العزف.. طفلاً ايضاً راح يجوب أوربا برفقة والده الذي عرف كيف يوجهه منذ البداية.. وبعد هذه الانجازات الكبيرة ازدادت فرص الموسيقي الشاب وبدأ في عام 1787 يعمل كملحن رسمي في القصر.. ولكنه من المعروف ان موزارت لم يكن على علاقة جيدة مع الطبقة الحاكمة والبلاط.. فقد استخفف بأهل القصر ولم يكن سلوكه يليق دائماً بمقام الامبراطور والعائلة المالكة.. علاوة على ذلك اعتبر الموسيقار ان الأجر الذي تلقاه مقابل عمله لم يكن كافياً لتغطية تكاليف حياته وحياة زوجته وطفله الصغير.. وبعد مغادرة القصر بدأ يعمل لحساب مسارح ودور اوبرا خاصة.. مما اوقعه في الديون وبلاه بمرض الاكتئاب.. وفي هذه الفترة بالذات صعقه خبر موت أبيه في مسقط رأسه زالسبورغ.. مما دفعه الى البدء بكتابة أوبرا تكريماً لروح ابيه الذي عمل هو ايضاً كموسيقي محترف وكان له الفضل في اكتشاف موزارت الصغير وتنمية مواهبه..