د. فهد مسلم ازغير
كانت هذه القضية واحدة من أكثر القضايا حساسية في عهد الملك غازي، اذ هزت كيان المملكة العراقية هزة عنيفة في الصميم لعلاقتها بزواج الأميرة عزة من رجل دون مستواها من جهة، ولاعتناقها الديانة المسيحية على المذهب الارثدوكسي من جهة ثانية في السابع والعشرين من آيار1936، وكادت هذه القضية ان تؤدي إلى قطع العلاقات الدبلوماسية بين العراق وايطاليا،
لاسيما ان العراق كان قد اتخذ قراراً في الرابع عشر من تشرين الثاني 1935 بتنفيذ العقوبات الاقتصادية على ايطاليا بسبب غزوها لاثيوبيا.
ولدت الأميرة عزة في استانبول عام 1905 ، وهي اكبر بنات الملك فيصل الأول ، عادت الى الحجاز ولها من العمر ثلاث سنوات ، وعاشت طفولتها هناك حتى مغادرتها الى العراق عام 1924. لم تكن عزة طبيعية في تصرفاتها، وانما كانت تضحك وتبكي في أوقات غير مناسبة . تظاهرت بالمرض فسمح لها شقيقها الملك غازي بالسفر الى احدى الجزر اليونانية للعلاج والاصطياف بصحبة شقيقتها الأميرة راجحة على أمل ان تتحسن صحتها هناك ، فتعرفت على نادل يعمل في أحد الفنادق وتزوجته، فخلقت مشكلة للعائلة الملكية بسبب هذا الزواج
القت هذه القضية بظلالها على مزاحم الباجه جي الذي كان الوزير العراقي المفوض في روما، وكان عليه ان يمارس دوره لمتابعتها ومعرفة مدى امكانية توسط الملك الايطالي فيكتور عما نوئيل الثالث أو رئيس الوزراء بنيتو موسوليني لفسخ زواج الأميرة عزة من الخادم الايطالي " فارا الامبوس" الذي تعرفت عليه من قبل ، وأبدلت اسمها من " عزة" إلى " انستاسيا".
ولأهمية هذه القضية وارتباطها بالعائلة المالكة فقد أبرقت وزارة الخارجية العراقية في الثلاثين من آيار 1936 إلى مزاحم الباجه جي طالبة منه متابعة القضية وما تنشره الصحف الأوربية من تعليقات قاسية حولها، ومما جاء في البرقية ان الصحف الأوربية نشرت " خبر زواج الأميرة عزة بشخص رودوس من رعايا الطليان ... سافر تحسين ( قدري) جواً لاستطلاع الحقيقة، لكنها سافرت أمس الى رودس بطيارة ايطالية قبل وصول تحسين"، واستطردت وزارة الخارجية في برقيتها مؤكدة ان مجلس الوزراء سينظر في القضية، وطلبت من مزاحم الباجه مراقبة الصحف ومتابعتها منعاً لنشرها تعليقات صحفية غير صحيحة وتوضيح الأمر الذي حدث.
كانت الاتصالات التي أجراها مزاحم الباجه جي في روما مشجعة في بداية الأمر من أجل توسط الملك الايطالي أو موسوليني في القضية اذا ما طلب منهما الملك غازي ذلك، إلا أن وزارة الخارجية الايطالية سرعان ما اخبرت مزاحم الباجه جي انه لا سبيل لتدخلهما في قضية تعد شخصية بحته، ولان عزة بالغة من الرشد ومن حقها ان تقرر ما تفعله. حاولت وزارة الخارجية العراقية اظهار الاميرة عزة انها تشكو من مرض الاعصاب، وعند مرورها من اثينا اشتدت عليها النوبات العصبية، ووقع خلال ذلك حادث اقترانها بالشخص الذي تزوجته
أضحى موقف مزاحم الباجه جي محرجاً بعد رفض ايطاليا التدخل في قضية الأميرة عزة وعدم قيام حكومتها بأي عمل من شأنه فسخ هذا الزواج، لابل سرت شائعات عدة منها ان ممثل ايطاليا في العراق السنيور بورتا،كان له ضلع في هذا الزواج فضلاً عن تدبير فرار الأميرة عزة مع زوجها، وكذلك غض الملك الايطالي النظر عن وزير خارجيته الذي أرسل باقة زهور للعروسين.
إزاء ذلك حاول بعض السياسيين العراقيين استغلال عدم توصل مزاحم الباجه جي الى نتيجة ترضي العاهل الملكي، وتخفف من الاستياء والغضب الذي عم الأوساط الشعبية في العراق، لاسيما بعد ان نقلت الصحف العالمية خبر هذا الزواج على صدر صفحاتها الأولى، فهاجموا مزاحم الباجه جي وفي مقدمتهم نوري السعيد وزير الخارجية الذي لم يتردد في انتقاده ومهاجمته في مجالسه الخاصة، وإفشاء المخابرات السرية والاتصالات الدبلوماسية التي كانت جرت بين الوزارة والمفوضية العراقية في روما حول قضية الأميرة عزة، وقد عرف مزاحم الباجه جي ذلك من شاكر الوادي، ولمسه بنفسه وقت مقابلته للسعيد عند لقائهما في الشام في السابع عشر من تموز 1936، اذ يقول عن ذلك ما نصه : " كانت المقابلة مع نوري السعيد باردة، وكنت أرى في كلماته وحركاته دلائل الحقد واللؤم . أخبرني ان الحكومة العراقية تنوي قطع علاقاتها الدبلوماسية مع ايطاليا وسحب ممثلها بسبب قضية الأميرة عزة ".
لم يستغل نوري السعيد قضية الأميرة عزة للإيقاع بمزاحم الباجه جي وإشعاره بعدم نجاحه في حسمها بشكل ايجابي والتلويح له بنية الحكومة العراقية سحبه من روما بعد قطع العلاقات الدبلوماسية مع الايطاليين حسب، وانما اتخذ من هذه القضية وسيلة للإساءة إلى الملك غازي والدعوة الى تأليف (مجلس وصاية) لمراقبة أعماله، أو حتى خلعه وترشيح ياسين الهاشمي لمنصب الوصاية على حد ما جاء بوثيقة بريطانية ومذكرات أحد القادة العسكريين العراقيين.
بدأت قضية الأميرة عزة تأخذ بعداً آخر أثر على العلاقات العراقية – الايطالية التي كانت أصلاً تمر بمرحلة حرجة بسبب تفاقم الوضع الدولي الذي نجم عن احتلال ايطاليا لاثيوبيا ووقوف العراق ضد هذا الاحتلال، وتأييد العراق لفكرة ايقاف شحنات النفط إلى ايطاليا تلبية للضغوط البريطانية والفرنسية، وأسهمت الصحافة الأجنبية بدورها في تأجيج وزيادة التوتر في موقف العراق تجاه هذه القضية من خلال نشرها صوراً ومقالات للاميرة عزة وزوجها وتعليقاتها على هذا الزواج الذي استفز مشاعر العراقيين ودفع الحكومة العراقية الى التفكير في إرسال من يغتال الأميرة عزة غسلاً للعار، وينعكس ذلك كله على استدعاء الخارجية العراقية لوزير العراق المفوض في روما مزاحم الباجه جي الذي عاد الى العراق في صيف 1936، وأبقته في بغداد حتى الثالث عشر من أيلول من العام نفسه، وعزت ذلك الى القيام " بمهمة خاصة " تتعلق بمتابعة هذه القضية.
واثناء وجود مزاحم الباجه جي في بغداد قدم تقريراً لوزير الخارجية أوضح فيه تفاصيل عديدة عن العلاقات العراقية – الايطالية وزيارة القائم بأعمال المفوضية الايطالية وكالة في بغداد بعد سفر ممثل ايطاليا المفوض في العراق السنيور بورتا إلى ايطاليا وما دار بينهما من حديث وملابسات زواج الأميرة عزة ، فبعدما قيل عن سحب الحكومة الايطالية لممثلها في العراق السنيور بورتا بنية قطع العلاقات مع العراق، وان زوجة بورتا حاولت تعليم الأميرة عزة اللغة الايطالية قبل سفرها إلى أوربا، وان السنيور بورتا والقائم بأعمال السفارة الايطالية في أثينا حضرا حفلة زواج الخادم الأجنبي بالأميرة عزة ، وان الطائرة التي سافر بها الأخيران هي طائرة ايطالية وما الى ذلك من اقاويل وكلام وجده الباجه جي في المحافل السياسية العراقية، وأكد انه لا صحة لما ذكر لان وزارة الخارجية الايطالية أبلغته ان ليس في نيتها سحب السنيور بورتا أو إغلاق المفوضية الايطالية في العراق، وان مغادرة الممثل الدبلوماسي الايطالي كان لغرض الاستشفاء ليس الا ، ولا سبب غيره.
وقد زار القائم بأعمال المفوضية الايطالية بالوكالة في بغداد وزارة الخارجية العراقية صباح يوم الثاني والعشرين من تموز 1936 والتقى مزاحم الباجه جي هناك ليؤكد ما ذكره الأخير من عدم صحة ما قيل عن نية الحكومة الايطالية سحب السنيور بورتا وغلق المفوضية الايطالية في بغداد، كما ان حضور بورتا حفلة زواج الأميرة عزة في اثينا لم يكن صحيحاً ايضاً لان بورتا غادر بيروت بالباخرة في التاسع عشر من مايس 1936 ووصل نابولي صباح الخامس والعشرين منه، وذهب الى جبال تورينو بالقرب من فرنسا مباشرة، أي قبل وقوع الزواج ، فضلاً عن ان حضور القائم باعمال السفارة الايطالية في اثينا حفلة الزواج وتوديعه الأميرة عزة وزوجها في طيران اثينا أمر عار عن الصحة كما اكده القائم بالأعمال الايطالي وكالة لمزاحم من السفارة الايطالية في أثينا إصدار جواز سفر ايطالي للاميرة عزة فارشدته الى القنصلية الايطالية في ( بيرا) باعتبار ان الأعمال القنصلية خارجة عن نطاق وظائف السفارة الايطالية.
لم يدم زواج الاميرة عزة من الخادم اليوناني (فارا الامبوس) طويلاً ، إذ طلقها لتعيش في غرفة بمدينة نابولي الايطالية بمعاش قليل كانت تستلمه من الحكومة الايطالية التي كان في نيتها قطعه عنها ، وحسم أمرها بان أرغمت على الذهاب إلى عمان لتعيش في كنف الأمير عبدالله بقية حياتها،بعد ان انعكست قضيتها سلبياً على العلاقات العراقية – الايطالية وعلى وزير العراق المفوض في روما مزاحم الباجه جي الذي بقي في العراق حتى صدور الأمر الوزاري بإعادته الى روما بعد ان تأكد سفر الوزير الايطالي المفوض إلى العراق لتسلم مهام عمله فيه.