وثائق: محمد فاضل الجمالي والتكنوقراط واحداث موازنات جديدة

وثائق: محمد فاضل الجمالي والتكنوقراط واحداث موازنات جديدة

فاخر الداغري
ولد محمد فاضل عباس الجمالي في الكاظمية عام 1903 من عائلة دينية محافظة واكمل دراسته الابتدائية والثانوية في بغداد بعدها التحق بالجامعة الاميركية في بيروت فنال شهادة بي أي في التربية.
عاد الى بغداد وعين مدرساً في دار المعلمين الابتدائية في 19 تشرين الثاني عام 1918م.

قضى اعواماً في التدريس ثم سافر الى اميركا للدراسة هناك فحصل على شهادة بي ايج دي في فلسفة التربية فعاد الى وطنه ليشغل وظائف عدة في ديوان وزارة المعارف منها مديرية التربية والتدريس العام ومنصب المفتش العام ومنصب مدير المعارف العام بعدها انتقل الى الخارجية ليعين مديراً للخارجية ثم اختير وزيراً للخارجية فوزيرا مفوضاً للعراق في القاهرة بعدها استوزر للخارجية ثانية.
ترأس الجمالي الوفد العراقي في اجتماعات الجمعية العمومية للامم المتحدة اكثـر من مرة.
في 24 كانون الثاني عام 1953 انتخب رئيساً لمجلس النواب في دورته الانتخابية الثالثة عشرة في عهد وزارة نور الدين محمود.
في 17 ايلول 1953 شكل وزارته الاولى ثم اعاد تشكيلها ثانية في 8 اذار 1954 وعليه يلاحظ استقراءً.
ان الدكتور محمد فاضل الجمالي ظل يتدرج صعوداً في مجال العمل الوظيفي الى ان شغل رئاسة مجلس النواب ثم رئاسة الوزارة لمرتين متتاليتين وهذا دليل على حيويته ونشاطه وكفاءته وطموحه في استثمار ما لديه من قابليات وتكريسها في الوظيفة التي هي في محصلتها الاخيرة خدمة عامة.
هذا الاستقراء ينسجم مع انطباعات خليل كنة عن الجمالي في كتابه (العراق أمسه وغده) موضحاً الاسباب التي دعت الى اسناد رئاسة الوزارة اليه حيث يقول:
الجمالي سياسي نشط محب لذاته له نظريات واراء سياسية معروفة كما مثل العراق في الامم المتحدة فخدم بذلك المغرب وقضية استقلالها ثم يصفه أنه الذكي في استغلال الظروف السياسية لمصلحته ودعا الى قيام توازن بين نوري السعيد وصالح جبر وهو بنفس الوقت صديقهما داعياً الى ان يرتاح الرجلان من عناء المنافسة.
ثم هو القادر على اقتناص الفرص وتهيئة الاجواء لرئاسة الوزارة بالتنسيق مع احمد مختار بابان والساسة الاخرين المستقلين على ضرورة الحد من اكثرية نوري السعيد البرلمانية حيث دعا الى قيام جبهة برلمانية تأتمر بأمر الوصي عبد الاله ليكون قادراً على اختيار رئيس الوزراء الذي يرتاح اليه.
وعليه هناك فرق كبير بين الرجلين نوري والجمالي في التكوين الظرفي لكل منهما حيث انسحب الزمن عنصراً اساسياً مباشراً في تكوين ملامح هاتين الشخصيتين السياسيتين
نوري سعيد من جيل 1800 بدأ حياته عسكرياً بصنف ضابط في الجيش العثماني وحين بدأ الافول على الامبراطورية العثمانية يلوح في الافق السياسي التحق بالامير فيصل بن الحسين الذي كان يقود جيشاً غير نظامي من العرب والى جانبه صديقه لورانس رجل المخابرات البريطاني المعروف بنشاطه ومغامراته وتنكره في ازياء عدة وصولا الى هدفه الاستخباري وتوفير المعلوماتية التي تساهم في اندحار تشكيلات الجيش العثماني على صعيد الجزيرة العربية الى جانب الجيش البريطاني المؤلف غالبيته من الهنود المغلوبين على امرهم استعمارياً وكان نوري احد ضباط الثورة العربية بقيادة الشريف حسين وقد ارتدى العقال والكوفية فوق البدلة العسكرية تيمناً بالزي العربي الذي كان يرتديه الامير فيصل.
وقد صنف نوري السعيد من قبل الانكليز بأنه عربي قومي من العرب الاوائل الذين تبنوا قضية العرب ومن الذين حملوا السلاح بأسمها وكان اخر اعماله اسهامه في ميلاد الاتحاد العربي الهاشمي بين العراق والاردن وليس بين العراق وسوريا كما كان يدعو اليه من خلال مشروع الهلال الخصيب الذي كان يتبناه ويعمل من اجله ويثقف عليه حتى انه كان مادة منهجية في الدراسة الابتدائية
لقد كان الاتحاد العربي الهاشمي رداً على الوحدة العربية التي قامت بين مصر وسوريا برئاسة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وتحت اسم الجمهورية العربية المتحدة حيث كان نوري السعيد من اكثر الرؤساء العرب تربصاً بالرئيس الراحل جمال عبد الناصر ومن اشهر المناوئين له في حين ان شخصية الجمالي تتطلع نحو المستقبل بآفاق رحبة فهي شخصية مدنية نالت علومها بوسائل حديثة واغترفت من الثقافة الاجنبية بما يناسب روح العصر ومحاكاة الشعوب بما يؤهلها في توفير مستلزمات النهوض بالمجتمع المدني الحديث وفق ارادة وطنية تمتلك من المقومات العلمية بما يفتح الطريق امامها مستفيداً من فترة وجوده الطويلة في وزارة المعارف في تأسيس علاقات مع فئة من الشباب الجامعي الطامحين في النيابة والوزارة حيث استثمرهم لمصلحته في وقت هم حاولوا ان يستثمروه لتحقيق طموحهم حيث يرون انفسهم انهم جديرون بما سيسند لهم من مهام مستقبلية.
لقد صادفت فترة الجمالي تسنم الملك الشاب فيصل الثاني سلطاته الدستورية فكانت عاملاً مساعداً في استقطاب الشباب من الدكاتر ة الجامعيين الى جانبه وضمهم الى وزارته كماضم اثنين من المعارضين لتلطيف الاجواء السياسية وهما كل من الدكتور عبد الرحمن الجليلي وحسن عبد الرحمن المحامي.
وللمؤرخ العراقي المشهور الراحل عبد الرزاق الحسني رأيه في شخصية الجمالي حين دعاه الملك فيصل الثاني الى تشكيل الوزارة حيث يقول: كانت حادثتا اطلاق النارعلى المحجوزين في سجني بغداد والكوت في 18 حزيران و3 ايلول عام 1953 عملاً استفزازياً اقام العراقيين واقعدهم في مختلف ديارهم وادى الى زعزعة الثقة في الوزارة المدفعية السابعة ان لم يكن السبب المباشر في سقوطها وكان رئيس مجلس النواب الجمالي قد صحب الملك وولي عهده عبد الاله في سفرهما الى بحيرة كلشين على الحدود العراقية والايرانية للاستجمام وهو مشبع بالافكار التي كانت تراوده عن الدور الذي يستطيع العراق ان يلعبه في الوطن العربي وفي سياسة الشرق الاوسط وفي احدى الليالي وفي حالة من الارتياح النفسي الذي يتوفر في مثل هذه الرحلات والفضاءات الاستجمامية سأل الملك الجمالي عن بعض الاوضاع العامة وعن بعض الاشخاص الذين يرغب في ان يبقوا معهم فيما اذا كلف بتشكيل وزارة تخلف وزارة المدفعي الايلة للسقوط ثم سأله عن السياسة التي سينتهجها في المجالين الداخلي والخارجي فأجاب عن ذلك بما عرف عنه من لباقة وبعد نظر وادراك لما ينوه عنه الملك الشاب.
في 15 ايلول 1953 استقالت الوزارة المدفعية وكالعادة انتشرت الترشيحات والتخمينات حول من سيؤلف الوزارة فمنهم من راى ان السيد محمد الصدر سيكون رئيساً للوزارة الجديدة حيث شاع ما مفاده ان رئيس الوزراء سيكون من غير رؤساء الوزراء السابقين وان مجلس النواب سيحل فهومجلس ولد في ظل الاحكام العرفية التي اعلنها نور الدين محمود لتصار الدعوة الى انتخابات جديدة تتوافر فيها الحرية ويمثل فيها الشعب تمثيلاً صحيحاً ويدفع الغبن عن المواطنين لكن رأي الدكتور الجمالي جاء مخالفاً لهذه الطروحات حيث وجده بصفته رئيساً له يتمتع بالحيوية والتعاون وبمستوى لا يستهان به بالرغم من كونه قد وجد في ظل اول حكومة عسكرية في العراق وكان رأي الدكتور الجمالي متوافقاً مع رأي الملك في الابقاء على مجلس النواب على ماهو عليه الامر الذي ادى الى ان ترسو الوزارة عليه فصدرت الارادة الملكية بتكليفه فأسرع بتأليف وزارته من اصحاب الشهادات ممن يتمتعون بالحيوية والنشاط والكفاءة والنزاهة تاركاً للملك اختيار وزير الدفاع من قبله مباشرة انطلاقاً من كون الملك القائد العام للقوات المسلحة العراقية فأختار ولي العهد الامير عبد الاله حسين مكي خماس وزيراً للدفاع.
وحين شكل الجمالي الوزارة رغب ان يسند منصب وزير الداخلية الى سعيد قزاز لكن الاخير اعتذر رافضاً الا ان ضغوطاً مورست على سعيد قزاز من جهات عليا في المسؤولية في قبول المنصب فوافق وصدرت الارادة الملكية باسناد حقيبة الداخلية اليه في 19 ايلول 1953 بعد يومين من تاريخ تشكيل الوزارة فتكامل عدد اعضائها
ان من الثابت تاريخياً ان ماجرى ويجري خلف الكواليس وفي اللقاءات السرية في مختلف الازمنة القديمة والحديثة والمستقبلية هو ما يطفو على السطح ويحول الى قرارات وممارسات تطبيقية بعد الاقتناع بصحته بانه الصالح المسموح بأعلانه وتداوله حسب رأي مصدر القرار بطبيعة الحال.
وعليه يوضح السيد خيري امين العمري في كتابه الخلاف بين البلاط الملكي ونوري السعيد ان ولي العهد عبد الاله قد تجاهل نوري السعيد في امر استشارته باسناد رئاسة الوزارة الى الدكتور الجمالي على الرغم من كونه يملك الاكثرية البرلمانية حيث يقول ولعل الوزارة التي الفها فاضل الجمالي في ايلول 1953 وما رافقها من ملابسات تكشف هي الاخرى عن العلاقة التي كانت تربط نوري السعيد والامير عبد الاله وما كان يسودها من فتور ويشوبها من خلاف فقد تجاهل عبد الاله نوري السعيد ولم يقم باستشارته على الرغم من انه رئيس حزب الاتحاد الدستوري الذي يملك الاكثرية في المجلس النيابي ولم يخف نوري السعيد ضيقه او يكتم تبرمه فأعلن في مؤتمر صحفي عدم استشارته واستدعائه للمداولات التي تمت في سرسنك لتأليف وزارة فاضل الجمالي.
هذا الواقع الذي اعلنه نوري السعيد انعكس على الاكثرية البرلمانية التي وقفت موقفاً سلبياً من وزارة الجمالي الامر الذي شجع المعارضة على مواصلة حملاتها ضد الوزارة والذي اثار غضب ولي العهد وطلب خليل كنه للحضور امامه وعاتبه على موقف الاكثرية المضاد للوزارة طالباً اليه ان تمنح الاكثرية الثقة للوزارة فرد عليه خليل كنة بقوله ان هذا الطلب ينطوي على ضربة للحزب وطعنة للنظام الديمقراطي ويؤدي الى تركيز المسؤولية على البلاط.
فغضب ولي العهد وبدت عليه علامات الانفعال وقال له انه حاول عبثاً ان يحمل نفسه على محبته وطلب اليه المغادرة.
وعليه استقالت وزارة الجمالي وظل عبد الاله يحاول وضع العراقيل امام محاولة تكليف نوري السعيد الوزارة ليضمن فشله ليتجه الى غيره في تشكيل الوزارة فمن يثق به ويميل اليه.
لقد جوبه الجمالي بعدم رضا السياسيين التقليديين الذين سبقوه في تشكيل الوزارات او الاستيزار والذين عرفوا بمحافظتهم على الرتابة والروتينية ذات الصيغ البطيئة النمو والتطور في ديناميكية العمل اليومي ومنهم توفيق السويدي الذي قال ان الجمالي اخطأ حينما اختار وزراءه من الشبان اصحاب الشهادات.
وللسياسي المعارض رئيس حزب الاستقلال السيد محمد مهدي كبة الداعي الى النزاهة في العمل الوطني وتوظيفه لمصلحة الجماهيرالكادحة من خلال انصاف العمال والفلاحين بتوفير فرص عيش افضل لهم بدءاً باجراء انتخابات نزيهة حرة يصل فيها ممثلوهم الى قاعة البرلمان ليدافعوا عنهم ويساهموا في تشريع قوانين تخدم هاتين الطبقتين اللتين ظلمتا طوال العهد الملكي..
له رأيه وقوله في وزارة الجمالي الشابة حيث يروي في مذكراته مستعرضاً الاحداث التي وقعت في عهدها:
عندما تولى الملك فيصل الثاني صلاحياته الدستورية واسندت الوزارة الى السيد فاضل الجمالي مالت السياسة العليا كما يبدو الى التغيير شيئاً ما لتحبب عهد الملك الجديد الى قلوب الشعب ولتظهره بمظهر يختلف عن العهود السابقة مع ان هذا الملك بقي رهين ارادة خاله عبد الاله وحبيس توجيهه ولم يبرهن في اية مناسبة بأنه خرج عن نطاق رأيه او رأي المتنفذين من رجال الطبقة الحاكمة الى اخر عهده.