(صهر اللغة وإعادة منتجة الجملة الشعرية)

(صهر اللغة وإعادة منتجة الجملة الشعرية)

الحطّاب ومنذ بداياته الشعرية يختطّ لنفسه نهجاً شعريّاً خاصاً على حدّ تعبير الناقد الكبير الدكتور (حاتم الصكر) من هذه الدالة التعريفية بمنجز الحطّاب نستطيع الولوج إلى عالمه الشعري الخاص والذي يحمل بصمة الحطاب الإبداعية وفيه جيناته الخاصة

التي ترتبط بعوالم من قبله ولكن بملامح جديدة من خلال الخط البياني لمسيرته المتفرّدة والمتنوعة والنامية فلجواد هذا الشاعر النحات المغامر الذي كان وما يزال يحمل روحية بجماليون وجسارة المتنبي المغامرة صولات عديدة في كسر جماح اللغة وترويضها من ديوانه (سلاماً أيّها الفقراء) وصولاً إلى منجزه الإبداعي الأخير(بروفايل للريح... رسم جانبي للمطر) والذي وجدنا فيه روحية جواد المغامرة وقدرته الفائقة في (صهر اللغة الشعرية) وإيجاد صياغة ممنتجة للجملة الشعرية وتكثيفها وضغطها لدرجة عالية من حيث الحجم الشكلي ولكنّها تبقى تحمل كتلة دلالية هائلة متوهّجة وهذا ما نتلمّسه في منجز الحطاب الأخير فمن لوحته الأولى يدهشنا باختزال حجم كتلة نحتيّة من خلال صهر تراكيب شعرية وتشذيبها وإزالة كلّ الزوائد اللفظية فما كان في قصيدة أو مشهد نحتيٍّ هائل يصهر في جملتين شعريتين متقابلتين ومترابطتين منطقيّاً لكنّهما متوهجتان دلالياً وتحملان وظيفة دلالية وبانتقاء الحطاب المبهر لمفرداته يصطاد لنا فعلاً من أفعال العطاء يلائم فاعله ملاءمةً تامّة:
تبرعت الأمهاتُ بصراخهنَّ إلى الحصان
فلا سلاسل تقيدُ الصهيل ..
.. من همسة آلاف سنةٍ
يتوشّحُ بالحياة..
................
(بأخاديد الدبابّات تضع القنصليات بيوضها)
نجدُ ومن اللوحة الأولى قدرة هائلة على إعادة صوغ معادلة شعرية متواشجة العلاقة وبناء منظومة لغوية لكلّ مفردة فيها دورٌ محوري تحفيزي يمتلك طاقة هائلة في نقل معانٍ عميقة تجعل القارئ الواعي يشكل نصّاً متخيلاً موازياً لهذا النص المكثف المختزل وتؤدي شحنات جواد الشعرية وجوداً إيحائياً يمنح القارئ إشاراتٍ دالّة للولوج إلى مدونات تتراءى خلف الإشارات الرمزية من خلال انصهار الأزمنة بهذا الترميز المكثف (من همسة ألاف سنه / بأخاديد الدبابات...) واللافت في هذه اللوحة أن مفرداتها تنتمي إلى الأسرة الصوتية فهي لوحة ضاجة بصراخ الأمهات وصهيل الحصان وهمس السنين وصوت الدبابات:
مباركٌ صهيلكن أيها الأمهات
.. زعاف الأفعى
لا يرهب التنين.
بعد اللوحة الأولى يصهر الحطاب تراكيب كثيرة ويختزلها بجملة شعرية ممنتجة بدقة عالية ومشحونة بهالاتٍ دلالية(كان لبغداد أربعة أبواب) ثمّ بترميز مكثف لرمز جذري يكون الحافز الحرّ المتوهج ألا وهو (الباب) المتكرّر في لوحة تقابلية ثنائية عددية باعتماد أسلوب سردي شعري يقوم على الفعل الماضي (كان) وتنتهي بمقارنة متوازية تؤسس لاستفهام مجازي :
كان لبغداد.. أربعة أبواب... الآن لبغداد باب واحد
باب الـ آآآآآآآآآآآآآهـ
أو في هذه الموازنة المكثفة التي التقطتها الشاعر بوعيه العميق والتي كانت تختزل الكثير من المعاني الكبيرة:
يسير الأنبياء على الماء
ونسير على اللهب..
فهل اختارنا الله لتبليغ رسالته الجديدة؟؟
لقد جعل الحطاب من الجملة الشعرية دالة ناقلة لكم هائل من المعاني ومتناصة ومتثاقفة مع الكتلة النحتية كما في لوحة الطفل نجد اللغة قريبة إلى مفردات ووعي الطفولة فالطفل لا يدرك دور الجيش ولكن تفكيره ينصب على اللعب والمرح:
أعد الخرفان بمسحال الكبش
وبمحض قرنفلة
أعكف على تأليف عصفور....
– هل تستعرض المدينة أم جاء الجيش إلى اللعب معي..
ونلمس أيضاً قدرة الترجمة والفهم الواعي للمتناصات النحتية في وعي الحطاب من حيث صهره للغة تناسب وهج اللحظة وكأنها ضربة إزميل وجعل المفردات ضمن تشكيل يعكس شبكة دلالية متداخلة:
- يا أمناء سرّ الجرح
أرفعوا الأفق.. لتراه
فلا غياب يزوّر دم ابنها
حبّة دمعٍ من عين أمّ..
كافية لتعقيم الملائكة
أو ما يقدّمه لنا من جمل شعرية تثير الدهشة وتشدنا إلى حالة استرجاع وتخيل وخوض حوار ذاتي تحفزه الجملة الشعرية:
هل أحد يصاب بالجغرافيا؟!!
.. ولدنا مصابين بالعراق
ويرسب أولادنا في الدرس
.. لا يعرفون إعراب المفخخات!!
وأيضا في هذا التركيب الشعري المدهش:
من يرقات بوكا
يطير قابيل إلى مصحّة الغربان
ويتحوّل الإنسان الاكسباير EXP
إلى.. بوق إسرافيل
فالحطّاب بمنجزه الإبداعي أعاد صوغ لغة تطابق كتل النحت المجسمة وكانت تراكيبه الشعرية مجسمات لغوية تضيء جوانب خفية في أعماق المنحوتات الساكنة وتعيد قراءة ما فيها من أسرار وما ترتبط به من حوداث ووقائع:
في (طوفانه الثاني)
صاح: يا من لا تراه المدينة خذ حذرك
تريد الـ (لاصقات) أن تدلق عذريتها عليك
(لو يكشف السونار أفكار الظلام
لاستعملنا الحياة مرّات عديدة) قالت له بغداد
كذلك وظفّ جواد الحطّاب في منجزه تقنيات قصصية كالسرد المقتضب الناقل لفيض المعنى واستثمر طاقة الحوار الدرامية ووضعه في المكان المناسب تماماً ليعكس حالة الصراع ويشد اللوحة ويزيد من تكثيف المعنى , فالحوار الموجز يكون بمثابة ومضاتٍ تعبيرية موجزة يوظف فيها الشاعر طاقة المفردة لتكون لحظة تنوير تمنح القارئ بعداً موحياً من خلال توازي الحوار ويكون ضمن النسيج الشعري بؤرة مركزية حاثة:
-.. من أنت؟
• .. قرينك!!
(أنّى يكون لي قرين ولم يمسسني نحّات)
-.. والمسحاةُ؟
• حرزٌ المسحاةُ:علامة
أو ما يستخدمه جواد من تقنية حوار ظاهر يقابله حوار كامن يدركه القارئ من خلال الحوار الموجّه إليه:
-.. (باب خراسان) أم (باب الشام)؟
.. باب الشام
أو: أندخلُ؟؟؟
...........

فهذه المساحات الفارغة هي لحوار كامن يدرك من سياق الحوار المقتضب الظاهر الذي استطاع الشاعر أن يوظّفه ليؤدي مهمة شدّ النسيج وإضفاء الحركية وتحفيز النص الشعري، وكان من أدوات التقنية الدرامية استخدام الشاعر لتقنية (المنلوج الداخلي) بلغة شعرية ممنتجة ومقتضبة وبعيدة عن الشرح والتقرير والتي تضيء مساحات معتمة في أعماق الروح في شخصية المتكلم من خلال حواره مع ذاته ليمنحنا دفقا معرفي يضيء جوانب مبهمة:
فكّرْ..
كم متعةٍ خسرتها
حين لم تصبح مطرقة؟
ليست الأغصان
الجذور من تبتكر الثمرة
وربٌّ لوحده لا يصنع الجنة
الإنسان.. يدُ الله الأخرى
من ذهنية الشاعرة الخلاقة الواعية التي تمتلك القدرة بجعل هذا المنجز الإبداعي مترابطاً وظيفياً ومتماسكاً بوشائج خفية لا تلتقط هذا الترابط من القراءة الأولى وقد جعل الحطاب من اللغة مادة منصهرة يعيد تشكيلها وصوغها لتؤدي وظيفتها الإيصالية على أكمل وجه فلا تقف بوجهه قواعد أو قوانين بل هو من يضع قوانين جديدة ليجعل النسيج الشعري لوحة عاكسة ومتوازية مع معطيات ودالات العمل النحتي فنندهش لتراكيب قصيرة حادة تقابلها أو لتركيب مزجي يختزل الكثير من المعاني ويستغني الشاعر عن الكثير من الألفاظ الزائدة: (حبة دمع واحدة /لحظة حنطة /صاج النصب / المسرة الجائعة / نهار مبتسم الكفين / كسر من حنين جاف / الشموع العاقرة) من هذه التراكيب ينسج الشاعر صوراً شعرية متماسكة متوهجة الدلالة يجعل القارئ متفاعلاً مع مجرى النص الإبداعي وتنفتح أمام مخيلته آفاقاً إيحائية تحملها هذه التراكيب التي يصهرها ويعيد تشكيلها جواد الحطاب:
لحظة حنطة
على صاج النصب
رماني البرق
ومن حلمة دجلة رضعت روحي
أو في اللوحة الشعرية التالية والتي أعاد منتجتها جواد بقدرة بجماليون وبروحه الشاعرة المغامرة التي تعرف كيف تكسر جماح اللغة وتروضها:
بنهار مبتسم الكفين
عجنت رائحة الجوري
:حناء
لحيطان المتحف الوطني
.. وتقيم في رقم الطين
بروفات تنقيب عن الآتين
وممّا يضاف لهذا المنجز بما فيه من إمكانية الحطاب في منتجة الجملة الشعرية وجعلها مختزلة لمعانٍ كثيرة هو استخدام الحطاب تقنية (علامات الترقيم) بقدرة فائقة لتكون دالات إرشادية لمعرفة ترتيب وتسلسل الفكرة وتقودنا للكامن من النص غير المرئي فالحطاب أنجز نصان متوازيان نصٌّ مرئيٌّ شاخص يوازيه نصّ كامن مستنبط من خلال إشارت الترقيم فلا فراغ لدى الحطاب فكل ظاهر يقابله كامن وعلى القارئ الواعي أن يستنبطه:
.. تهمزنا الشموع العاقرة
فنرحل..
مصابين بتشمّع التذكارات نحو (باب الشام)
صحراء.. /صحراء.. / صح.. / لاااااااااااا..
كسر من حنين جاف
أو من خلال هذه الصياغة الشعرية المختزلة للأزمنة التي يكون للإشارات الترقيمية دلالة على المعنى الكامن :
..أدفعاً لاشتباه العشب
صنع القدماء للثيران أجنحة؟!
..................
.................
محراثٌ خفي
يمتدّ من ظهره لقرميد ((ساحة التحرير))
إنّ لجواد الحطاب قدرة تحويلية متفردة في إعادة صياغة المفردة وشحنها ونسجها ضمن تراكيب شعرية مكثفة نقية من كل الزوائد اللفظية والترهل التعبيري ولديه طاقة جعل الكلمة مفاجئة ومستفزة للقارئ وكأنه يسمعها للمرة الأولى على الرغم من بساطتها ومألوفيتها القاموسية لكنها في منحوتات جواد الشعرية لها وقع آخر لأن الحطاب يصهر اللغة وكأنه نحّات يصهر المعدن ليعيد تشكيله في كتل تعبيرية مغايرة لمادته الخام حتى إن جواد في الغالب يستثمر بوعيه المعرفي المفردة والحرف لتؤدي وظيفة جمل وتراكيب فما يعني الحطاب هو إيصال معان متعددة بألفاظ موجزة وهي مقدرة لا تتأتى للكثير من الشعراء. لذا تناولنا هذا الجانب المهم ألا وهو تطويع اللغة وإعادة منتجة الجملة الشعرية في رحلتنا الاستكشافية لمنجز الحطاب الإبداعي (بروفايل للريح... رسم جانبي للمطر)والذي كان يحمل بصمة إبداعية بكر يمدّنا بدهشتها الشاعر في كل منجز شعري يقدمه لنا . صدر ديوان بروفايل للريح.. رسمٌ جانبي للمطر (تنويعات على نصب الحرية) عن دار شرق غرب للنشر بـ 111صفحة من الحجم المتوسط صدر في عام 2012للشاعر جواد الحطّاب.