مع بسام فرج..حديث عن الوطن والأحبة وأصدقاء العمر...

مع بسام فرج..حديث عن الوطن والأحبة وأصدقاء العمر...

لقاء اجرته اعتقال الطائي
نضحك أحيانا ونحن في أشد مواقف الحزن فنبرر فعلنا استنادا إلى المقولة» شر البلية ما يضحك». هكذا أرى فن الكاريكاتير وبالذات عندما ترسمه يد فنان يعرف ما يريد قوله بالضبط و طرح مايحمل من رؤية وأفكار بشكل ساخر لاذع في أسوأ الفواجع.

لكن الحوار معهم ليس سهلا فلا تستطيع اللحاق بمخيلتهم التي تضج بفنتازيا غريبة إلا إذا أصبحت مثلهم. عندما طرحت على بسام فرج العديد من الأسئلة، صمتَ ثم سألني: هذي كثيرة ماكو ترك؟ هكذا بدأ الحوار بيننا الذي كان من الصعب إيقاف بسام وهو يسترسل في كلامه ليتلذذ بالكلام عن الوطن والأحبة وأصدقاء العمر. إن الحوارمعه يعني السماع منه كشاهد على حقبة زمنية معينة.
في تاريخ العراق لجيل كان يسعى لتطويره. يقولون الضحك يطيل العمر فهل يضحكنا هؤلاء المبدعون ليطيلوا أعمارنا؟ أتمنى ذلك لهم وليظلوا بيننا ولا تخذلهم قلوبهم مثلما خذلت أعز أصدقاء بسام فرج العزيز مؤيد نعمة. فلنسمعه:
- ولدت في بغداد - محلة عكد النصارى في 6 / آب / 1943وكان المرحوم والدي يعمل آنذاك عاملا في شـركة - بيت اللنج -الإنكليزية ، حيث انتقل فيما بعد عاملا فنيا في شـركات النفط، وأخيرا استقر به المقام في مصفى الدورة حتى تقاعده . لا أتذكر متى بدأت الرسم ، ولكنني أتذكر جيدا أنني كنت متفوقا على زملائي في مادة الرسم منذ دخولي الابتدائية ثم فيما بعد أصبحت متفوقا ليس في الرسم وحسب ، وإنما في اللغة العربية أيضا ، وأخيرا وجدت نفسي متفوقا على أقراني إلى جانب الرسم بالأدب العربي واللغة الإنكليزية. في عام 1956 اندلعت التضاهرات الصاخبة وإضرابات الطلبة احتجاجا على العدوان الثلاثي على مصر ، آنذاك كنت طالبا في متوسـطة فيصل للبنين في الصالحية في الكرخ قرب بيت توفيق السـويدي ، في هذه الأثناء تعلمت من زملائي ( فن الاحتجاج والإضراب والتضاهر ، إذ شـاركت (ولأول مرة في حياتي ) وبشكل عفوي وبدافع من العاطفة المجردة تماما بالإضراب والاعتصام داخل المدرسة، فجاءت قوة كبيرة من الشرطة وطوقت المدرسة ، ثم اقتحموها واعتقلوا عددا من زملائي ، إلا أنني استطعت أن أهرب قبل اقتحامهم المدرسة من سياج الباحة الخلفية للمدرسة مع عدد من زملائي ، فذهبت إلى البيت سالما، ولم أكن أعلم أن هذا الحدث سوف يغير مسار حياتي حتى هذا اليوم ، إذ كانت هذه نقطة انطلاقي في مجال السياسة ، حيث بدأ ينمو عندي الوعي السياسي أولا ثم الطبقي ثانياَ ، مما قادني فيما بعد للانحياز لشرائح المجتمع المسحوقة، ووجدت نفسي لاحقا في خضم أمواج السياسة المتلاطمة، وخصوصا بعد قيام ثورة14 تموز 1958، وكذلك بعد انقلاب 8 شباط الأسود في 1963حيث اضطررت كمئات الألوف من أبناء وطني إلى الاختفاء والملاحقة ثم تعرضت للإعتقال والتعذيب.

* إذن كان لابد من أن للوضع السياسي تأثير كبير على حياتك، أعني بالذات مسيرة دراستك
- لقد شهدت فترة حكم عبد الرحمن البزاز في منتصف الستينات ، وفيما بعد حكومة طاهر يحيى نوعا ما متنفسا ومناخا جعل الكثير يعتقدبأنها حكومات ديمقراطية، وهي في الواقع كانت أبعد ما تكون عن الديمقراطية ، لقد كانت محاولة لامتصاص نقمة الجماهير بعد المجازر التي ارتكبها الفاشيون العفالقة بحق خيرة أبناء شعبنا.

* أفهم من ذلك أنك أضعت سنين الدراسة في السجن، واتجهت إلى العمل. هل لي أن أعرف أين بدأت العمل كرسام كاريكاتير ومن أي منفذ استطعت الدخول اليه؟
- في عام 1964 وقع نظري على العدد الأول من مجلة القنديل، وكانت ذات طباعة أوفست وبالألوان معروضة على واجهات أكشاك بيع الصحف ، وبعد أن تصفحتها أعجبت بها جدا، وقررت أن أزورهم - بعد تشجيع من أخي وليد- وأعرض عليهم تخطيطاتي ورسومي التي كانت تجمع في غالبيتهـا سكيتشات ملونة وبالأسود والأبيض إلى جانب بضعة رسـوم كانت في الواقع محـاولات في الكـاريكاتير لم أكن أعول على موافقتهم على نشرها ، توجهت إليهم حاملا رسومي ، كانت الإدارة في شارع الرشيد ( رأس القرية) في عمارة البدوي، أعجبتهم رســومي الكاريكاتيرية بشكل خاص . بعد أن بدأت رسـومي الكاريكاتيرية بالنشر تباعا وبشكل مسـتمر بدأت أشعر أن النشر في مجلة شهرية لم يكن يرضي طموحي. فبدأت البحث من جديد في الأسواق فوجدت مجلة ( المتفرج ) لصاحبها ورئيس تحريرها الأستاذ مجيب حسون ، تأبطت من جديد الفايل الذي يحوي على(رسومي الكاريكاتيرية فقط) هذه المرة المنشورة وغير المنشورة واتجهت إلى شارع المتنبي ، الذي كان آنذاك يزخر بإدارات الصحف والمكتبات، صعدت السلالم في مبنى قديم حيث قابلت الأستاذ مجيب حسون لأول مرة قابعا خلف مكتبه وعليه تلال الأضابير والأوراق، فأعجب برسومي وتخطيطاتي، وعرض علي العمل في المجلة بأجور ( على القطعة)، كان سعر القطعة الواحدة 150 فلسا، أما الغلاف 200 فلسا، كانت المجلة أسبوعية، وبعد صدور عددين أو ثلاثة كلفني رئيس التحرير برسم الغلاف . لا يمكن وصف مشاعري وأنا الشاب النحيل أسير في شارع الرشيد والباب الشرقي مزهوا ، وأنا أطالع غلاف المجلة المعروضة على واجهات أكشاك الصحف ورسمي الكاريكاتيري وتوقيعي على الغلاف، إنها السعادة التي لا يوازيها أي شيء آخر في هذا الكون . في هذه الأثناء وجدت طريقي إلى " مقهى السَمَر " في شارع سينما الخيام ، وهناك وجدت ما كنت أبحث عنه ، فهناك التقيت وتعرفت على بشر يشبهونني تماما ، وكأنني أعرفهم منذ ألف عام أو ربما أكثر ، لقد كنا في أعمار متقاربة ، هناك أيقنت أننا ننتمي إلى مدرسة واحدة ، وأننا خريجي هذه المدرسة ، أنها بلا شك مدرسة 1963 ، خريجي المجزرة البشرية التي نفذها وحوش متعطشة للدماء ، نحن خريجي هذا الهولوكاوست الذي غادرناه محملين بالإحباط ، مثقلين بآلاف الهموم ، تحيط بنا مخاطر جمّة ، يائسين تماما في خضم الوضع السياسي السائد آنذاك ، لقد كانوا يطلقون علينا أسم " المعقدين " من قبيل الاحتقار أو من قبيل الاستهزاء وتقليل الأهمية، دون أن يعلموا أننا " معقدون " بالفعل إزاء الوضع السياسي السائد آنذاك، كان هناك شعراء وكتاب، شعراء شعبيون، رسامون ونحاتون ، مسرحيون وصحفيون أقاموا الدنيا ولم يقعدوها . في عصر أحد الأيام طوقت الشرطة المقهى من الجانبين وانتقونا واحدا ـ واحدا ، مستثنين رواد المقهى الطارئين ، نقلونا بالسيارات إلى مركز شرطة الباب الشرقي، حيث تم استجوابنا وبعدها أطلقوا سراحنا بكفالة نقدية دفعها أحد أقرباءنا
انتقلنا بعد ذلك إلى مقهى إبراهيم (مقابل مطعم نزار) وقد أشتهر أيضا بتسميته الشائعة " مقهى شاي أبو الهيل " ومن بعد ، ومن جديد ( مقهى المعقّدين ) ورواد هذا المقهى هم نفسهم رواد مقهى السمر في شارع سينما الخيام ، وقد تضـاعفت أعدادهم، فجاءوا من البصرة والناصرية وكركوك والحلة وبقية محافظات العراق.

* لاحظت عندما سألتك عن الطفولة والحوافز، دخلتَ مباشرة في الحديث عن الوضع السياسي وتأثيره عليك وعلى أقرانك، لذا سأكرر سؤالي..لكل موهبة محفز فهل كان الحافز لديك يتمثل في شخص كما حصل مع الفنان رضا حسن رضا وتأثره بفنان الكاريكاتير غازي الرسام مثلا؟
- لا أريد أن أدخل في تفاصيل تاريخ الكاريكاتير العراقي ، فلقد كُتب الكثير عن هذا الموضوع ، ولا شك في أن هناك رواد في هذا الفن المتميز ، حيث وضع هؤلاء الرواد الحجر الأساس لتطور هذا الفن. كنت طفلا صغيرا عندما كنت أنتظر بصبر كبير والدي( رحمه الله ) كي يفرغ من قراءة الصحيفة ، فيرميها جانبا، أتلقفها بشغف لكي أتطلع إلى الكاريكاتير، حيث كان الفنان غازي والآخر(على ما أتذكر) يدعى علي فتال ، وأتذكر كذلك رسوم حميد المحل أيضا إلى جانب آخرين لا أتذكر أسماءهم، و أعتقد هذه كانت البداية للتعرف على(فن الكاريكاتير) الذي أستحوذ على مشاعري فبدأت(أقلد) رسوم أستاذنا المرحوم غازي الرسام ، فمعطف غوغول هو نفسه معطف غازي عبد الله الرسام.

* وماذا عن العائلة هل لفت انتباههم تعلقك بالرسم؟
- لقد كان والداي يحثاني على الدراسة وترك الرسم فكان أبي يردد دائما:– ابني .. الرسم ما يوكلك خبز !!. فكنت أجلــس على الأرض في زاوية الغرفــة وظهري متكئ على الحائط ، ووجهي يطالع باب الغرفة ، وكانت ورقة الرسم على الكتاب المفتوح الذي يوحي بأنني أقرأ، في الوقت الذي كنت أمارس هوايتي المفضلة (الرسم) بحذر كبير، فما أن يدخل أحدهم الغرفة حتى أقلب الصفحة وأقرأ بصوت عال، ولم تنطل هذه الحيلة عليهم لوقت طويل فقد اكتشفتها المرحومة الوالـدة ، فأخبرت أبي بالأمر حيث عوقبت بتمزيق الرسم أعقبته (سطرة وبعدين رزالة ومحاضرة عن عواقب الاستمرار في هذا الطريق ) .. ولكن المرحوم والدي لم يكن يتذكر كل ما يتعلق بهذا الشأن فيما بعد ، وخصوصا عندما وجدت طريقها للنشر على صفحات مجلة (ألف باء) وجريدة (الجمهورية) الصحيفة الأولى في العراق آنذاك ، إلي جانب العديد من الصحف ومجلات العراق في فترة الستينات والسبعينات من القرن الماضي. أنا أعتبر رسام الكاريكاتير (ضمير شعبه) ، وما ممارسته لهذا الفن إلا نوعا من أنواع الدفاع عن المصالح الطبقية للشرائح الشعبية المسحوقة ، كما أنه نوع من أنواع الاحتجاج وفي نفس الوقت انتماء سياسي وانحياز تام لقضايا الشعب العادلة ضد الحاكم من جهة، وضد البيروقراطية والدكتاتورية من جهة أخرى، وهو انتصار المظلوم على الظالم ، وهنا يكمن المنطق الذي سبق وأن ذكرته (رسام الكاريكاتير .. ضمير شعبه).

* هل برأيك يحتاج فن الكاريكاتير إلى دراسة أكاديمية والحصول على شهادة كي يصبح الفنان مؤهلا لأدائه؟
- أحب أن أذكر أن هذا الفن لا يدرّس في المدارس والمعاهد الفنية، فهو يختلف تماما عن فن المسرح والفن التشكيلي وباقي الفنون الأخرى، فعلى سـبيل المثال ليس كل من أنهى الدراسة في معهد الفنون الجميلة أو الأكاديمية يصلح أن يكون رساما للكاريكاتير، بتقديري أن الإبداع في هذا المجال هو عبارة عن موهبة لدى الطفل يتمتع بها وتميزه عن باقي الأطفال ، ومن الممكن تطويرها وصقلها إلى جانب اكتساب الخبرة فيما بعد من خلال الممارسة المستمرة والتشجيع والدعم ، كما أن درجة الوعي الثقافي والاجتماعي عامل مهم جدا في تكوين رسام الكاريكاتير.

* ما زلت أتذكر كيف كنا نفتح مجلة "ألف باء" من الوسط كي نستمتع بمشاهدة رسومك الكاريكاتيرية، فيا حبذا لو حكيت لنا عن المجلة خاصة وأنك كنت أحد المؤسسين لها
- لقد سبق وأن قدمت لكِ نبذة مختصرة عن الوضع السياسي في فترة الستينات، حيث صدرت في ذلك الحين عدة صحف يومية وأسبوعية، سياسية ثقافية، من ضمن تلك الصحف الكثيرة كانت هناك صحيفة " صوت العمال " التابعة لاتحاد العمال، وكانت صحيفة سياسية واسعة الانتشار، رئيس تحريرها هاشم علي محسن، وكان طابع الصحيفة يساريا بحتا، مما جعل رسومي الكاريكاتيرية تحمل في أغلب الأحيان ( النقد الجارح ) ، فشكّلت (لجنة للرقابة على الصحافة في وزارة الأعلام وكثيرا ما كانت رسومي الكاريكاتيرية تمنع ، إذ تصدر الصحيفة والمساحة المخصصة لي فارغة وعليها عبارة(حذفه الرقيب)، وفيمـا بعد أغلقت الصحيفة فانتقلت للعمل في جريدة قومية يرأس تحريرها فوزي عبد الواحد، وصادف في ذلك الحين المفاوضات الحامية بين شركة النفط الوطنية العراقية وشركات النفط الأجنبية والتي كان يرأس وفدها في هذه المفاوضات "المستر دالي" تسانده في ذلك مواقف بعض العراقيين آنذاك ومنهم (على ما أتذكر) المحامي المعروف فائق السامرائي، كما صادف في تلك الفترة أن اشتهرت (رقصة الهالي غالي)، فرسمتُ "المستر دالي" وقد شدّ على وسطه المنديل على طريقة الراقصة المصرية نجوى فؤاد و يهزّ مؤخرته، والى جانبه يجلس فائق السامرائي ينقر له على الطبلة، وتحت الرسم التعليق : رقصة العام .. الهالي دالي!! وفي اليوم التالي تلقت الصحيفة عدة تهديدات، فكنت أذهب إلى إدارة التحرير في الحيدرخانة مساء بحذر بالغ، حيث كان يقف في باب البناية مسلح بعد هذه الفترة وفي عام 1968 عمدت السلطة آنذاك على إلغاء كل الصحف الأهلية وإنشاء مؤسسة حكومية للصحافة( لكي تكون تحت رقابة وزارة السلطة ) وتابعة إلى وزارة الأعلام مباشرة، فصدرت من جملة المطبوعات الكثيرة مجلة (ألف باء) الأسبوعية، ولي شرف الحضور الفاعل والمساهمة مع أول هيئة تحرير لهذه المجلة التي أصبح لها وزنها في الصحافة العراقية فيما بعد، حيث خُصصتْ لي صفحتان في المجلة الأسبوعية منذ العدد الأول حتى حين مغادرتي العراق.
في عام 1974 حصلت على زمالة صحفية من قبل اتحاد الصحفيين العالمي في هنغاريا، أنهيت الزمالة بتفوق وعدت إلى الوطن، وفي عام 1976 تزوجت من رفيقة حياتي (وهي هنغارية)، وفي عام1977 غادرت الوطن بعدما بدأت غيوم سوداء تلوح في الأفق ، وفعلا فقد بدأت بعد رحيلي قطعان ذئاب 1963 تكشر عن انيابها من جديد متعطشة للمزيد من الدماء، حيث هنا ينتهي دور رسام الكاريكاتير.

* لنتحدث عن تجربتك في هنغاريا خاصة وأنك عملت في أشهر ستوديو هنغاري في صناعة أفلام الرسوم المتحركة. ماذا أضافت لك التجربة؟
- بعد وصولي إلى المجر انقطعت عن العمل الصحفي تماما، ليس ترفا، وإنما كان هذا الواقع مفروضا علي كما كان مفروضا على الكثير من الأصدقاء والزملاء الصحفيين، لأن الصحافة التقدمية كانت قد توقفت عن الصدور بسبب القمع والإرهاب والملاحقة والسجن والقتل الذي طال الكثير من العاملين في الحقل الصحفي، ولكن ذلك لم يوقفني، إذ أرسم متأثرا بالأحداث الجارية في الوطن عن طريق الأخبار التي كانت تصلنا من الداخل ، وكنت - بالطبع – منحازا إلى قضية الشعب وكنت أعرض رسومي في احتفالات ومناسبات جمعية الطلبة العراقيين في بودابست، وللأسف الشديد فأن أغلب رسوم هذه المعارض كانت تصادرها أيادي- جماعتنا - وكل هذه الرسوم كانت تعالج الوضع السياسي آنذاك . بعد وصولي إلى بودابست ، كنت أعتقد أن الفترة ستكون قصيرة، إذ قريبا سأحمل متاعي وأعود إلى الوطن لمواصلة عملي وتحقيق طموحاتي، ولكن هذا الحلم لم يتحقق، والانكى من ذلك بدأت مؤشرات جديدة تدل على أن الأوضاع تسير من سيئ إلى أسوأ، فبدأت البحث عن عمل له علاقة مباشرة بفني، فلقد كانت لي تجربة في عالم أفلام الرسوم المتحركة سابقا في بغداد ( سأتناولها بالتفصيل لاحقا)، فقد اتجهت إلى "استوديوهات بانونيا "لأفلام الكارتون، وهي مؤسسة ضخمة وتعتبر إحدى أكبر الاستوديوهات الخمس أو الست في أوربا أو ربما في العالم. عملت في هذه الاستوديوهات إلى جانب أفضل المخرجين الهنغاريين في مجال أفلام الرسوم المتحركة ، ففي البداية عملت كرسام مساعد ، وأصبحت في فترة قصيرة مساعد ثاني، وبعد ذلك مصمم أول خلال الأعوام التسعة التي قضيتها في هذه الاستوديوهات ، وأخيرا طلبت من رئيس القسم أن يوفروا لي الفرصة لأنجز عملا شخصيا، فوافقوا على ذلك (بشرط أن يكون العمل ذات طابع شرقي) فكان فرحي مضاعفا لهذا ( الشرط التعجيزي) ، وكان فرحهم اكبر حين أطلعتهم على تصاميم الشخوص والسيناريو الذي كتبته ورسمته، وكان الموضوع ( أبو القاسم الطنبوري)، ولكن المشروع توقف قبل البدء به وذلك بسبب حصولي على فرصة عمل أفضل، وهو العرض الذي قدمه لي التلفزيون المجري ( قناة رقم 1) حيث عرضت علي راتبا أفضل ، وأن أترأس قسم فريق أفلام الرسوم المتحركة في التلفزيون، فانتقلت إلى هناك وأنا محمل بتجربة غنية اكتسبتها في الاستوديوهات التي عملت بها، هذه التجربة الغنية ساعدتني على إنجاز الكثير من الأعمال في مجال عملي الجديد، خصوصا أفلام الإعلانات إلى جانب الكثير من أفلام قصص الأطفال والأفلام التوضيحية لبرامج الأطفال .أستعرض تجربتي هذه تأكيدا على نقطة مهمة في حياتي، إلى جانب الكثير من تجارب ونجاحات العراقيين في الخارج، فنانيـن وأدباء ، علماء وباحثين ، ساسة ورجال أعمال الخ ، إذ ليس من المعقول الاستغناء عن كل هذه المعارف والكفاءات المكتسبة التي خسرها الوطن خلال أكثر من خمسة وثلاثين عاما من حكم ( القائد الفلتة )، لطالما راودني حلم العودة إلى الوطن ووضع بذرة لأول استديو لصناعة أفلام الرسوم المتحركة في الوطن العربي ، ولكن هذا الحلم قد تأجل وربما سيكون من نصيب الأجيال المقبلة.

* عندما عدتُ إلى العراق والتقيت بالعزيز مؤيد نعمة كان أول سؤال له كيف حال بسام؟ حدثني عن ذكرياتك معه وأين تضعه كفنان تشكيلي أولا ورسام كاريكاتير ثانيا؟
- لقد كنا شلة من الرسامين نتبع أساليب تختلف من واحد إلى آخر، لم تكن لدينا خبرة برسوم الأطفال، فيما عدا بعض الرسوم التي سبق وأن نشرناها قبل صدور ( مجلتي ) في مطبوع للأطفال كان يصدره مقدم برامج الأطفال سامي الربيعي أنا والصديق العزيز الفنان صلاح جياد ثم التقينا من جديد في (مجلتي) ،إلى جانب العديد من الرسامين برئاسة تحرير الأستاذ إبراهيم السعيد، وكان هناك الفنانون الرائعون طالب مكي وفيصل لعيبي وعصام الجبوري ووليد شيت ، كما التحق فيما بعد بهذا الفريق رسامون آخرون مثل ماهود أحمد وزوجته الروسية فالنتينا وميسر القاضي وسيروان وأديب مكي وسعدي الموسوي، وأخيرا اثنان من الشباب اللذان أصبح لهما شأنا كبيرا في عالم رسوم الأطفال والكاريكاتير أيضا وهما الفنان منصور البكري والفنان علي المندلاوي . ومن الكتاب والشعراء المبدعين سهيل سامي نادر وفاضل العزاوي وصادق الصائغ ومحمد عبد المجيد وعبد الستار ناصر وآخرين من الذين لا يقلون أهمية عن الذين ذكرتهم.
وبعد مرور أكثر من عام على تأسيس المجلة التحق بنا شاب من معهد الفنون الجميلة، لقد كان هذا الشاب المرح والمؤدب والواعي، المليء بالحيوية والنشاط هو "مؤيد نعمة"، الذي ربطتني به صداقة أبدية، فأحببته كما أحبه كل العاملين في مجلتي والمزمار، فلقد كان سريع البديهة، وكثيرا ما يمزج الجد بالهزل، حتى أنه في كثير من الأحيان يجعلك في حيرة من أمرك :هل هو جاد أم يمزح؟ لقد كان مؤيد فنانا من طراز خاص جدا، متميزا عن باقي الفنانين العراقيين بكونه إلي جانب إبداعه في رسم الكاريكاتير فهو كان بارعا كخزاف أيضا، وقد أبدع في ربط الكاريكاتير بالخزف أو العكس في عام 1976 قمنا أنا ومؤيد بمبادرة هي في الواقع الأولى من نوعها في العراق حيث بادرنا بتأسيس جماعة الكاريكاتير العراقي بمشاركة صديق العمر الفنان موسى الخميسي والمرحوم نزار سليم من رواد فن الكاريكاتير في العراق، إلى جانب الفنانين المبدعين رائد نوري الراوي وعبد الرحيم ياسر وضياء الحجّار ، وأقمنا معرضنا الأول على قاعة كولبنكيان بتاريخ 1 - 5 – 1976 حيث لاقى المعرض إقبالا لايوصف.

* أتذكر كانت لنا في العراق تجربة بدائية ولكنها كانت وقتذاك كبيرة جدا وهو إنجاز فلم كارتون قصير شارك في مهرجان أفلام فلسطين في بداية السبعينات وحاز على جائزة.. حدثنا عنه ؟
- أتصل بي مدير التلفزيون والسينما والمسرح آنذاك وعرض علي استعارتي من دار الجماهير للصحافة وتنسيبي إلي مديرية السينما والمسرح لمدة ثلاثة شهور لغرض تنفيذ فيلم كارتوني لغرض عرضه في مهرجان سينمائي يعقد في بغداد ، فأجبته بأنه من المستحيل تنفيذ فيلم كارتوني مليء بالشخوص في هذه الفترة الزمنية القصيرة بمفردي، فاقترحت عليه أن أجد زميلا لي نتعاون على تنفيذه، فعرضت الأمر على صديقي العزيز مؤيد ، فوافق بدون تردد، وهكذا نفذنا فيلم " كرة القدم الأمريكية " وتم تسليمه في الموعد المحدد بمساعدة فريق من الفنانين والرسامين الأصدقاء كالفنانة اعتقال الطائي وأديب مكي وسعدي الموسوي وآخرين، وكان طول الفيلم 11 دقيقة، وقد كتب السيناريو وأخرجه فكتور حداد ، وقام بتصويره جورج يوسف ، وقد شارك الفيلم في المهرجان المذكور وكما ذكرتِ حاز على جائزة.

* نسيتَ أن تخبر القراء بأننا سهرنا ليال دون نوم لإنجازه في الموعد المحدد، وأتذكر كيف ضحكنا عندما شاهدنا لاعبي كرة القدم يعرجون وهم يركضون. لكنك لم تستمر، وبعد سنوات قررت الرحيل.
- نعم كنت في ذلك الوقت ( رايح جاي) من وإلى هنغاريا، وقد تهيأت للسفر، فعرضت على مؤيد أن يرافقني في السفر، فوافق وسافرنا على الفور بالطائرة إلى صوفيا ومن هناك بالقطار إلى بودابست، وكان السفر مع مؤيد ممتع جدا. بقي مؤيد معي في بودابست لمدة شهر أو أكثر ثم راوده الحنين إلى الوطن، وصادف عودة أحد الأصدقاء العراقيين إلى بغداد فرجوته أن يرافق مؤيد فوافق الرجل، وعاد مؤيد معه وتركني وحيدا في بودابست ، وبعد فترة طويلة عدت إلى بغداد ثانية لترتيب أموري لكي أغادر العراق بشكل نهائي ، التقيت بمؤيد الذي اندهش لرؤيتي ثانية في بغداد، وأعلمته بأنني قررت الرحيل فأجابني: لو لم يكن مرتبطا (حيث كان يحب زوجته مها وأبنته داليا حبا يفوقأي شئ في هذا الكون) لكان قد رافقني في رحلتي ، فودعت مؤيد وودعت أصدقائي وأحبتي في بغداد الحبيبة ورحلت . من المفارقات العجيبة ، صادف مرة أن كنا نتحدث أنا ومؤيد عن طفولتنا ، فسألني عن المدرسة الابتدائية التي كنت أدرس فيها، فأجبته بأنني كنت أدرس في مدرسة الإقبال الابتدائية للبنين وهي في إحدى درابين السنك المطلة على شارع الرشيد، فأجابني على الفور بأن والده كان معلما في تلك المدرسة في تلك الفترة، وفعلا تذكرت معلمنا الأستاذ نعمة، حيث كان شخصية محبوبة لدى الطلاب، وهذا يذكرني بالمقولة الهنغارية :"ما أصغر هذا العالم.

* لو فرضنا بقيت َ في العراق ولو لم يكن وضع العراق المرير في العقود الماضية واليوم على ما نلمسه ونراه الآن، هل تعتقد كان بإمكاننا صناعة أفلام رسوم متحركة ذات مستوى متقدم؟ وما رأيك بما يحدث الآن في العراق؟
- ثمة حقيقة يعرفها القاصي والداني، وهي أن وادي الرافدين يمتاز بحضارة عريقة وسكان هذه المناطق هم أحفاد سلالات أنارت الدرب لبقية الحضارات في العالم، وفيما بعد أصبحت بغداد عاصمة للنور والعلم والأدب والفن ، يؤمها طلاب العلم من الغرب قبل الشرق، لقد كانت بغداد كعبة المستشرقين لما كانت مكتباتها ومتاحفها تحويه من إرث ضخم تحسده عليها الكثير من الشعوب في العالم المتقدم فعلى مرّ العصور كانت بغداد قبلة الشرق والغرب ، ولا سيما في العهد العباسي حتى سقوطها على يد هولاكو عام 1258 حيث دمّر بغداد تدميرا تاما.
بعد هذا التاريخ ما يقارب السبعمائة عام غزا أحفاد هولاكو الجدد بغداد مرة ثانية دمّروها وقتلوا وشرّدوا أهلها، وخربوا معالمها ولم يكفهم كل هذا ، بل وعمدوا على تخريب (الإنسان العراقي) فمارسوا طيلة الأربعين عاما من حكمهم وضمن مخطط مدروس بعناية تامة عملية تشويه لسيكولوجية الفرد العراقي، وكرد فعل لهذه العملية القذرة أجبرت العراقي على طلب اللجوء في المساجد والجوامع والكنائس لإنقاذ رؤوسهم من الإطاحة بها ، إذ لم يعد هناك أدب ولا علم ولا فن ولا هم يحزنون ، فالكل هنا فداء للقائد، والكل عبارة عن حطب ترمى في نيران الحروب ، فطيلة الأربعين عاما من الحكم التخريبي عمدت السلطة وبشكل أساسي إلي هدم كل ما هو جميل ، إلي قتل الإبداع، إلي قلب المفاهيم في علم الجمال إلى قتل وهدم وحرق وإلغاء ومحو ومصادرة كل القيم الإنسانية المتركزة في روح الفرد العراقي منذ آلاف السنين.
لقد أصيب المثقفون بخيبة أمل كبيرة بعد زوال هذا الكابوس المرعب ، فقد بات واضحا للعيان بأن عملية مسخ الإنسان لازالت مستمرة ولكن بأساليب أعتى وأخبث، وهي تحمل في محتواها نفس الأساليب ولكن الأهداف الجديدة ليست نفس أهداف الأمس ، وأنما هي اليوم تخدم فكرا سلفيا وطائفيا تديره شرائح متنفذة وفقا لمصالحها الذاتية ، لا بل أصبحت ممارسات هذه الشرائح في صراع دائم فيما بينها، من يسبق من في تطبيق التخلف والانحطاط والعودة إلي الوراء ، ومن يسبق من في الانقضاض على ما تبقى من فن وأدب وعلم وتهديم كل ما هو جميل وعصري ، وتخريب آخر خلية تحمل الخير في عقل الإنسان العراقي.

* هل تعتقد أن الفن والثقافة بشكل عام في العراق سيجدان متنفسا بعد الظلم والاضطهاد اللذان عانا منهما الشعب العراقي بشكل عام والثقافة بكل ما تحتويه من إبداع في كل المجالات، لا أخفي عليك أنا متشائمة لأن الوضع صار أسوأ من السابق وينطبق علينا المثل القائل: ما رضينا بجزة..صارت جزة وخروف؟ خاصة وأن الفن صار عيبا ويطلق الرصاص على طلاب معهد الفنون بلا ذنب اقترفوه؟
- أنا - في الواقع ـ لست متشائما، فكما سبق وأن ذكرت إن ( رسام الكاريكاتير .. ضمير شعبه ) ، ولذا فأنني أجد نفسي منحازا - شئت أم أبيت – إلي الشعب الذي أنتمي إليه . إنني نفس الإنسان الذي كان يعيش فترة احتلا ل التتر لبغداد ، وأنا نفس الإنسان الذي عاش فترة احتلال أحفاد التتر في 1963 لبغداد ، وأنا اليوم أعيش الفترة المظلمة التي يمر بها شعبي بما فيها من معاناة القتل والتهجير والتهديم ، فالغد الجميل آت لا ريب فيه . من الصعب أن أقول أنني متفائل ولكن إيماني بحضارة عراقي الجميل وشعبي ذو الجذور العميقة يجعلني توّاق إلى رؤية اليوم الذي يفخر العراقي بفنه وأدبه وعلمه، وأن يعيش كما يعيش بقية البشر في العالم المتمدن بحرية تامّة وحياة تكفل له الأمان لكي يتمكن ثانية من الإبداع وتقديم الأحسن والأفضل في كل المجالات للعالم ، لكل العالم

* هل لهذا الفن دور كبير لِنقُل في النقد أو التحريض مثلا أكبر من دور القصيدة أو الخطاب السياسي، أم أحيانا لمجرد إضحاك المتلقي أو حتى مجرد رسم البسمة على شفتيه فقط؟
- إن واقع الحال يفرض على رسام الكاريكاتير أن ينظر إلي الأمور بمنظار غير المنظار الذي هو في حوزة الرسام الأكاديمي أو الرسام التعبيري أو حتى التجريدي ، فالكاريكاتير هو عبارة عن أداة يستخدمها الرسام لنقد حالة اجتماعية معينة ، وقد يكون هذا النقد ساخرا إلى حد ( التجريح)، وهذا يعتمد على الانتباه التي يتمتع بها رسام الكاريكاتير والتي تميزه عن باقي الفنانين التشكيليين، فرسام الكاريكاتير يتغلغل في خصوصيات الفرد، فعلى سبيل المثال فإن الفنان غازي كان يعالج سلبيات الفرد العراقي عن طريق استخدام الأغاني الشائعة إلى جانب الأمثال الشعبية البغدادية الأصيلة والتي كانت متداولة آنذاك ، لغرض اقتحام المتلقي وإيصال الفكرة له بسهولة دون لف أو دوران، وبهذا يتحقق الغرض من الرسم وهو إيصال الفكرة عن طريق الفكاهة، ولكن الأمر يختلف نوعا ما عند الفنان الراحل مؤيد ، فهو لا يستطيع أن يعكس فعلا دراماتيكيا ليحوله إلي نكتة تبتسم لها ، وهو في هذه الحالة يعمد إلي التحريض المبطن عن طريق السخرية ، إذ ليس بمقدور الفنان أن يحوّل من إرهابي يذبح الأبرياء أو سلفي يفجر نفسه وسط جمع من الناس ، فلو كان مؤيد جنديا لقاوم هذا الإرهابي السلفي بالسلاح ، ولكن سلاح مؤيد هنا كان (الكاريكاتير) وهنا يكمن سرّ انحياز رسام الكاريكاتير إلي جانب معاناة هؤلاء الناس الذين يعلن صراحة انتمائه وانحيازه إلي جانبهم.
لقد كنت في فترة الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي أرسم ضد الحرب، وضد الدكتاتورية كنت أدعو إلى وقف نزيف الحرب والى مقاومة الدكتاتورية ولكن بشكل ساخر ، رغم أنني كنت أعاني من عدم النشر حتى فترة متأخرة حيث بدأت تصدر في لندن صحافة المعارضة، فبدأت أراسل جريدة ( بغداد) و صحيفة (المجرشة) الساخرة التي كان يصدرها الصديق العزيز الفنان فيصل لعيبي، ومجلة (الدستورية) وجريدة (طريق الشعب). إن ردود الأفعال التي يتركها الرسم الكاريكاتيري الساخر هي نفسها في القصيدة أو المسرحية أو المقالة السياسية ، فيما لو التقت بتحديد هدف معين ، فالفن بحد ذاته هو وسيلة ذات قيم جمالية تسعى للوصول إلي غايات معينة ، أهمها هي إسعاد الإنسان ، وبتقديري فإن سعي الفنان هنا هو التوغل في ذات الآخر سواء كان ذلك عن طريق القصيدة أو الرواية أو اللوحة أو الأداء المسرحي أو الغناء الخ.. وكثيرا ما نسمع هذا التعبير القائل بأن :" الكاريكاتير السياسي.. في كثير من الأحيان يعوّض عن افتتاحية الصحيفة!! " وهذا - على ما أعتقد - خطأ، لأن الأدوات التي يستخدمها رسام الكاريكاتير هي غير الأدوات التي يستعين بها الرسام الأكاديمي ، وهي غير الأدوات التي يستخدمها الكاتب، فالكتابة فن قائم بحد ذاته ، كما أن أغنية للفنان الراحل عزيز علي يكون وقعها على المتلقي غير وقع المقال السياسي الذي يكتبه فلان الفلاني في صحيفة ما، وهذا ينطبق تماما على الرسم الكاريكاتيري الساخر أيضا، سواء كان يعالج وضعا سياسيا أو وضعا اجتماعيا.

سبق لهذا الحوار ان نشر في اكثر من موقع الكتروني