دلالات الحدث في      سيف يهوذا      لفاروق السامر*

دلالات الحدث في سيف يهوذا لفاروق السامر*

يوسف علوان
يعتبر عنوان الرواية"مدخلا أساسياً في قراءة الإبداع الأدبي والتخيلي بصفة عامة، والروائي بصفة خاصة. ومن المعلوم كذلك أن العنوان هو عتبة النص وبدايته، وإشارته الأولى. وهو العلامة التي تطبع الكتاب أو النص وتسميه وتميزه عن غيره".

لذلك رغبت ان اتحدث عن عنوان الرواية"سيف يهوذا"وما يعنيه في احداث الرواية التي تتحدث عن ثلاث شخصيات نسائية تتمحور حولهن الأحداث؛ (جواهر) الشخصية الاساسية و(فرجين) الصديقة، ثم (فريدة). أحداث الرواية تدور حول الحرب العراقية الإيرانية وما تعرضت له المدن العراقية حينها من تغييرات. وكان لبعض المدن القريبة من الحدود معاناتها مع هذه الحرب التي لم تكن لتلك المدن يد فيها!..
aلقد اراد الروائي ان يرسم صورة لمعاناة البصرة، اثناء الحرب العراقية الايرانية، التي استمرت ثماني سنوات، من قصف وهجمات بالمدفعية والصواريخ بعيدة المدى (صواريخ ارض – ارض) من قبل الجيش الايراني في تلك الفترة التي اعتبرت اسوأ الفترات التي مر بها العراق، لما خسره من ضحايا؛ ليس في افراد جيشه فحسب، وإنما اعداد كبيرة من مواطنيه الآمنين في مدنهم وقراهم. وكانت للبصرة الحصة الكبيرة من هذا التدمير الذي استهدف البلاد والعباد، كانت في حقيقة الأمر سوداء وأليمة على ابناء الشعب العراقي.
استطاع الروائي من خلال سرد حياة (جواهر)، وما لقته من اعتداء جماعي (من الغرباء) تصوير محنة البصرة، خلال سنوات الحرب هذه. وحتى زواج جواهر من رجل يكبرها بالسن وهو مريض وعاجز، هو ايماءة لما كانت تعانيه البصرة، من قبل حكامها، ـ البصرة صورة مصغرة للعراق ـ الذين عجزوا عن توفير حمايتها بعد ان تورطوا في معاركهم العبثية. وما تعرضت له في هذه الحرب، بسبب موقعها؛ كونها محاذية للحدود الإيرانية، ولقربها من المدن الإيرانية. لذلك كان نصيبها كبيرا من عمليات التدمير تلك، وكانت المدفعية الإيرانية تضرب هذه المدينة الحبيبة بكل قسوة وبقصد تدميرها..
أحداث الرواية تجري في فترة قصيرة جدا لا تتعدى الساعات، لكن الروائي استخدم طريقة الاسترجاع في استذكار الأحداث السابقة التي مرت بها جواهر وربطها بشكل محكم مع اللحظات التي كانت تعيشها على وقع القصف المدفعي الذي كان يقع على منازل هذه المدينة، فيدمرها بيتاً بعد بيت."حين أفاقت من ذهولها بعد حين، تحوّل الانبهار الذي اصابها الى نوع من الهول والرعب، وهي تحملق على غير إرادة منها، بالجزء المصاب من الدار، والضرر البليغ الذي أحاق به كأنها تراه للمرة الأولى، فأدركت بأن الضوء الزائد المتفجر الذي يفيض على المكان ويغرقه بموجاته الطويلة الراجفة، هو الذي جعله يتجسد بهذا العري والوضوح.. كانت ستارة البيت الأمامية قد انهارت كلياً، وكان الضرر قد دخل الدار وأحاق اذى متفاوتاً في كل جانب من جوانبه، بينما تبططت وتفطرت غالبية جدرانه، فارتاعت من تلك الفطور". (ص9)
وظف المؤلف خروج جواهر في مثل هذه الظروف، للذهاب الى بيت فريدة من أجل إعطائها الدواء الذي تحتاجه، ليصور لنا حال شوارع البصرة وأحيائها وما شهدت من تدمير وقصف. شوارع خاوية، لا تسكنها الا الأشباح، والموت الذي يتجول في هذه الشوارع.
"كانت المسافة الفاصلة بين"حي صنعاء"الذي تقطنه و"حي عمان"الذي تقصده، تتكون من عدة شوارع فرعية، وعدة انعطافات حادة... ما أن قطعت من الطريق سوى مئات الأمتار حتى برزت أمامها كالأشباح المترصدة، الكثير من الأنقاض والحفر والكثير من البرك الآسنة التي سببتها مياه الأنابيب المتفجرة"(ص31)
وقد أجاد الكاتب في رسم الصورة المؤلمة التي تعيشها المدينة من خلال متابعة ما تراه جواهر من مشاهد تثير فيها الألم، لما تتعرض له مدينتها:"شاهدت بعينها الكثير من سيارات"الايفا"العسكرية والحافلات وهي تجوب الشوارع والأزقة الخاوية في الجوار، ويتم التسلل الى البيوت المهجورة او اقتحامها ونهب ما هو ثمين فيها.. كما شاهدت الكثير من الغرباء يفعلون ذلك ايضاً؛ وهي لم تكن ترغب في الركض والضياع في المدن المجهولة الأخرى، وان تتيه وسط ناسها وأخلاقها وعاداتها التي لا تفقه منها شيئاً، لكنها تدرك الان بان اعتصامها في دارها لم يحفظها من هذه الإصابة الشنيعة وهذا الدمار. (ص10)
وإضافة لهذا الدمار الذي أصاب المدينة بسبب هذه الحرب الهوجاء، التي لم تأت الا بالخراب على الناس وبيوتهم.. لكنها تحس الخراب الاشد ألما،ً وهو الخراب الذي في داخلها:"امرأة دائخة ممزقة وقد حطمتها الإخفاقات المتتالية وسحقتها الخيبات المتكررة". (ص11)
"فشلها في زواجها من رجل يكبرها في السن ومريض، لا يكف عن الانين والسعال ولا يعيرها اهتماماً، ربما بسبب امراضه التي فتكت به وأنهكته كثيرا". (ص20)
وبألم تتذكر:"حين اقتيدت الى عش الزوجية وسط دوار العطر والهلاهل والزغاريد، ومرت بالصدمة المخدرة، وافاقت منها بعد حين، أدركت ورطتها الصعبة، ومأزقها الشائك، نشأت لديها تدريجياً علة (عدم الرضا) كالورم الخبيث ليس لها حل الا بالقطيعة.."(18)

وبسبب هذه الحالة التي تعانيها مع زوجها المريض، تتعلق جواهر بـفريدة (صديقتها وقريبتها) وزوجها:"هذا الكائن الفلسفي الفريد ذو الحس المرهف والمشاعر الفياضة"(ص20). لقد أحبتهما وأحباها، وهي التي بحاجة الى تعويض حقيقي يخفف عنها شعورها بالفشل.."كانت تذهب اليهما عصراً ماشية على قدميها عبر الأزقة الفرعية الأليفة حاملة في حقيبة كتف كتانية ذات حوض واسع، الكتب التي استعارتها والتي عليها إعادتها كي أخذ بديلاً عنها. وبوجود غرفة مكتبته الحافلة دواليبها بمئات المجلدات، تعرفت على الكثير من الكتّاب وقرأت مؤلفاتهم، بينما تستمع في ذات الوقت الى وجهات نظره ونصائحه وتوجيهاته، فأتقنت الصمت والإصغاء وإبداء الملاحظات هذه المرة، ثم الجدل الرصين واتخاذ القرارات الصائبة". (ص20)
"كان يؤجج في داخلها الفتيل الذي راح يخبو قليلا قليلا جراء فشلها الذريع، فيعيد اليها حماسها في الحياة ويدعوها الى التأمل والتفاؤل، وعدم الاعتراف بالهزيمة، والثبات في المواقف الصلبة، والعزيمة في الرأي، فصار بيته مكاناً روحياً تلجأ إليه وقت الضرورة، وصار مرشدها الروحي"ص21.

كان يخاف عليها من أناقتها المفرطة في مثل هذه الظروف التي تعيشها المدينة وكثرة الوافدين الذين أخذوا يملأون المدينة:"حين يفر الرجال خارج الحدود نتيجة الضغوط، فان هذا يصنع فراغاً ويترك الباب مفتوحاً، واذا وجد المنسقون لذلك فقد حلت المشكلة، حيث سيفدون للاستعانة بهم، وسيكونون أصحاب الإرادة والشأن في جميع المجالات، ان وجود هؤلاء الغرباء يسبق الكوارث عادة. إننا مقبلون على كارثة حقيقية على المدى القريب، فقد تمت الاختراقات، وتم التفريط بالقيم، وتم التنكر للمبادئ والأعراف وبيعت بدراهم معدودة في السر، لقد تلوثت الينابيع، وما عادت مياهها صالحة للشرب، كوني على حذر من الغرباء والوافدين منهم يقاتلون بسيف يهوذا مع منسقيهم". (ص20)
في طريقها للوصول الى بيت (فريدة) تشاهد بيت صديقتها (فرجين) وقد طالته نوبات القصف الذي تتعرض له المدينة فتصاب بالذهول خوفاً على أم فرجين و(صهيب) اخ فرجين الذي يقترب عمره من عمر ابنها الذي تخاف عليه من هذه الحرب اللعينة..
البصرة، التي يرمز لها الكاتب بـ(جواهر ـ وما لهذا الاسم من غنىً بمواردها وخيراتها)، الفتاة الجميلة السمراء التي تفقد صديقتها فرجين بشظايا القصف، والتي التقتها قبل عشرين عاماً أمام واجهة احد المتاجر الذي يبيع ويؤجر بدلات الأعراس من الدرجة الراقية، حين وقفت جنبها وهي تسأل بعذوبة ساحرة أخاذة:
"- أليست رائعة؟
فأجابتها وهي تلتفت نحوها مصعوقة:
- رائعة جداً، ولكن غالية الثمن"
وحين اقترحت فرجين ان تعيرها فستاناً لمناسبة زفافها..
ردت عليها جواهر:
"من أين لك ذلك؟ هل تزوجت سابقا وتطلقت؟"
- انه ثوب زفاف والدتي! لقد أرادت أن ارتديه عند زفافي أيضا"
ومن ذلك الوقت لم تترك فرجين ,كانتا متلازمتين دائماً.. غير ان الموت فرقهما فقد ماتت فرجين اثر شظية طائشة إصابتها وهي تنتظر الباص الذي يقلها الى عملها..
جواهر التي تتعرض لاعتداء بعض الأغراب عليها، بعد ان يطلب منها احد أصدقاء زوجها اثناء تواجدها في النادي الذي يجلسون فيه مع زوجاتهم. وبسبب الغيرة التي يثيرها جمال جواهر بين تلك النسوة، يطلب منها هذا الصديق ان تذهب الى عنوان معين لإيجاد عمل لها. غير ان هذا الموعد لم يكن الا مكيدة:"فتسرب الى روحك شعور خافق بالقلق، وساورتك الشكوك من جديد، وبزغ في ذهنك على الفور، الطبيب ذو الكارت الأخضر وزوجته الساحرة"ثريا"والمشاورات والمنادسات التي جرت في السر واكتشفتها بعفوية بالغة، وفكرت بالهروب، إذ تصورت أنهم قادوها الى مؤسسة مشبوهة او وهمية او غامضة المرامي والأهداف". (ص89(
"حين أفقتِ بعد فترة، وعاد إليكِ الوعي تدريجياً، لم يتسرب في قاع ذاكرتك ما حدث بوضوح كامل. كان يتوزع على المقاعد الجلدية في الغرفة المستطيلة الواسعة، ثلاثة من الرجال، راحوا يتصايحون مع بعضهم البعض بأصوات عالية ولهجة غريبة عليك، فعرفت بأنهم غرباء"(ص92).
وعند المنعطف الأخير، القريب من المتنزه، والذي يمثل نهاية القوس الساحل والذي يقودها الى البيت مباشرة، اكتشفت بان الإنارة في الشارع منعدمة، وعتمة الغروب شديدة؛ وأرادت تخفيف سرعتها والتريث في الجزرة الوسطية الهلالية قبل العبور الى الجهة الثانية من الشارع، لكنها لم تتمكن من ذلك، فقد ظل انعدام الإحساس وفقدان الشعور بالأشياء يلازمانها حتى اللحظة التي برزت أمامها من شارع المتنزه المعاكس، شاحنة هائلة صفراء ذات هيكل ثلاثي وإطارات لا حصر لها، وأخذت تستدير معها كلما استدارت،.. وكانت نبوأتها، اللحاق بفرجين عما قريب، تكاد تتحقق الآن وهي ترتطم وتتهشم وتنسحق ويسكت صياح روحها العاوي الحزين الى الأبد". (ص136).
لغة الرواية رائعة، لكن المؤلف عمد (وأنا أتصور انه متعمد في ذلك!) الى استعمال بعض الكلمات الغريبة والدارجة في اللغة العامية، وكانت تشكل نقطة ضعف في لغة الرواية التي كانت رائعة في سياقاتها اللغوية ومثل هذه الكلمات:"المطرطر، تبطبط، الفلكة، عافته، المنخب، فنترتها، مكاراة، تلم، تطلطل"وكان من المستحسن عدم استعمالها لانها لم تضف للغة الرواية شيئاً جديداً. كذلك هناك إفراط في استعمال اقواس التنصيص (") ووضعها في غير مكانها المناسب!
تتألف الرواية من 12 مقطعاً بعناوين مؤلمة، تصور الضياع الذي كانت تعيشه بطلة الرواية
جواهر، لكن البعض من هذه العناوين لم توضع في مكانها المناسب مثل (انني آتية لا ريب)، الذي كان من المفروض ان يوضع في آخر مقطع من الرواية والذي تنتهي فيه حياة البطلة!

ـــــــــــ
* سيف يهوذا رواية للكاتب فاروق السامر صدرت عن دار تموز للطباعة والنشر والتوزيع / 2013 من القطع المتوسط بـ138 صفحة.