من اصدارات المدى: في عالم أوستر..بروكلين بداية الأمل لحياة أخرى

من اصدارات المدى: في عالم أوستر..بروكلين بداية الأمل لحياة أخرى

بغداد/ أوراق
يدخل أسامة منزلجي عالم الروائي بول أوستر من خلال ترجمته رواية (حماقات بروكلين) الصادر عن دار المدى للثقافة والنشر لنبدأ رحلتنا مع البحث عن مكان هادئ يختم فيه ناتان حياته بعد اصابته بمرض السرطان فلم يجد أفضل من مدينة بوكلين التي غادرها مع والديه وهو بعمر ثلاث سنوات ولم يتذكر من معالما شيئاً، وراح يبحث عن شقة يسكنها في ذلك الحي الذي خرج منه قبل ستة وخمسين عاماً..

ومايلبث حتى يلتقي بابن اخته توم الذي لم يره منذ ثلاثين عاما في إحدى المكتبات يدعى توم فيكتشف انه فقد والدته وتخلى عن دراسته للآداب ولم يعد يعلم بمكان وجود اخته، وهنا يبدأ زمن الرواية بحسب ما يحدده المؤلف في ربيع عام 2000 حين التقينا لتناول الفطور في اليوم التالي فهمنا توم وانا اننا بدأنا نعتمد عاداتنا الصغيرة واليومية. وذلك من دون ان نقرر الامر رسميا، لكن تبين اننا سوف نفعل ذلك كل يوم صباحا الا اذا طرأ امر او مشروع آخر. كنت ابلغ ضعف عمره تماما وكان ناداني في طفولته (خالي نات) وان يكن؟ فأنا اسلم بما قاله ذات يوم اوسكار وايلد، بأن كل الناس يصبحون في سن واحدة حين يتخطون 25 عاما، وبالفعل كنا نواجه ظروفا متشابهة.. ويعلمنا ان توم هوالبطل في الرواية وقد ترك دراسته الجامعية، ليعمل سائقاً لسيارة أجرة اضافة الى عمله في إحدى المكتبات، ونتابع من خلال حوار طويل بين توم وناتان حول طبائع الأشياء وحماسهما الكامن في قلب يأسهما، ونصغي لناتان وهو يقول لتوم: إنك تعشق الحياة، ولكنك لا تؤمن بها، وأنا بدوري لست أومن بها من خلال الحركة والأحداث يولد الإيمان.. ثم تظهر ابنة أخت توم التي لا يتجاوز عمرها تسع سنوات وترفض إبلاغه بمكان أمها أورورا، فيصحبها توم وناتان في رحلة بالسيارة وينجحان في تجنب حادث صدام مروع ويموت صاحب المكتبة تاركاً مكتبته لتوم، وينقذ ناتان أورورا من زوج مجنون. وتحمل الأيام صديقات لكل من ناتان وتوم وأورورا أيضاً. كانت مارينا في الخدمة في ذلك النهار وكانت في بنطال الجينز الضيق والقميص البرتقالي جميلة مثل النهار... وقررت ان اعترف لقريبي انني في حال جيدة وانني في حال حب مجنون لهذه المرأة لكن الامر لن يتقدم. انها متزوجة واضافة الى ذلك، انا اكيد انها كاثوليكية مئة في المئة. ولكن على الاقل هي تعطيني الفرصة للحلم. كنت انتظر من توم ان يستسلم بقوة الى ضحكة رنانة، لكنه لم يفعل ذلك. وبجدية وباحتفالية تامة، مد ذراعه وربت على كتفي من فوق الطاولة قائلا: اعرف تماما يا ناتان الشعور الذي ينتابك واعرف انه رهيب، وصار توم في موقع المعترف. ورحت استمع الى ابن اختي يعترف لي بدوره بأنه مغرم بامرأة صعبة المنال. كان يناديها بأحرف ثلاثة: أ.ش.س او الام الشابة السامية، ولم يكن بعد قد تبادل معها الكلام وحتى انه لم يكن يعرف اسمها. وكانت تسكن في مبنى من الحجر الأسمر يقع تماما ما بين شقة توم ومكتبة هاري، وفي كل صباح، عند خروجه لتناول الفطور، كان يراها جالسة على عتبة المنزل محتضنة ولديها الصغيرين بانتظار الباص الأصفر الذي سيقلهما الى المدرسة. كانت جميلة بشكل ملحوظ بشعرها الطويل الأسود وبعينيها الخضراوين الشعين برأي توم. وأضاف انه اكثر ما يؤثر به حين ينظر اليها اسلوبها في التقرب من ولديها وفي ملامستها الناعمة لهما. وقال انه لم ير في حياته الحب او عاطفة الأمومة معبرة بهذا الشكل الراقي والبسيط الذي يدل على عاطفة وسعادة اكيدتين. وهذا يدل على أهمية حياة التي لابد ان يحياها مع من يحبهم.. وهكذا في صباح اليوم التالي، رحنا نمشي معا في الشارع المفضل في بروكلين عند توم وكنت افكر في قرارة نفسي انه يبالغ حين يتحدث عن قدرتها المغناطيسية والمخدرة حين يذكر تلك الأم الشابة والسامية، ولكن فجأة اكتشفت انني مخطئ. كانت تلك المرأة سامية بحق وهي تجلس على عتبة منزلها وتغمر بذراعيها ولديها، وكان في المشهد ما يجعل قلب عجوز عابس ومتذمر ينفرط من شدة التأثر، حين نظرت اليها من جانب وجهها، اعتبرت انها لا يمكن ان تكون تخطت الثلاثين خاصة انها كانت تتمتع بجسد رشيق.. يأخذ ناتان الأمور بيسر وعلى مهل حتى يذكر أننا لا ينبغي علينا أبداً أن نقلل من قوة الكتب.. فالقصص التي يرويها بعضنا للبعض الآخر ليست تسلية فحسب، وإنما هي أحد تجليات الوصول إلى قلب الأشياء.. وهنا نشير إلى أن توم في إحدى مناقشاته الأدبية العديدة مع عمه ناتان يحكي قصة عن فرانز كافكا مفادها أن كافكا قبيل رحيله عن عالمنا، كان يقيم في برلين مع حبيبته، وذات يوم مضى للتنزه في الحديقة القريبة فرأى صبية صغيرة تبكي. سألها عن سبب بكائها فأبلغته بأنها قد فقدت دميتها، فأعلمها ان دميتها مسافرة، وانه يعرف ذلك لأن الدمية كتبت له رسالة تصف فيها رحلاتها، ووعد الصبية بإحضار الرسالة لها في اليوم التالي. وفي كل يوم وعلى امتداد ثلاثة أسابيع دأب كافكا على أن يحضر للصبية رسالة جديدة كان قد أمضى الليلة السابقة في كتابتها إلى أن وصلت الصبية إلى مرحلة لم تعد تذكر فيها حزنها.. ويقول توم لناتان عن الصبية: لقد أصبحت لديها قصة، وحين يعيش الأنسان منا داخل قصة فإنه يحيا في عالم خيالي وتختفي آلام هذا العالم.. والرواية باختصار شديد تتحدث عن رجل ستيني يبحث عن مدينة مناسبة ليموت فيها بسلام بعد حياة لا يمكن وصفها بالناجحة أبداً فقد خلّف ورائه مطلقة ناقمة وابنة ترفض الرد على رسائله واصابة بمرض السرطان فيقرر العيش مدينة أبويه.. وهناك يلتقي بابن أخته الشاب الذي كان يحلم أن يكونه في صباه و لكنه هو الآخر قد تاه في رسالة الدكتوراه فوجد نفسه دونما انتباه سائقاً للأجرة ومن هذه الظروف غير الجيدة أبداً تنطلق القصة وأستطيع القول بكل ثقة أنها رواية أمل من الطراز الأول برغم كون الكاتب لم يغفل ضربات الزمان القاسية والتي لا بد أن تأتي بين الفينة والأخرى وبحبكة غاية في الدهاء والتشويق تجد نفسك لا تتوقف عن القراءة إلا مرغماً فالرواية جميلة جداً ومكتوبة بعناية فائقة وبحس فكاهي وفلسفي.. وفي الوقت ذاته يؤكد بول اوستر في الرواية على صعوبة حياة أبطالها لكنها تستحق العيش. وأمر آخر هناك مكتبة وهناك حديث جميل عن الكتب والكتابة.