الفارو موتيس.. الكاتب الذي قدم أغرب الشخصيات الإبداعية في الرواية الإسبانية

الفارو موتيس.. الكاتب الذي قدم أغرب الشخصيات الإبداعية في الرواية الإسبانية

محمد محمد الخطابي
تسلم الكاتب الكولومبي الفارو موتيس الفائز بجائزة سرفانتيس الأدبية الاسبانية لعام 2001 والتي تعتبر بمثابة نوبل في الآداب الناطقة في العالم الايبرو اميركي الجائزة من العاهل الاسباني خوان كارلوس اوائل شهر ابريل (نيسان).

ولم يشكل فوز الفارو موتيس بهذه الجائزة أي مفاجأة في الأوساط الأدبية الاسبانية نظراً لما يحتله الكاتب من مكانة مرموقة في عالم الخلق والكتابة والابداع حتى أصبح من أبرز الرموز الساطعة في سماء الآداب الاسبانية في العالم الناطق بهذه اللغة الواسعة الانتشار الى جانب ابن جلدته جابريل جارسيا ماركيز، والمكسيكيين اوكتافيو باث، وكارلوس فوينتيس، والأرجنتينيين خورخي لويس بورخيس، وبيوكا ساريس، والتشيليين بابلو نيرودا وخورخي ادواردز (الفائز بنفس الجائزة في عام 2000)، وسواها من الأسماء الأخرى اللامعة في فضاء الابداع الأميركي اللاتيني.

هذا الرجل الرحالة المغامر المسافر الحالم والبحّار، هذا المبدع لعوالم أدبية متنوعة وخالق شخصيات خيالية تجري مصائرها وهواجسها مع الرياح وعلى انغام وقوافي الأشعار والقصص والحكايات والأساطير الغريبة.. هذا الكاتب الذي تتميز رواياته بذكاء خارق، وتطبعها عواطف جياشة، وروح مغامرة متجددة حيث يقدم لنا من خلال كتاباته فلسفته في الحياة ونظرته اليها ومواقفه منها ومشاعره حيالها على لسان شخصية أدبية فريدة تعتبر من أغرب الشخصيات الابداعية في الآداب الاسبانية في القرن العشرين، وهي شخصية «ماكرول ألجافييرو"التي جعلت من ألفارو موتيس كاتباً ذا شهرة عالمية منذ ان وضع أول كتاب له بعنوان «الميزان"(عام 1947) الذي كان يبشر بولادة كاتب كبير، ثم في كتابه «عناصر الكارثة"(1953) الذي كان يبشر بولادة كاتب كبير، اذ ظهر اسم الشخصية الخيالية ماكرول الجافييرو الذي خلده في عالم الآداب الاسبانية حيث ظل شبيهاً «بكتدرائية ترسب او ترقد في أعماق المحيط"على حد تعبير رئيس كولومبيا الأسبق «بيتا نكور» الذي كان عضواً هو الآخر في لجنة التحكيم التي خصت موتيس بهذا التكريم.
أصوات وشهادات

* وماكرول الجافييرو هذا مسافر يمتطي صهوة جواده كفارس مغوار يجوب عالم الخيال، ويسبح في سديم الذاكرة وهو يعكس بشكل او بآخر مشاعر ولواعج موتيس نفسه. ان بطله يتطلع الى سبر كل مجهول وتجاوز كل الحدود واختراق كل الآفاق وهو يقطع البحار الواسعة، ويزور مختلف الأصقاع النائية والعوالم المعروفة والمجهولة على حد سواء باحثاً عن نفسه او عن خياله او عن ظله، او عن ذاكرته او عن فراديسه الضائعة، وهو يجر معه آلاف القراء الذين يقتفون اثره في شغف ولهفة وتطلع وفضول. وعنه يقول مخترعه موتيس: «انه حتى وان كان شخصية من نسج الخيال إلا انه قد أصبح مستقلاً عن صاحبه»، انه شخصه الآخر لا يثير له غير قليل من الفتن والقلاقل والمحن والمشاغل حتى وان كان موتيس هو منها براء! وتغدو حياته في هذا القبيل شبيهة بحياة سرفانتيس نفسه الذي عاش وواجه هو الآخر متاعب مريرة وتجارب مرعبة سواء في حياته الواقعية او في حياة شخصياته الأدبية وعلى رأسها بطل «دون كيخوته دي لا مانشا» (والكلمة الأخيرة من الاسم العربي المنشأ).

موتيس رجل غارق في عالم المدارات، امتهن العديد من المهن والأعمال في مختلف انحاء العالم حيث عمل مديراً لشركة تأمين في كولومبيا، ومسؤولاً للعلاقات العامة لشركة الطيران لانسا، كما عمل في شركة للبترول في بلده عام 1954 حيث هاجر او فر هارباً ـ من تهمة اختلاس ـ الى المكسيك على اثر مشاكل مالية عرفتها هذه الشركة، ثم وقع في يد العدالة وتم سجنه لمدة 16 شهراً عرف او اكتشف خلالها اقسى معاني المرارة والمعاناة.
وعنه يقول الباحث الاسباني خوسي جارسيا فيلاسكو «انه أحد أكبر الأصوات الأدبية في هذا القرن، وانه لشرف كبير ان تجرجر جائزة سرفانتيس اذيالها اليه وليس العكس»! ويقول الناقد فيكتور يانو جارسيا (كان عضواً في لجنة التحكيم كذلك): «ان اسطورة بطله ماركول، الذي ما زال يسبح في بحر مغامراته تلخص لنا مفاتيح وأسرار أدب موتيس وهي: اللغة الشخصية الخاصة به التي يتميز بها هذا الكاتب الحماسي والملحمي والروائي، ثم قدرته الفائقة على الخوض في عالم الخيال الذي يتحول على يديه الى واقع معيش ملموس، او على العكس من ذلك، قدرته على سبك وتشكيل الواقع وتحويله الى خيال طليق ومجنح قادر على التأثير والأخذ بمجامع القراء من أي نوع او في أي صقع كانوا، هذا اضافة الى تكوينه الثقافي الواسع والمتنوع الذي يثري به عالمه الروائي الذي يتجلى لنا فيه بشكل واضح انعكاس لشخصيات شكلت نوعاً من الانشغالات لدى الكاتب، حيث نجد في هذا العالم سان لوي عاهل فرنسا، نابليون، فليبي الثاني، وفراديسه بولينسا، الساحل الاغريقي، مرآة الأندلس واشعاعها الحضاري الوهاج، هذا كما تطفو على سطح خياله شخصيات أخرى عديدة لا حصر لها تشرئب بأعناقها الينا من بين الصفحات، وهي شخيات تركض أبداً الى جانب ظل ماكرول مثل «ايلونا» وفلور استفيث، وويتا، وابن البصير او عبد البصير».
ويقول الشاعر المكسيكي خوسي اميليو باشيكو: «لعله الكاتب الأميركي اللاتيني الوحيد الذي أمكنه ان يضع عملاً أدبياً رائعاً في قطري الشعر والرواية، فقد أمكنه ان يواجه او يستكمل في آن واحد هذا العالم او ذاك، بل لقد امكنه ان يزيد هذين العالمين ثراء واشراقاً، ذلك ان القول بأن جميع أعمال موتيس شعرية يعني ذلك اننا ننتقص من الرواية والعكس صحيح، هو روائي من طراز رفيع، كما انه احد كبار شعرائنا المحدثين في الوقت ذاته، ان أعماله تجوب البحار بحثاً عن المغامرات الانسانية في عوالم تهطل فيها امطار بروكسل على الأودية الاستوائية، وهو بين الشجيرات المتداخلة ومزارع القهوة المتشابكة يقيم لنا قصور مدينة البندقية الجميلة التي ما ان تعلو بناءاتها في الفضاء حتى تغرق في بحر الأدرياتيك!».

ويضيف باشيكو: «اننا منذ المأساة الاغريقية نعرف انه ليس هناك مفر ولا مهرب لنا من التعاسة والشقاء، ان الروائي مارسيل بروست، الذي يحظى باعجاب موتيس نفسه، كان يتحدث عن الزمن كما لو كان يتحدث عن وحش ذي رأسين، فهو خالق ومدمر في آن واحد حيث كل شيء يتقدم نحو نهايته المحتومة، إلا اننا نعيش قبل ذلك لحظة ازدهار وإشراق لا يمكن قنصها او تصويرها الا من طرف فنان مبدع مثل ألفارو موتيس».
ماكرول: رمز أدبي معاصر

* هذا البطل الذي وجد نفسه وسط الأدغال الموحشة في ليلة حالكة بين اشجار عملاقة تحيط به من كل جانب يغلفه صمت قاهر مبلول تشيعه اوراق اشجار الموز البري، في هذا الجو المرعب عرف ماكرول الخوف، الخوف من بؤسه الكتيم، من فراغه القاتل وهو يسترجع أمامه سنين طويلة من المعايشات الطويلة، تاريخا، قصص غريبة، مناظر خلابة تترى نصب عينيه ليلة كاملة فجرها بعيد وهو ينظر، وينتظر ويترقب انهيار آدميته وغرقه بين لجج عالية عاتية في بحر جنونه وخبله! هذا البحار التائه ملأه الفضول وهده اليأس، تجيش بصدره مشاعر وتدور بخلده مشاغل وتتفجر في صدره آهات انه مثلما يأخذ معه موتيس الى أبعد اصقاع الدنيا، ومراتع الخلوة وأعالي البحار، فانه كذلك يأخذه معه الى أعمق الغوار النفس البشرية المعذبة والمكلومة في رحلة استغرقت زهاء خمسين سنة، بدأت شعراً ثم انتهت رواية متداخلة متشابكة متعانقة في ما بينها.
ان الكاتب موتيس يوصي القارئ من خلال رواياته السبع انه هو كذلك كان بحاراً ماهراً وانه تسلق مرات عديدة صواري وأعمدة المراكب والسفن وأطلق اشرعتها في الفضاء وسط التوابع والزوابع والعواصف والأعاصير والرياح وهو يتطلع نحو الأفق البعيد ويرى ما لا يراه زملاؤه في أسفل السفينة.
ولقد شكلت شخصية ماكرول الجافيرو محور جميع أعماله الروائية، هذه الشخصية الأدبية الغربية الأطوار وصل بها الأمر ان ماتت في احدى ابداعات المؤلف، إلا انها سرعان ما عادت للانبعاث من جديد في أعماله الأخرى وذلك بعد ان هدده أحد خلانه وهو الكاتب والشاعر التشيلي غونسالو روخاس، بأن يرفع ضده دعوى في احدى المحاكم اذا لم يعمل على بعث بطله مرة أخرى. وهكذا سرعان ما عاد ماكرول الى الظهور من جديد على صفحات اعمال موتيس، عاد اكثر قوة ونضارة ومغامرة وخبرة في شؤون البحار والترحال، يرتاد البيوت السيئة السمعة في كل المرافئ والموانئ التي ترسو فيها سفنه، ومع ذلك هو قارئ جيد، ملتهم للمخطوطات القديمة وكتب الرحلات والمغامرات والتاريخ. ولقد اصبح ماكرول بشخصيته هذه الفريدة رمزاً أدبياً معاصراً في لغة سرفانتيس وهو ليس بالضرورة «الأنا الآخر» لصاحبه، كما انه ليس بالضرورة ناطقاً باسمه إلا انه خلاصة آلام وآمال وأحلام دارت برأس موتيس ذات ليلة أو يوم.
بين غارسيا ماركيز والفارو موتيس

* لقد اعترف الكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز (نوبل في الآداب) انه ما كان له ان يكتب أي عمل من أعماله الأدبية الناجحة لولا انها لم تحظ منذ البداية بتزكية صديقه الفارو موتيس منذ امد بعيد، حيث كان مركيز يقوم بقراءة بواكير أعماله عليه او يقصها له ثم بعد ذلك يعمل على نشرها فيما بعد. ولقد أهداه ذات مرة قصة «بيدرو بارامو» للكاتب المكسيكي خوان رولفو وهو يقول له: «خذ وتعلم!». واعترف بعد ذلك جارسيا مركيز انه منذ قراءته لرولفو استفاد الكثير حيث يعترف صراحة في أحد عروضه عن الفارو موتيس بمناسبة بلوغ هذا الأخير السبعين من عمره ـ انه بقراءة رولفو لم يتعلم فقط كيف يكتب بشكل آخر، بل تعلم كذلك ان تكون عنده دائماً قصة جاهزة مغايرة حتى لا يحكي ما كان قد كتبه من قبل. ويقول مركيز: «وكما أدخلني ألفارو موتيس في هذه المحنة فقد أخرجني منها كذلك حيث انني منذ ان كتبت «مائة سنة من العزلة"كان يتردد على منزلي كل ليلة تقريباً على امتداد 18 شهراً، وكنت أحكي له الفصول التي أنهيت كتابتها وألمس انطباعاته وانعاكاسات ما قرأته عليه، حيث كان يصغى الي باهتمام وحماس بالغين، وكنت أغير. وكان اصدقاء موتيس يحكون عليّ هذه القصص بنفس الطريقة التي حكيتها له، وفي بعض الأحايين كن أنسب لنفسي بعض اضافاته». ويشير ماركيز الى ان موتيس منذ ذلك الوقت «كان هو اول قارئ لأصول أعماله وكانت بعض احكامه عليه قاسية ولكنها في الوقت نفسه كانت معقولة. ولقد أفضت هذه الأحكام في بعض الأحيان الى موت او هلاك ثلاث قصص من قصصي في سلة المهملات»! ويضيف ماركيز انه يجد في العديد من أعماله كثيراً من تأثيرات الفارو موتيس، بل انه يجد فيها موتيس نفسه.

عن جريدة الاهرام المصرية/ 2009