خليل حاوي.. طلقة في الرأس قطعت الجســـــــر

خليل حاوي.. طلقة في الرأس قطعت الجســـــــر

د. حاتم الصكَر
ناقد واكاديمي عراقي
في مثل هذا الشهر ـ يونيو ـ عام 1982 وعلى وقع الاجتياح الإسرائيلي لبيروت أطلق الشاعر خليل حاوي من بندقية صيد طلقة باتجاه رأسه منهيا حياته التي بدأت بولادته في الشوير عام 1919.
كان دوي الطلقة أشد من دوي قصائده التي حفلت بالرهان على الانبعاث والتجدد التموزي الذي أخذ هيئة رمزية لافتة في شعره، قرّبته من شعراء الحداثة ممثلة في تجمع مجلة"شعر”،

رغم اختلاف أسلوبه في كتابة القصيدة عن منهجهم القائم على كتابة الشعر نثرا، ما أدى إلى افتراقه عنهم مبكراً.
ربما كان يجمعه بهم دراسته في كامبردج، واللغات التي يجيد قراءة الأدب والفلسفة بها، واهتمامه بجبران الذي كتب عنه أطروحته الجامعية، واحتفاءهم بالرموز الانبعاثية التي تتسلل من فكر سياسي ـ قومي اجتماعي ـ هيمن على أغلب رواد"شعر"في حينها في الثلث الأخير من الخمسينيات، التي صدر فيها ديوانه الأول"نهر الرماد"1957، وأغلب قصائده مكتوبة بين بيروت وكيمبردج، وكما يشي عنوان الديوان فالرؤية هنا تتأرجح بين الموت والانبعاث، بين قطبين رمزيين متعارضين: النهر محيلا إلى مائه الحي الدافق المتجدد، والرماد المشير إلى النار المطفأة التي كان عليها قبل الموت.
الرهان.. قبل الطلقة
تلك الحقبة التموزية شهدت رهان خليل حاوي على (فرخ نسر يطلع من نسل العبيد) كما يقول في (الجسر) آخر (أناشيد) نهر الرماد.
كان ذلك الرهان الذي ستنهيه الطلقة الحزيرانية ـ نسبة إلى حزيران الاجتياح لا حزيران النكسة الأسبق! معقودا على القادمين من الجيل أو النسل بالمعنى الفني لا الخلدوني، أي الرمزي المغيّر لا التاريخي المتعاقب، ولهذا أهدى حاوي الديوان كله (إلى الطليعة المقبلة) وأثبت أبياتا مشهورة من (الجسر) في عتبة الإهداء لتعبّر عن تضحيته لقدوم تلك الطليعة من أفراخ النسر، وتلخص رؤيته للقادم من الوضع الحضاري لشعبه إزاء الواقع المتبلد والمتوقف زمنيا عن عصره:
(يعبرون الجسر في الصبح خفافا/ أضلعي امتدت لهم جسرا وطيد/ من كهوف الشرق، من مستنقع الشرق/ إلى الشرق الجديد)
ثمة شرقان إذن يفصل بينهما الجسر الذي سيعبره القادمون خفافا لا تعيقهم عوائق، شرق قديم رمز له بالكهوف والمستنقعات، بالظلمة والركود، وشرق جديد مضيء وعامر بالحياة: بالأعياد والحصاد والطيوب.
وإذا لم يكن للشاعر نفسه نسل بين هؤلاء العابرين فسيكفيه أنهم جمر يتدفأ به ويستضيء في المعاد الثلجي، وهم طعامه وشرابه في مهرجان حبهم الممثل بالحصاد.
هذا التفاؤل والرهان سينهدّ ويفشل. يعلن الشاعر قبل انتحاره ـ في أحاديث كشفت عنها ديزي الأمير ـ عن تلك الخيبة"حينما استرجع قصيدة الجسر أشعر بالحزن، لقد أعطيتهم عمري وذهبوا عني. وإذا قرؤوا القصيدة أو تذكروها فلا يصرفون عليها سوى دقائق”.
لم تتوفر إذن الأيدي التي تُطلع الحصاد، ولم يأتِ النسل الذي يثور على عبودية السلالة ويستبدل بها حرية النسر وقوته وعلوه. لم تأتِ النار التي تضرب الأرض فتفجّر بواطنها وتُظهر خزائنها وتمنحها عمرا جديدا. لا قيامة على الأرض كما في الأسطورة التي تبناها الشاعر وراح يقيم لها طقوسا ويبشّر بها كوعد، مسقِطا تفاصيلها ودلالاتها على أرض الحاضر وفضاء المستقبل.
الإفصاح بقطع الوريد
شعرياً أعلن حاوي عن خيبته في نبوءة استباقية عن موته القادم، والكيفية التي تم بها:
“فلأمتْ غير شهيدْ/ مفصحا عن غصة الإفصاح/ في قطع وريدْ”
المعادلة التي يعرضها المقتطف السابق تمثل إعادة نظر في جدوى الإفصاح ـ المقصود بوساطة الشعر ـ وضيقه بالعالم البديل المجتلب من الأسطورة والافتراضات الخيالية التي يجمّلها الرمز، ويسبغ عليها معقولية وانضباطا ممكنين داخل القصيدة، فلا تظل للشاعر بعد هذا الكتم والتكتم إلا فرصة وحيدة هي الإفصاح عن تلك الغصة بقطع الوريد، اختزالا لفعل الانتحار واستكمالا لأسطرة حياته تماهيا مع شعره.. فكأن الدم المتفصد والنازف بسبب قطع الوريد سيقطع بالضرورة دم الشعر عن جسد القصيدة وينهي حياتها، فيتبادل جسد الشاعر وجسد القصيدة مصيريهما، وهنا نتساءل: أيمكن أن نعدّ اندفاع قصيدة حاوي اللغوي والصوري والإيقاعي نزفا شعريا وقطعا لوريدها بديلا للإفصاح الذي لم يتم؟
لقد كان حاوي متمسكا بإيقاعات ضاجة تمثلها التفعيلات المتزاحمة في شعره، والموقّعة على بحر الرمل وتفعيلته التي تقتسم اغلب قصائده بجانب القافية التي يصر على استحضارها بنظام صارم لتشكل مع التفعيلات والأبيات الطويلة محور إيقاعه وموسيقاه الشعرية التي تؤازرها لغة تتميز بالهيجان والتداعيات والصور الجارحة.
لكن المحير في حالة خليل حاوي اتكاؤه على الفكر والفلسفة والمسائل الكونية الكبرى في شعره، مع اعتماده هذا الطوفان الإيقاعي الجارف الذي يسلب المتلقي شعوره بما تؤديه الرموز والأساطير والبناء الفني للقصيدة.
فقصيدة حاوي كلية متعالية لا تعتني بالتفاصيل اليومية والموضوعات المألوفة، بل بالانبعاث الحضاري والصدام الفكري.. وكليتها تكمن في رؤيتها الشاملة التي تنتظم أجزاءها. بذلك يؤسس حاوي للقصيدة ـ الديوان فعمله هو خمسة عشر نشيدا لكل منها عنوان.
طقوس وتعازيم
مما يميز الجسر وأناشيد"نهر الرماد"الأخرى ذلك الجو الطقسي المحيل إلى القرابين والتعازيم التي ترافق الابتهالات والأعياد القديمة التي حفظتها اللقى والمدونات الآثارية لا سيما في بلاد الرافدين وبلاد الشام، وفي المدوّنات الدينية المعضدة لرؤية الانبعاث والقيامة، والمستندة إلى طقوس وابتهالات وجد فيها خليل حاوي ما يقوي دعوته للتجدد والقيامة من الموت فراح يرتل دعوات وصلوات شعرية وردت في قصائد من الفترة التي كتب فيها (الجسر) وأناشيد مكملة للنشيد في الديوان الأول كقوله:"تصلي وتعيد: يا إله الخصب يا تموز يا شمس الحصيد/ بارك الأرض التي تعطي رجالا/ أقوياء الصلب نسلا لا يبيد/ يرثون الأرض للدهر الأبيد"ويختمها مكررا ثلاث مرات جملة: بارك النسل العتيد.
ورود المفردات الغريبة كالحصيد والأبيد وسواها من أناشيد"نهر الرماد"تجسيد لذلك التوق للتعزيم وإكساب الملفوظ الشعري روحا طقسية تتردد بين الأسطورة والسحر، والنشيد التعبدي والدعاء. بل يمكن تأمل تسمية الشاعر للقصائد بالأناشيد، وفصل بعضها عن بعض بالعناوين والمقدمات أحياناً، لنرى كيف يؤطّر خليل حاوي قصائده بالحس الجمعي الذي يتطلبه البناء الأسطوري باعتبار الأسطورة تأليف جماعة وبكونها تعبيرا عن قلقهم وشوقهم أيضا.
لمحات سردية
في جملة الاستهلال الشعرية (وكفاني) يحيل الواو الذي يبدأ به النشيد الختامي (الجسر) إلى ما قبله أو إلى محذوف متواطَأ عليه بين الشاعر وقارئه. مادام ذاك الذي سرد في الأناشيد الأربعة عشر قد أصبح راهنا في النص وماثلا في الوعي: ومادام قد تبين الخراب وجنايات سدوم، وحصار جوف الحوت، وابتذال الجسد والروح، وضرورة النار للتطهر والبدء، فقد واصل الشاعر نشيده بالإجابة، لا سيما وقد أنهى النشيد السابق على الجسر بقوله:"فارس يولد من حبي لأطفالي/ وحبي للحياة، لتحلَّ المعجزاتْ.."فيكون الكلام في الجسر مستأنَفا من حيث انتهى النشيد السابق. ويمتد الحدث فيقول الشاعر مفتتحا (الجسر):"وكفاني أن لي أطفال أترابي/ ولي في حبهم خمر وزاد”.
وتؤكد نزعة السرد في الأناشيد تلك المحاورات والمخاطبات وأبرزها مع بومة التاريخ التي تريد أن يجمد الزمن، ولا تتحرك أجزاؤه فهي تنتمي للتاريخ لا الماضي، وللعمى لا البصيرة.
لقد كانت قصيدة خليل حاوي جمعا غريبا بين رومانسية واضحة في حرية الخيال والافتتان بالصورة، وبين العقلنة المجسدة للصراع بين القديم والجديد، والموت والقيامة، والفكر والعاطفة كما هي شخصيته التي تجمعت فيها حضارة الغرب والذات العربية، والعصامية والتعليم، فكانت الطلقة التي أنهى بها حياته هي آخر تلك المحاولات للجمع العسير: طلقة تفصل بين شرقين: قديم مغلق بكهوفه وأدرانه، وشرق جديد لم يتضح كنهه بعد؛ فطواه الغيب في عماء المجهول.
الجســــــــر
وكفاني أن لي أطفالَ أترابي
ولي في حبهم خمر وزادْ
من حصاد الحقل عندي ما كفاني
وكفاني أن لي عيد الحصادْ
أنّ لي عيدا وعيدْ
كلما ضوّأَ في القرية مصباحٌ جديدْ
غير أني ما حملت الحب للموتى
طيوبا، ذهبا، خمرا، كنوزْ
طفلهم يولد خفاشا عجوزْ
أين مَن يفني ويحيي ويعيدْ
يتولى خلقه طفلا جديدْ..
يتولى خلق فرخ النسر من نسل العبيد..
يعبرون الجسر في الصبح خفافا
أضلعي امتدت لهم جسرا وطيدْ
من كهوف الشرق، من مستنقع الشرقِ
إلى الشرق الجديدْ
أضلعي امتدت لهم جسرا وطيدْ
“سوف يمضون وتبقى
فارغ الكفين، مصلوبا، وحيدْ
صنما خلَّفه الكهان للريحِ

التي توسعه جلدا وحرقا..”
اخرسي يا بومةً تقرع صدري
بومة التاريخ مني ما تريدْ؟
فرحي في كل ما أطعمتُ
من جوهر عمري
فرح الأيدي التي أعطت وإيمان وذكرى
إن لي جمرا وخمرا
إن لي أطفال أترابي
ولي في حبهم خمر وزادْ
من حصاد الحقل عندي ما كفاني
وكفاني أن لي عيد الحصادْ
يا معاد الثلج لن أخشاكَ
لي خمر وجمر للمعادْ

*عن جريدة الاتحاد الاماراتية