الجاحظ فيلسوف الأدباء.. وأديب الفلاسفة

الجاحظ فيلسوف الأدباء.. وأديب الفلاسفة

إعداد/ منارات
1ـ اسمه وكنيته ونسبه
الجاحظ أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب , الكناني البصري.
قال يموت بن المزرع:"الجاحظ خال أمي، وكان جَدّ الجاحظ أسود , يقال له فزارة، وكان جمالاً لعمرو بن قلع الكناني


2 ـ مولده ووفاته:
ولد في أول سنة ثلاث وستين ومائة , و مات سنة خمس وخمسين ومائتين في خلافة المعتز وقد جاوز التسعين.

3 ـ مرضه
قال أبو علي القالي في أماليه:
"حدثنا أبو معاذ عبدان الخولى المتطبب قال: دخلنا يوما بسُرّ من رأى على عمرو بن بحر الجاحظ نعوده وقد فلج، فلما أخذنا مجالسنا أتى رسول المتوكل فيه (يدعوه إلى مجلسه)
فقال (الجاحظ): وما يصنع أمير المؤمنين بشق مائل، ولعاب سائل؟.
ثم أقبل علينا فقال: ما تقولون فى رجل له شقان: أحدهما لو غرز بالمسال ما أحس، والشق الآخر يمر به الذباب فيغوث (يصرخ طالبا للنجدة)، وأكثر ما أشكوه الثمانون؟.
ثم أنشدنا أبياتا من قصيدة عوف بن محلم الخزاعي"أهـ
وحدث يَموت بن المزرَّع ـ وكان الجاحظ خاله ـ في"أماليه"قال:
"دخل إلى خالي أُناس من البصرة، من أصدقائه، في العلَّة التي مات فيها، فسألوه عن حاله، فقال:
عليلٌ من مكانينِ *** من الأسقامِ والدَّينَ
ثم قال: أنا في هذه العلَّة التي يُتُخوَّفُ من بعضها التلف، وأعظمها نيِّف وتسعون سنة , يعني عمره".أهـ
وذكر يموت بن المزرَّع كذلك أن الجاحظ:"كان يطلي نصفه الأيمن بالصندل والكافور لشدَّة حرارته، والنصف الآخر لو قرص بالمقاريض ما شعر به من خدره وبرده"أهـ
قال الجاحظ لطبيب يشكو إليه علته:"اصطلحت الأضداد على جسدي , إن أكلت باردا أخذ برجلي , وإن أكلت حارا أخذ برأسي".أهـ
4ـ صفاته وأخلاقه:
قال أحمد الزيات في"كتابه تاريخ الأدب العربي":
"كان أبو عثمان دميم الخلقة , جهم الوجه , جاحظ العينين (ومن ذلك لقبه) , حتى إن الخليفة المتوكل سمع بمنزلته من العلم والفهم فاستقدمه إليه بسُرّ من رأى ليؤدب ولده , فلما رآه استبشع منظره وصرفه بعشرة آلاف درهم.
وكان في الجاحظ دعابة و مَجَانة واستخفاف بالعادات المرعية والآداب الوضعية , ولكنه كان لطيف الروح ذكي الفؤاد فكِه المحاضرة صادق المواساة".أهـ
5 ـ أساتذة الجاحظ في العلوم والفنون:
سمع من أبي عبيدة والأصمعي وأبي زيد الأنصاري، وأخذ النحو عن أبي الحسن الأخفش وكان صديقه.
وأخذ الكلام (أي علم العقيدة) عن النظام المعتزلي، حتى صار رأسا في الاعتزال وزعيما لفرقة تسمى الجاحظية.
قال المرزباني: قال أبو بكر أحمد بن علي:"كان أبو عثمان الجاحظ من أصحاب النظام، وكان واسع العلم بالكلام، كثير التبحر فيه , شديد الضبط لحدوده، ومن أعلم الناس به وبغيره من علوم الدين، وله كتب كثيرة مشهورة جليلة في نصرة الدين، وفي حكاية مذهب المخالفين , والجاحظ عظيم القدر في المعتزلة , وغير المعتزلة من العلماء الذين يعرفون الرجال ويميزون الأمور"انتهى بتصرف.
وتلقف الفصاحة من العرب شفاهاً بالمربد.
6 ـ حب الجاحظ للكتب وولعه بالقراءة:
حدث أبو هفان قال:"لم أر قط ولا سمعت من أحب الكتب والعلوم أكثر من الجاحظ، فإنه لم يقع بيده كتاب قط إلا استوفى قراءته كائناً ما كان، حتى إنه كان يكتري دكاكين الوراقين ويبيت فيها للنظر.
والفتح بن خاقان، فإنه يحضر لمجالسة المتوكل، فإذا أراد القيام لحاجة أخرج كتاباً من كمه أو خُفِه وقرأه في مجلس المتوكل إلى حين عوده إليه , حتى في الخلاء.
وإسماعيل بن إسحاق القاضي فإني ما دخلت إليه إلا رأيته ينظر في كتاب، أو يقلب كتباً أو ينفضها".
حتى أنهم زعموا أن سبب موت الجاحظ كان بسقوط مكتبته عليه.
7 ـ منزلة الجاحظ العلمية:
نقل غير واحد من العلماء كصلاح الدين الصفدي وياقوت الحموي أنه:
"قال بعض أهل الأدب: اتفق أهل صناعة الكلام , على أن متكلمي العالم ثلاثة الجاحظ وعلي بن عبيدة اللطفي وأبو زيد البلخي.
فمنهم من يزيد لفظه على معناه وهو الجاحظ , ومنه من يزيد معناه على لفظه وهو علي بن عبيدة , ومنهم من توافق لفظه ومعناه وهو أبو زيد".
قال أبو حيان التوحيدي في كتابه"البصائر والذخائر":
"وأبي عثمان الجاحظ، فإنك لا تجد مثله، وإن رأيت , ما رأيت رجلاً أسبق في ميدان البيان منه، ولا أبعد شوطاً، ولا أمد نفسا ً، ولا أقوى منة، إذا جاء بيانه خجل وجه البليغ المشهور".أهـ

حدث أبو سعيد السيرافي قال:
"حدثنا جماعة من الصابئين الكٌتّاب: أن ثابت بن قرة قال: ما أحسد هذه الأمة العربية إلا على ثلاثة أنفس فإنه:
عقم النساء فلا يلدن شبيهه *** إن النساء بمثله عقم
فقيل له: أحص لنا هؤلاء الثلاثة.
قال: أولهم عمر بن الخطاب في سياسته ويقظته وحذره، وتحفظه ودينه وتقيته، وجزالته وبذالته وصرامته...(إلى آخر ما ذكر من مناقبه رضي الله عنه).
ثم قال: والثاني الحسن بن أبي الحسن البصري، فلقد كان من دراري النجوم علماً وتقوى وزهداً وورعاً وعفةً ورقةً وتألهاً وتنزهاً وفقهاً ومعرفةً وفصاحةً ونصاحةً، مواعظه تصل إلى القلوب، وألفاظه تلتبس بالعقول، وما أعرف له ثانياً، ولا قريباً ولا مُدانيا...ً(إلى آخر ما ذكر من مناقبه رحمه الله)
ثم قال: والثالث أبو عثمان الجاحظ، خطيب المسلمين، وشيخ المتكلمين، ومدره المتقدمين والمتأخرين، إن تكلم حكى سحبان في البلاغة، وإن ناظر ضارع النظام في الجدال، وإن جد خرج في مسك عامر بن عبد قيس، وإن هزل زاد على مزيد حبيب القلوب ومزاج الأرواح، وشيخ الأدب ولسان العرب.
كتبه رياض زاهرة، ورسائله أفنان مثمرة، ما نازعه منازع إلا رشاه آنفا ً، ولا تعرض له منقوص إلا قدم له التواضع استبقاء ً.
الخلفاء تعرفه، والأمراء تصافيه وتنادمه، والعلماء تأخذ عنه، والخاصة تسلم له، والعامة تحبه.
جمع بين اللسان والقلم، وبين الفطنة والعلم، وبين الرأي والأدب، وبين النثر والنظم، وبين الذكاء والفهم.
طال عمره، وفشت حكمته، وظهرت خلته، ووطئ الرجال عقبه، وتهادوا أدبه، وافتخروا بالانتساب إليه، ونجحوا بالإقتداء به، لقد أوتي الحكمة و فصل الخطاب". أهـ بتصرف
8 ـ تراث الجاحظ:
قال المرزباني:
"وله كتب كثيرة مشهورة جليلة في نصرة الدين، وفي حكاية مذهب المخالفين، وفي الآداب والأخلاق، وفي ضروب من الجد والهزل، وقد تداولها الناس وقرؤوها وعرفوا فضلها.
وإذا تدبر العاقل المميز أمر كتبه , علم أنه ليس في تلقيح العقول وشحذ الأذهان، ومعرفة أصول الكلام وجواهره،وإيصال خلاف الإسلام ومذاهب الاعتزال إلى القلوب , كتب تشبهها".أهـ
هذا وقد ذكر ياقوت الحموي للجاحظ أسماء ما يقارب 128 عنوانا بين كتاب ورسالة.
لكن أشهر هذه الكتب والرسائل:
ـ أ ـ كتاب البيان والتبيين
ـ ب ـ كتاب الحيوان
ـ ج ـ رسالة التربيع التدوير.
ـ أـ البيان والتبيين:
وهو أحد الكتب الأربعة المهمة في سوق الأدب.

والكتاب ألفه الجاحظ وأهداه للوزير أحمد ابن أبي دؤاد , فنحله الوزير عليه خمسة آلاف , وقد طارت شهرت هذا الكتاب إلى الآفاق في حياة صاحبة ذكر ياقوت الحموي في"كتابه معجم الأدباء"عما حدث به أبو عبد الله الحميدي في كتابه"الجذوة"أن:
"أبا محمد الحسن بن عمرو النجيرمي قال: كنت بالأندلس فقيل لي: إن هاهنا تلميذاً لأبي عثمان الجاحظ يُعرَف بسلام بن يزيد ويكنى أبا خلف.
فأتيته فرأيت شيخاً هرماً فسألته عن سبب اجتماعه مع أبي عثمان , ولم يقع (يدخل) أبو عثمان إلى الأندلس.
فقال: كان طالب العلم بالمشرق يشرف عند ملوكنا بلقاء أبي عثمان، فوقع إلينا كتاب التربيع والتدوير له فأشاروا إليه، ثم أردفه عندنا كتاب البيان والتبيين له , فبلغ الرجل الصكاك بهذين الكتابين".
ونال الكتاب الاحترام والتقدير , وإعجاب العلماء به , وتنافس أصحاب المكاتب في اقتنائه , والافتخار بضمه إلى كنوزهم الثمينة , ما لم تنله كثير من الكتب.
قال أبو هلال العسكري في كتابه"الصناعتين":
"فلما رأيت تخلي هؤلاء الأعلام فيما راموه من اختيار الكلام، ووقفت على موقع هذا العلم من الفضل، ومكانه من الشرف والنبل، ووجدتً الحاجة إليه ماسة، والكتب المصنّفة فيه قليلة.
وكان أكبرها وأشهرها كتاب البيان والتبيين لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، وهو لعمري كثير الفوائد، جمّ المنافع، لما اشتمل عليه من الفصول الشريفة، والفقر اللطيفة، والخطب الرائعة، والأخبار البارعة، وما حواه من أسماء الخطباء والبلغاء، وما نبّه عليه من مقاديرهم في البلاغة والخطابة، وغير ذلك من فنونه المختارة، ونعوته المستحسنة". أهـ
والكتاب مطبوع ومتداول فمن أحسن طبعاته , الطبعة التي حققها عبد السلام هارون.
ـ ب ـ كتاب الحيوان:
وهو أقل شهرة من البيان والتبيين , وقد ألفه الجاحظ باسم محمد بن عبد الملك الزيات فأعطاه خمسة آلاف دينار مكافئة على تأليفه , وفيه بث الجاحظ معتقداته الاعتزالية.
وهو مطبوع ومن أحسن طبعاته , الطبع التي حققها عبد السلام هارون كذلك , وهي في سبعة مجلدات.
ـ ج ـ التربيع والتدوير:
وقد مر معك قدر هذه الرسالة , وهي رسالة ألفها الجاحظ يرد فيها على أحدهم , و اسمه أحمد بن عبد الوهاب , وضمنها السخرية منه.