نهضة طه الكرطاني
لأن ما مفهوم وسائد أن الحب والكره مركزهما القلب وأن ما يبقى في القلب هو الثابت وبما أن القلب قد رحل يمكن أن يكون كل شيء قد رحل معه، وأن ما يحمله القلب من مشاعر وأحاسيس وحب أضمحل وضمر وأزيل مع القلب القديم.
هذا ما يتناوله (القلب البديل) للكاتب العراقي المغترب محمود جاسم النجار فهو ليس سيرة بمعنى السيرة ولكنه كما قال عنه:"بعض من مواقف مرت به في حدث غريب لا يتكرر كل يوم ولا يحدث لكل إنسان لذا ارتأى الكاتب أن يشاركنا بعضاً من لواعجه في هذه الصفحات التي صور لنا عبرها تجربته الفريدة في استبدال قلبه المتعب بقلبٍ آخر لإنسان لا يعرفه ولا يعرف جنسه حتى... في بلاد هي ليست بلاده التي ولد وترعرع فيها ولكنها صارت احن عليه من بلاده واحتضنت آلامه ووجد فيها الأيادي التي مسحت على ألمه ووجعه وداوت جراح أمسه المتقد بالحروب..
إننا ونحن نقرأ سيرة أوجاع النجار نجد له العذر وهو يطيل في الوصف فربما يقتل السرد التفصيلي متعة التشويق لكنها سيرة مشاعر قد يطويها الزمن بآفة النسيان أو نعمة النسيان. مع القين أن النسيان حالة غير موجودة فلا أحد يستطيع أن ينسى برغم تداعي الأيام...
يقول النجار..."كنت ميتاً أمشي على طريق الحيرة والضياع في نزر الحياة المتبقية كأن أيامها هي الوقت الضائع وصافرة الموت قد أنذرت جسدي وعليَّ احترام ما يتبقى من هذا الوقت المتاح".
- (القلب البديل) هو تجربة فريدة من خلال أبعادها الإنسانية والعلمية والأخلاقية والحياتية في عالمنا العربي وهو درس كبير نتعلم منه قيمة الحياة، على الأقل بهذه الحقبة الزَمنية من بداية الألفية الثالثة التي تزامنت مع ما يُسمى بالربيع العربي، وما صاحبه من تغيير كبير لأوضاع الكثير من بلدان الوطن العربي وما تبعه من انحدارٍ واضح في كل المعالم الحياتية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية والإنسانية، وما نراه من خلال شاشات التلفاز، من تراجع حاد في الفكر والثقافة ومن قتل ودمار وتأجيج للطائفية والتوجه الحاد نحو التخلف والأمية العَمياء، في الوقت الذي نرى فيه شعوب بلاد الغرب تتقدم مئات الآلاف من الأميال لتحقق ذاتها وإنسانيتها وحريتها وإنشاء أجيال تؤمن أكثر بالاسترخاء والعلم والمَدنية وحرية الرأي والفكر والعَمل الدؤوب، وتبذل في الوقت ذاته الكثير للتركيز على الإنسانية والمحافظة على الذوق العام والحُب والموسيقى وكل الجوانب الثقافية الأخر وتسير بمصافٍ واحد، فالصدق هو المعيار الذي يعيش عليه المجتمع الأوربي بعيداً عن التزلف بالدين والتنابذ بالألقاب والاثنيات بينما القانون هو ما تعتمده المجتمعات المتحضرة وهو الشيء المقدس الذي تتمسك بع فالإنسان هو القيمة العليا التي يجمع على أهدافها وصيانتها الجميع.
لقد حاول النجار أن ينجز الكتاب ومحاولة إصداره قبل اكتمال السنة الأولى لعَمليته ليكون كما يقول"هدية لي ولقلبي الرفيق، حتى أني أسميته باسمه)القلبُ البَديل (وأتمنى أن يطلع عليه الفرد العربي، عسى أن ينظر إلى شعوب العالم الأخر المتحضرة، كيف تجاهد لتخلق الحياة وتطبق الإنسانية بمعانيها الجميلة وتتحلى بالأخلاق الحميدة، بينما بلداننا الأصيلة ذات التأريخ البعيد بقرونه وأسفاره الإنسانية الطويلة، قد أدخلتها الحروب والطائفية مراحل الظلام بسرعة لا يتحملها العقل ولا المنطق، وباتت تجاهد لتخريب النَماء والتأريخ وخنق المعالم الإنسانية ومفاهيمها والصفاء الذي يملأ الكثير من ثقافاتنا وتشويه كل صور الجمال".
أن أيام الكاتب كانت قد ضاعت هدراً بين أحزان وغربة وحروب وأمراض وأدوية وبين اتساع هوة الموت ومداراتها كل يوم بحوافر خيول الألم وهرطقة نبضات قلب يؤمن بالثبات والنفي والحياة بكل ما هو وهم وما هو حقيقي، بينه وبين الحياة حلم بعيد المنال وطرق وصحراء شاسعة وهموم الانتظار المخيف. لكن مع ذلك كله نجده يقول"تعلقت بك أيتها الحياة برغم مرارتك التي هضمتها ولازمتني دهراً، وسأسعى إليك أيتها العافية وسأتمسك بك وتصيرين وجهتي".
في ثنايا سيرته المؤلمة نجد النجار يصف ما مر به من مواقف خلال سير العملية الفريدة فيقول.. قد نتعلق بحبل والسعادة ونحلم بجنة موعودة وقد نصفها بأخضر حياتنا وزهو أيامنا. لم أتعلم كيفية المضي في دروب السعادة وتذوق حلاوة معيشتها من دون أن تمضغني ذاكرتي المشوبة بالحسرة وكم كنت أتمنى أن يشاركني أهلي وأحبتي بشيء مما أعيش وأتمنى.
فالأهل والأولاد هم بضعتي في هذه الدنيا القاحلة، لا أحد يعي هذه الحقيقة إلا حين توضع أقدامه على المحك الأخير وترتج أنفاسه على الجدار الفاصل بين الحياة والموت. لكن الأمر من ذلك كله هو الوحدة القسرية الرفيعة المزعجة التي لم أختارها رغبة وسلوى بل فرضت عنوة فكانت محنة عاشرتها وقضيت معها أغلب الأوقات وما أطول ليل المرضى وسريره الأبيض حيث يغدو سؤال الأصدقاء أمام الأغراب وطناً تتباهى به فالمعاناة النفسية ممن كنت أحسبهم أخوة وأحبة تجاهلوا وضعي الصحي وما كنت أعانيه وإهمال أبناء جلدتي الذين تخلوا عن مسؤولياتهم الأخلاقية والإنسانية.
أن ما يعينني ويدفعني إلى التفاؤل والأمل تلك النظرات الواثقة التي تلقيها علي ملائكة الرحمة وأصحاب الأردية البيضاء وأنا على السرير الذي تجذر فيه جسدي بكل تفاصيله لأسابيع طويلة لتأسيس حياة حاضرة تحت رعايتهم حياة ملؤها الأمل والسعادة المأمولة القادمة. فالإنسانية لغة واحدة في كل زمان ومكان ولقد جدت هذه الإنسانية والوفاء والرحمة وأداء الواجب عند الغريب أكثر بكثير من أبناء الوطن. فأمام شخصية الأوربي أياً كان حتى لو كان لصاً تعيش معظم شعوبنا حالة الفقر رغم أنها تمتلك الكثير من المقومات لتكون بأفضل حال ولكن الفرد العربي يعيش حالة الكبت الاجتماعي والديني والمذهبي والطائفي والجنسي حتى يجد نفسه آخر الأمر محاصراً وتتوالى الحياة بطريقتها الاستهلاكية المجحفة للنفس البشرية التي ولدت وترحل من دون أن تعي شيء من هذه الدنيا إلا التكاثر والادعاءات الفارغة والاهتمام بشجرة العائلة وتكاثر الأموال.
- كنت أتمنى لأصدقائي أن يحققوا لأنفسهم بعضاً من الإنسانية ويتحفوني بها ويرفعوا من معنوياتي أمام الأغراب الذين لمسوا حبي لوطني وكل ما تبقى لي هو إرادتي الصلبة وكتبي التي أرى بها الغد فالتدوين هو العزاء، البوح، هو المشاركة، التواصل، هو الحب كي استطيع النهوض. كانت تعابير وجهي وانفعالاتي كفيلة بترجمة رحلة أفكاري. إنه تصفح لورقة موجعة في سجل الذكريات الوفيرة.
عالمان يتصارعان كما لو كانا الأرض والسماء، إنهما الحياة والموت ثنائية أزلية صاحبت الوجود منذ الخليقة الأولى. ولا زال السر الإلهي الكبير بما يتعلق بالإنسان هذا المخلوق الذي لم يعرف متى يولد ويجهل متى يموت، وهكذا تغير مجرى النهر في حياته وكأنه انتقل من شلالات الشباب وعنفوانها إلى واحة سكينة في ظل نخلة الله إلى مرحلة الشيخوخة المخيفة التي تشعره دوماً بيتم الغد كأنه محض مسافر يستكين بها ويريح راحلته ويتناول زاده القليل تحت ظلها ويستقي من مائها الصافي ويرحل إلى سبيل يعرف منتهاه. يا لضعف الإنسان أمام الموت ذات لحظة وهو الذي يكون قيصراً أو إمبراطوراً أو دكتاتوراً في لحظةٍ أخرى.
ها هو النجار يرى الاثنين معاً (الموت والحياة) كما الشيخ الراهب في صومعته وكعالم بالموت وما تحتويه الحياة من بعده، الموت كعالم للفناء والصمت البارد يتوشح بالسواد والمرارة واللاعودة وجهل الإنسان بما يحيط به من مهالك..... ويظل يلهث وراء هذه الدنيا الفانية.
يقول عن هذه التجربة القاسية... تعلمت كم هي غالية الحياة بجمالياتها وعافيتها وحب الخير وتقيدت مثل مأمور مطيع بحذافير تعليمات الأطباء وجدولها الصارم لضمان الحياة. كالمحكوم عليه بالإعدام ساعة يلبسونه البدلة الحمراء ويسألونه عن آخر رغباته، حاولت أن يكون دعاء أمي آخر ما يتبقى معي لم أهدر وقتي بأشياء غير ضرورية أو التفكير بتوافه الأمور والنوم وانتظار المَوت، فلقد عملت الكثير خلال تلك الفترة الظامئة من حياتي وفترة مرضي القصوى، كانت لي العديد من النشاطات الثقافية وكتابات ومقالات في العديد من الصُحف والمجلات وبقية وسائل الإعلام وإسهامات فنية وإبداعية كثيرة، ولم يكُ أحد يصدق بأني أحمل بداخلي قلباً عليلاً يقترب كل يوم خطوة أو خطوتين إلى حافة الموت.
أول خروجي كنت أشعر بالحياء وأتصرف وفق منطق التعارف الجديد مع الأشياء والأشخاص، وقد وضعني سؤال بريء من طفلي الصغير لوالدته (ترى هل ستطيع أبي أن يتذكرني بعد أو يتعرف علي بعدما أجريت له العملية) على المحك في الوقت الذي كان الكبار لا يجرؤن على طرحه لذا ذهبوا يخترعون صيغ أخرى للوصول إليه، فالبعض من معارفي يستوقفني ويتمنى لي الشفاء، وبعد العملية كان البَعض الآخر غير مُصدق لهذا كنت أتحاشى الإجابة وأرد باقتضاب، محاولاً قطع أوتار الحَديث، بما تمكنني ثقافتي من براعة الالتفاف بالحديث كنت أتعرض لبعض الأسئلة المُحرجة أحياناً عن ما أشعر به، أو عن شخصية توأمي ومعرفة بعض المعلومات عنه، كنت أجيبهم كما نويت أن أجيب لمن ليس له علاقة وطيدة بي بنفس جوابي الدائم) أنا مُنهمك ومنشغل بالكتابة عن ما جرى لي وعن وضعي الطبي وما مررت به وسوف تقرؤونه قريباً بالتفصيل بصفحات كتابي القادم(، وهكذا كنت أنهي الحديث والفضول كي لا أخوض بمتاهات الحديث أكثر، كنت أعده احتراماً ووفاءً لروح وجسد ونبض القلب الذي أحمله بداخلي وأتعامل على أنه خصوصيتنا نحن الاثنين معاً، مع أني لا أعرف الشخص الذي منحني قلبه إلا أنه أصبح أقرب من حبل الوريد وأصبحت أشعر به وأتعايش معه في حالة من تناسخ أو توأمة مع روح شخص آخر وفي جانبٍ آخر كنت أطبق وبدون أية شعور مقصود ومسبق، ما يطبقه معشر المُسلمين في الحياة اليومية المُعتادة وطقوسها بفقدان شخص ما، فالأشهر الأولى لها صمتها وقدسيتها والسنة الأولى لها حُزنها وكأنني بذلك، بعد أن يهبنا ربنا نعمة النسيان رويداً رويداً، لكننا نبقى نترحم على موتانا ما حيينا ومتى ما مرَّ ذكرهمُ وأنا بذات الوقت سأبقى أترحم عليه ما حييت، وأظنني سأخلدُ ذكراه بين الناس في كتاب، من المُمكن أن يقرأه الناس ويتعايش معه ما حييت لا أعتقد أن من السهولة نسيانه. كنت أسعد بالأمل الذي صحا من نومته الكهفية الطويلة ممتلئاً باليقين والجمال والغد.
أخيراً ادركت أن ترابي ونبضي ودمي الغالب هو عراقي ومن عاصمتي ومدينتي بغداد بامتياز مع أني صرت أحس بانتمائي الكوني بعد أن زرع قلب غريب في داخلي وأنا الآن أستطيع أن أحلم وأمسك بريشة الغد وأخطط له.