بريد السماء الافتراضي..حوار جديد مع الشاعر اللبناني خليل حاوي

بريد السماء الافتراضي..حوار جديد مع الشاعر اللبناني خليل حاوي

كتابة وحوار: أسعد الجبوري
عندما رأيناه قادماً من بعيد،شعرنا وكأننا أمام شجرة تلتهمها زوبعة ثملة.لم نغامر بالذهاب إلى تداعيات مستعجلة حول ما كان يجري أمامنا في تلك اللحظات،فضلنا مراقبة المشهد بأعين الثعالب،خشية أن نقع في خطأ،فيكون حوارنا مع الشاعر خليل حاوي مرتبكاً وفيه شيء من الريخترية.

لم نصدق أن للشاعر لقلقاً،بات يرافقه في مسيرته كصديق يجوب وإياه في تلك الآفاق.التزمنا الصمت بحذر،على الرغم من أن اللقلق بادرنا بالحديث عن أهمية السيقان الطويلة،وكيف تخوض في المياه من أجل استحداث موسيقى مائية،وكذلك عن حس اللقالق المفرط بالطيران العالي أو السريع نحو الحرائق التي تندلع في الحقول،حيث تجبر النيران الحشرات وأفراخ الأفاعي والفئران للهرب،فتكون اللقالق بانتظار المائدة المفتوحة.
كان الشاعر خليل حاوي يستمع ويدخن ويتأمل منقار الطائر الطويل.ربما لأنه كان يفكر بمن يعينه على التقاط بعض من تلك الذكريات الغائرة في بواطنه السحيقة.من يدري؟
ما أن انتهى اللقلقُ من آخر كلماته،حتى طرحنا على الشاعر خليل حاوي السؤال:
- لماذا طائر اللقلق من دون سواه؟
** ربما لأنه من سكان المناطق الخطيرة،ومن الطيور المهتمة بالاغتراب.
- قد يكون ذلك هناك على الأرض،حيث أعشاشه فوق المآذن وسريره فوق أعمدة الكهرباء أو قمم أشجار عالية.ورحلاته الطويلة في بعض المواسم.هل يتكرر الأمر هنا ثانية؟
**هناك مثل هنا.الخطر واحد وواضح،وسلامة هذا الطير صعبة.انه طير مغامر إلى حدود الانتحار،لكنه لا يخشى حدوث ذلك.
- تقصد هو شبيهك في الطبيعة والسلوك تقصد؟
**ليس تماماً. ولكن فيه من الخصائص ما انجذب إليه.
- يبدو أن الانتحار قد حقق لك ما كنت تصبو إليه. فها أنت تمتلئ حيويةً،وبعينين تُفصحُ عن زمن سعيد آخر.ما القصة بالضبط يا خليل حاوي؟
** إنها نهاية كل فلسفة كما يقال.فالانتحار ولادة في الجانب الآخر من الكون.
- هل وصلت إلى هنا بفضل انتحار الجسد أم القصيدة؟
** لم أخرج لملاقاة الموت بالانتحار،إلا بعد ما شعرت بموت القصيدة في داخلي.
-هكذا بكل بساطة.أم أن تلك اللحظة كانت بسبب آخر.الحب مثلاً؟سقوط بيروت بقبضة الاحتلال الإسرائيلي1982؟أمراض الرأس كالصرع الذي كنت تعتني منه بصمت،كما كشفت عن ذلك القاصة العراقية ديزي الأمير مثلاً؟
**صراعي العاطفي مع ديزي،كان حاضنة للصرع في المبتدأ،بعد ذلك،جاء من يقطع لي تذكرة الرحلة الأخيرة.
- هل كانت علاقتك بديزي قاسية إلى ذلك الحد..كومة حبال مُقطعّة لا يعرف لها رأس من قدم؟

**شيء من هذا القبيل.كنت مثل سيزيف أدفع بصخرتي،ولكنها سرعان ما تهوي على رأسي،فتطحنني،لأكون أنا والأحلام رماداً لا يقرأه غير الموتى في هاوية العالم السفلي.
- ولكن بعضهم يرد سبب انتحارك إلى حصول جفاف في مصادرك الشعرية؟
**ربما لأن الرماد الذي خلفته صخرة سيزيف تلك،قد ردّم كل ما كان في الباطن وكل ما كان في خيالي.
- وقد لا يكون ذلك السبب الوحيد،لأن تجربتك الشعرية بقيت أسيرة للمدارس التقليدية التي نشأت عليها قصائد التفعيلة بإيقاعاتها الثقيلة وموت الفتنة بين سطورها ذات المنشأ الأكاديمي.ما رأي الشاعر خليل حاوي؟
**كنت شاعراً على مفترق مدارس فنية،الذي حدث،إن النيران التي كانت تعمل في باطني،طغت بدخانها على القصائد،فصارت الكلمات تتصارع على كل ما هو منتمٍ للموت بهذا الشكل أو ذاك.وكلما أحسست بضرورة للتغيير،سرعان ما تبتلعني موجة من الظلام الساخن،فتزيد من كآبة الكلمات الممددة على جسد القصيدة كالجثث.
-وكنت تعيش الليالي من أجل دفن تلك الجثث في النفس؟
**بالضبط.فقد أنهيت الزمن الأطول من حياتي بدفن جثث الكلمات في النفس،حتى تحولت إلى سلسلة من المدافن المرعبة.وعندما لم يبق من مكان في النفس إلا إلى جثماني،رحلت إلى هناك.
-تقصد رحلت إلى نفسك؟
**أجل.فالشعراء لا يذهبون إلى موتهم تحت الأرض،بل عادة ما يدفنون جثامينهم في الأنفس التي يتركونها خلفهم.
-وهل للأنفس أجساد يا خليل؟
**ما من شيء دون مكان أو غلاف.الجسد بنظري ملهاة،تنزلُ في مأساة النفس.وهذا ما يمكن التعبير عنه:بتداخل صراع الطاقات،وصولاً إلى مركب العدم.
-ألا تشعر بأن الفلسفة أفسدت شعرك، لأنها عموماً ضد الشعر،أو لا تصلح له؟
**ربما أكون ضد هذه الرؤية،خاصة لدى من يقومون بتربية الشعر كمخلوقات داخل المنازل الفلسفية.فالقصائد أجيال هي الأخرى،ولا يمكن أن تقوم بالتصدي لخياراتها،فيما لو كانت منفعلة بالفلسفة أو بلعبة الشطرنج أو بشيء آخر يجلب للنفس الانشغال بحدث ما. لذا..كنت أحرك ذاتي،تارة بتعقيد عُقَدِها،وتارة أخرى بالهيام ما بين طبقاتها المعتمة.
-ألم تخدع نفسك بأوهام،قد تأسف على حصولها من قبل؟
**نعم.هنالك الكثير من المسائل التي ملأت بها رأسي من دون طائل.
-مثل ماذا؟
**اهتماماتي بجبران خليل جبران.فبعد أن التقيت به هنا،ودارت بيننا نقاشات عديدة،وجدته أصولياً،ولا يختلف كثيراً ً عن السلفيين الجدد.لهذا منعت نفسي عن مناقشته في أغلب ما كتبه قديماً.
-ربما حدث ذلك بفعل تقادم النصوص؟
** لا أعتقد بذلك.ولكن يمكن القول أن أثره في الأرواح العابرة إلى هذا السديم،لم تعد فاعلة.قراء العدم هنا واضحون،ويقلبون الطاولة على رأس كل فكرة لا تنجم عن زلزال.
-والمرأة..هل وجودها يقع ضمن مناطق الزلزال في حياة الشاعر خليل حاوي؟
**من الممكن استنتاج ذلك.ففي شعري نساء يؤسسن لحالة غير غرائزية.لا يتعاملن مع الجسد كسلعة،بل يحققن وجودهن البيولوجي ضمن القيم التي تخلو من الاستلاب.
-أليس هذا كلاماً سياسياً ببعد أيديولوجي؟
**وما المانع؟!!
-نريد تشريحاً لصورة المرأة في حياة خليل حاوي؟تشريحاً ايروتيكياً بالضبط؟
** ذلك يحتاج إلى وجود قلب في جسد الشاعر.وأنا لا أملك شيئاً من ذلك القبيل.كان في صدري جبل من الصخر الأسود،تتصاعد منه الأدخنة.
-وأين كنت تضع جمر بشهواتك؟
**تارة في حِفر الظلام،وتارة أخرى في رحم الحزب.
-كان خليل حاوي مغرماً بالأساطير.فإلى أين أخذتك المثيولوجيات في حياتك الأولى؟هل سبق وإن التقيت هنا بجلجامش بتموز بعشتار بأحد من هؤلاء؟
**لم يحدث ذلك.الذي تحقق في حياتي هو لقائي بالعنقاء فقط.
- متى حدث ذلك؟!
**لم أحفظ تاريخاً ولم أعرف المنطقة التي كانت مكان اللقاء.ربما لأنني كنت فاقداً للوعي.ولكن العنقاء أطلعتني على ملفات لبنانية تزيد المرء رعباً.
-ربما كانت رؤية أوقعتك بفرائسها؟
**لا أدرك حقيقة ما وقع لي آنذاك.كل ما أتذكره هو إنني والعنقاء احترقنا في تلك اللحظات،ثم عدنا للأرض مرة ثانية.هي ذهبت إلى أعالي الجبال،وأنا لأتحقق من وجودي في الشعر.
-هل تعتقد بأن الأساطير منازل صالحة للشعراء؟
**لا أعتقد بأن من المفيد سكن الشعراء في منازل من ذلك النوع،لأنها ستتعرض للانهيار السريع،نتيجة هوس الشعراء بتضخيم ذواتهم إلى ما فوق الأساطير.الشعراء أكثر الكائنات نفخاً بأجسادهم.كما أن الأساطير لا تتحمل مزاج بعضهم،مما يضطر أبطالها إلى ممارسة رياضة الانتحار.
-وأنت..ألمْ تسكن أحد تلك الأساطير؟
**أنا استخدمت بعضها لغاية استنهاض البشر من تحت قبة الرماد العربي.
-ونجحت؟
**ليس تماماً. فتحريك العقل العربي إلى بضع سنتمترات،يحتاج إلى بلدوزر وليس إلى قصيدة عمودية أو بعض مقاطع من الشعر الحر،ولا حتى إلى قصيدة نثر.
-لماذا كنت غارقاً بالتفاعيل وبالتفعيلات وبعيداً عن قصيدة النثر التي دخل مدارها العديد من أقرانك من شعراء الستينيات؟
**لم أستطع تحديث بواطني بما يتماشى وتلك الحداثة التي سبقتها إلى رأسي.كانت قطع غيار جسدي صعبة التفكيك بفعل الصدأ،ولا يمكن استبدالها بسهولة.ومن هناك،كنت متشبثاً بالإيقاعات،كونها تتماشى مع نبض الدم في العروق.قد أكون ضحية نرجسية شعرية مريضة،ولكن قصيدة النثر لم تكن بقوة تلك الآلام
-هل تؤمن بأن خصوبة الشاعر تنعكس على القصيدة،وهي التي تحدد نسبة الخصوبة في النص الشعري؟
**لا أظن بأن القصيدة حقل زراعي ليتحقق مثل ذلك التصور.
-هل معنى أن كتابك الشعري ((نهر الرماد)) كان يجري في مكان آخر غير جسد الشاعر خليل حاوي؟!
**هل ستشك فيما لو أخبرتك بأنني كنت صاحب جسد ممتلئ بملايين من الثقوب التي لا ترى بالعين المجردة.وبأن شيئاً غامضاً خص خليل حاوي،كأن يكون من هياكل الرماد العارية،تسهيلاً لتطايره من زمن لآخر.
-هل كنت تئنُ فقط،وتنظر إلى رمادك في المرآة وحسب؟
**كانت الريحُ تصفرُ عدماً في كل ممراتي الباطنية.
-ولم تنقذك الفلسفة من تلك الزلازل أو من توابعها؟
**الفلسفة أغرقتني بآلامها التي لا يقوى عليها إلا العتاة كما أعتقد.ومع ذلك كنت منتشياً بمفاصل الفلسفة وأدواتها التي أتيت بها للشعر، بعد مراحل من القفر الذي عانى منه الشعر العربي.
-أنت كتبت لعامة الناس،ولم تخصص النخب الأدبية.هل كنت ترى فضيلة فيما فعلته؟
**كنت قديماً.. وكلما أشرعت بكتابة قصيدة،أرى الحزب يقفز من رأسي،ليراقب ما كان يجري على الورق.كانت تثقلني الأجراس وكنت مستعبداً للإيقاعات المحمومة بالسياسة.بعبارة أدق:كنت مخلوقاً هائجاً من دون حدود.
-والآن وأنت في هذا الفضاء المطلق،حيث تجلس على الحدود ما بين الجنة والنار،ما الذي تفعله؟
**أنتظرُ أن يُفتح لي باب فأمرُ لأنام.لقد ضجرت من الانتظار بين طبقات الأكوان.
-هل ثمة فنادق للنوم كما تظن هناك؟
**حتى لو لم تكن هناك،فربما سأستعين من دانتي سريراً،لأحرق عليه كل ما بي من مخلوقات تائهة وضالة ومجنونة.لا أظن بأن جسدي الذي استعاد بعض القوة هنا،سيدوم في قلقه إلى الأبد.
- ألمْ تشعر بأنك تخلصت من كل تلك الآلام بالانتحار الذي أقدمت عليه يوم كنت على الأرض؟
**اعتقدت ذلك في البداية.إلا أنني وبعدما نفذت الانتحار، وجدت أمامي سلسلة طويلة من الآلام،لم تستطع طلقة الانتحار وضع حل لها.
- هل يعني ذلك بأن عليك القيام بأكثر من عمل انتحاري حتى في هذا المكان؟
** ربما.
-من الشخصية الأقرب إليك في الانتحار:ماياكوفسكي أم جاك فاشيه؟
**ماياكوفسكي بالطبع.
-لماذا تراه الأقرب إليك؟
**لأنه شاعر لم يقدر على تنقيح الأيديولوجية من الحديد. ومثلما كان مشوشاً بالسياسة والمطارق الفكرية المُحَطِمة للعظام،ذهب مشوشاً بزعيق الشغيلة دون رأفة بنفسه ولا بتلك القطعان البشرية الهائجة برياح الثورة.
-وكأن الشعوب لم تحم شعراءها من طواحين الطغاة! لماذا يحدث ذلك يا ترى؟
**الشعوب في العالم العربي أشبه بأكياس رمل،مرة تستعملها الأنظمة لتكون سواتر تلبدُ خلفها من الرصاص المتطاير..ومرة أخرى تخلطُ الأنظمةُ تلك الرمل بدقيق القمح،وتترك للشعوب حرية عزل المادتين عن بعضهما،لتوفير طاقة العيش دون الانشغال بالحرية الحمراء والابتكارات الأخرى الخاصة بالعدالة والديمقراطية والثورة.
-أليس هذا من الاعترافات المتأخرة من شاعر حزبي كان مبهوراً بثورات الشغيلة مثل خليل حاوي؟!
**لا أعتقد ذلك.فما من وقت بمتأخر على الإطلاق.الثورة دائمة،ولكنها تنامُ في بعض الأوقات من أجل الحفاظ على الكولسترول الفكري الذي يحافظ على لياقة الجسم العام للأمة السورية،بما يحصن الدم من التجلط أو الجفاف.
- هل لأنك شاعر ميثولوجي،تفتح أبوابك للأساطير؟
**الميثولوجيا تطريزٌ للشعر.ولا يمكن لشاعر عربي أو عالمي من الانتحاء جانياً،ومغادرة العوالم الأسطورية.ربما لأنها جوهر الخيال.
-ولكن ذلك لم يسجل نجاحات باهرة.شعراء كثر،فشلوا باستخدام الأساطير،حتى أصبحت عبئاً على النصوص.
**هذا جائز.ولا أختلف عليه.
-هل التقيت بأحد من أبطال الأساطير هنا؟
**في أثناء نزولي إلى العالم السفلي وجدت العراف ((هيلينوس)) يتحدث مع ((انياس)) باكياً.
-وهل عرفت سبب ذلك البكاء؟
** أبداً.لم أكن فضولياً لمعرفة شيء.ولكنني لمحت هرقل واقفاً عن بعد،وهو يراقب الاثنين.
-إذا ما حاولنا الخروج من العوالم الأسطورية،ودخلنا المجال الحيوي للشاعر خليل حاوي..ماذا نجد عنده في هذه اللحظة؟
**ليس عندي شيء لأربحه أو أرتاح في حضرته غير الكآبة.كأنها نبتة تمتد من داخلي حتى خارجي وإلى ملايين القرون.
-ألا تطهرها نارٌ على سبيل المثال؟
**لم يجرب أحدٌ النارَ في هذه المناطق بعد.الله يمنع استعمال النار هنا في الآخرة.