ذكريات عمرها نصف قرن..مع الشهيدين صفاء الحافظ وعبد الجبار وهبي

ذكريات عمرها نصف قرن..مع الشهيدين صفاء الحافظ وعبد الجبار وهبي

حامد الحمداني
كاتب وباحث
في الأول من حزيران عام 1955 تلقيت رسالة من اللجنة المحلية للحزب الشيوعي للسفر إلى بغداد بمهمة خاصة لم تفصح عنها الرسالة ، وكل ما في الأمر كان عنوان لأحد الرفاق في بغداد لكي اتصل به مع كلمة السر ، كما حملتني اللجنة المحلية في الموصل برسائل حزبية مغلفة لقيادة الحزب في بغداد .


وفي اليوم التالي شددت الرحال إلى بغداد بالقطار حيث وصلتها صباح اليوم التالي وأسرعت إلى عنوان الرفيق الذي كان يعمل بمحل تاجر في سوق الأقمشة .
وبعد أن تعرفت عليه وأعطيته كلمة السر وأجابني على الكلمة سلمته البريد الخاص بقيادة الحزب ، وطلب مني أن نلتقي عصراً في نفس المكان .
وفي الوقت المحدد جرى اللقاء القصير بيني وبينه حيث ابلغني بالذهاب إلى عيادة الدكتورة نزيهة الدليمي في منطقة الشواكة حيث ستكون بانتظارك ، وعلى الفور توجهت نحو الشواكة وصرت أبحث عن عيادة الدكتورة نزيهة ، وقد توصلت إليها دون عناء ودخلتها وسجلت نفسي كمريض لديها .
وجاء دوري للفحص ودخلت إلى الدكتورة نزيهة وحييتها تحية رفاقية وأبلغتها أنني قادم إليها بطلب من الرفيق الذي جرى الاتصال به من قبل .
رحبت الدكتورة نزيهة بي أجمل ترحيب وتحدثت معي بصورة مباشرة عن المهمة التي جئت من أجلها من الموصل حيث قالت لي :
أيها الرفيق بما انك غير مكشوف للسلطة ، و لديك جواز سفر نافذ وحقيقي كما أُبلغنا من منظمة الموصل فإن حركة السلام تكلفك بمهمة تمثيل العراق في مؤتمر السلام في هلسنكي ، وأعتقد أنك على استعداد لتنفيذ هذه المهمة .
وأسرعت للإجابة بكل سرور أيتها الرفيقة وسأنفذ الواجب بكل أمانة ، وأسرعت الرفيقة نزيهة إلى فتح حقيبتها وأخرجت ظرفاً يحتوي على خطاب الوفد العراقي المعد سلفاً من قيادة الحركة لكي القيه في المؤتمر .
كما أعطتني رقم هاتف لأحد الرفاق في بيروت مع كلمة السر لكي اتصل به لكي يرتب لي أمر السفر هناك حيث يجري تجمع الوفود العربية في بيروت وقد أرسلت فلندا سفينة إلى بيروت لنقل الوفود العربية إلى هلسنكي ، طالبة مني السفر فوراً بسبب محدودية الوقت وقرب إبحار السفينة .
وعلى الفور ذهبت على [نقليات نيرن] للسفر عبر الصحراء وحجزت مقعد لي في اليوم التالي والفرح يغمرني لتكليفي بهذه المهمة الكبيرة .
وانطلقت بنا السيارة في اليوم التالي عبر الصحراء بين العراق وسوريا ، لكن الحظ التعيس كان لنا بالمرصاد حيث تعطلت السيارة في الصحراء وتعذر إصلاحها بسبب كسر احد المكابس في المكينة [ البستن ] مما تطلب إرسال سيارة أخرى والذي استغرق يومان في الصحراء ، وواصلنا السفر نحو دمشق ومنها انتقلت مباشرة ودون توقف إلى بيروت التي كان أول عهدي بها وبدمشق حيث لم تتح لي الفرصة للسفر خارج العراق من قبل .
وصلت بيروت على ما اعتقد عصر يوم 7 حزيران 1955 ،وطلبت من سائق التاكسي أن يأخذني على فندق متوسط السعر ونظيف حيث أخذني إلى فندق [ ناسونال ] وكان الفندق راقياً ونظيفاً وغرفه واسعة وأثاثه جيد ، وأجرة المبيت لليلة الواحدة 7 ليرات لبنانية آنذاك .
كنت منهكاً جداً من تلك السفرة ولم اعد أتمالك نفسي من شدة الإعياء ، فقلت في نفسي ينبغي أن آخذ قسطاً من النوم لساعة أو ساعتين كي استعيد شيئاً من الراحة ، واذهب لتناول العشاء ومن ثم اتصل بالرفيق الذي استلمت رقم هاتفه من الدكتورة نزيهة الدليمي .
وألقيت جسدي المنهك على السرير من دون أن أغير ملابسي ، ورحت في نوم عميق ، وعند استيقاظي من النوم ضننت أنني قد نمت ساعتين أو ثلاث ، لكني وجدت أن الشمس قد أشرقت من جديد ، ونظرت للساعة للتأكد من ذلك فوجدتها تشير على الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي .
إذا لقد نمت منذ عصر اليوم السابق وحتى الساعة العاشرة من اليوم التالي 8 حزيران ، وأسرعت نحو التلفون وطلبت الرقم المطلوب وتحدثت إليه بكلمة السر ، فطلب مني اسم الفندق ورقم الغرفة واسمي الحقيقي في الجواز وأبلغني أنه قادم إلي خلال ساعتين على ابعد تقدير وطلب مني عدم مغادرة الغرفة .
وقبل انتهاء موعد الساعتين وصلني شخصان لم التقي بهما من قبل وعرفاني بشخصيتهما وهما يصافحاني ،[الدكتور صفاء الحافظ ] و[المحامي عبد الجبار وهبي] والمعروف بأبي سعيد .
وفاجأني الرفيق صفاء الحافظ بقوله رفيقنا لقد تأخرت وأبحرت السفينة يوم أمس صباحاً ، كان الحديث كنازلة حلت بي صدمتني وأصابتني بالذهول .
وأدرك الدكتور صفاء ما يجول في خاطري فبادرني بالحديث سنحل المشكلة لا تحزن ، سأتصل بالدكتور المهندس [ أنطون ثابت ] رئيس حركة السلام اللبنانية لكي يدبر لك الأمر ، ويسهل موضوع سفرك .
ثم جلسنا نتبادل الحديث عن أوضاع العراق وكان الرفيقان يوجهان لي العديد من الأسئلة حول وضع الحزب وحول نشاط حركة السلام العراقية ، وحول إرهاب نوري السعيد ورد فعل الأحزاب السياسية الوطنية وجماهير الشعب على مراسيم نوري السعيد التي أفرغت الدستور من كل مضامينه الديمقراطية .
كانت الجلسة الأولى مع الرفيقين الخالدين رائعة جداً أشعرتني أننا لم نلتقي قبل فترة وجيزة ، بل كأنها علاقة سنوات ، وشاءت الظروف أن تتكرر لقاءاتنا يومياً في بيروت ولعدة أيام ، ومن ثم تكررت اللقاءات بعد ثورة الرابع عشر من تموز وعودة الرفاق المبعدين ولاسيما بعد انتخابات نقابة المعلمين حيث كنت أحد أعضاء وفد الموصل ،وكان الرفيق الشهيد صفاء الحافظ قد انتخبه المؤتمر سكرتيراً للنقابة .
اتصل الرفيق صفاء الحافظ بالدكتور [ أنطون ثابت ] في مكتبه الهندسي وأبلغه بزيارتي له طالباً منه تدبير أمر سفري بالطائرة .
وذهبت إلى مكتب الدكتور أنطون ثابت ، وتمت المقابلة ، وقد رحب بي كثيراً ، وشرحت له الأمر ، وما حدث للسيارة التي أخرت وصولي ، ورجوته بذل الجهود من أجل تدبير سفري واللحاق بالمؤتمر قبل انعقاده.
وقد أجابني الدكتور ثابت بأنه سيتدبر أمر بطاقة السفر خلال بضعة أيام ، حيث أن أحد أعضاء نواب البرلمان اللبناني الذي كان مدعواً لحضور المؤتمر من المحتمل أن يعتذر عن السفر ، وإذا تأكد لنا عدم سفره فسوف نعطيكم البطاقة .
وهكذا انتهى اللقاء وصافحته وخرجت وأنا بين الشك واليقين من أن أتمكن من الوصول إلى هلسنكي قبل بدء أعمال المؤتمر .
وبقيت انتظر بفارغ الصبر ، وكنا نخرج كل يوم أنا ورفاقي صفاء الحافظ وأبو سعيد الذي كان يصطحب معه أحياناً طفله سعيد وابنته الصبية نادية ، وكنا نجلس في مقهى البحرين ونتبادل أطراف الحديث حول الأوضاع العراقية والعربية والدولية .
في اليوم الثالث لوصولي وكنا جالسين في المقهى سألني الدكتور الحافظ إن كنت سأبقى في فندقي الذي يعتبر غالياً نسبياً آنذاك وقال لي مازحاً :
[ رفيق يبدو أنك برجوازي ، لماذا تدفع 7 ليرات يومياً وبإمكاني أن آخذك إلى فندق نظيف وبسعر ليرتين يومياً فتوفر 5 ليرات عن كل ليلة .
ووافقت على الفكرة في الحال وتم انتقالي على فندق آخر نظيف حقاً وجيد ولكن من دون مصعد وكان علي أن أصعد عدة طوابق مراراً كل يوم ، وقد خطر لي أن اسأل الرفيقين عن أوضاعهما المادية ، وعلمت أنهما يعانيان من وضع مالي صعب للغاية .
كان معي 100 دينار عراقي فبادرت على الفور أيها الرفاق الأعزاء لنقتسم ما عندي فنحن رفاق وينبغي أن نتقاسم في السراء والضراء ، وتم لي ما أردت رغم رفضهم ذلك بادئ الأمر.
وبعد أيام أبلغنا الدكتور أنطون ثابت بأن البطاقة قد دُبرت وأصبح السفر متاحاً لي ، ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان .
فقد وصل في ذلك اليوم الرفيق عطشان الأزيرجاوي ومعه رفيق آخر لا أذكر سوى اسمه الأول عبد القادر وكان الإثنان مطاردان ويحملان جوازين مزورين ، واقتضت الضرورة أن يعود أحدنا إلى بغداد لإيصال التعليمات الخاصة بمهرجان الشباب في وارشو ببولندا في الشهر القادم والعودة مع الوفد العراقي إلى دمشق حيث سينتظرنا اليخت الخاص بملك رومانيا السابق [ ليبرتاتا ] في ميناء اللاذقية حيث نتوجه إلى ميناء [كوستانز] في رومانيا ومنها نأخذ القطار إلى وارشو عبر بودبست .
وتحادثنا حول من يستطيع العودة دون مخاطر ويوصل المعلومات إلى الحزب في بغداد ، وكان لا بد من أن تكون العودة من نصيبي حيث أنني غير مكشوف للسلطة أولاً وأمتلك جوازاً حقيقياً نافذاً ثانيا ، وكان لا بد من تقبل الأمر، فقد كان من المستحيل عودة أي واحد منهم إلى بغداد ، والتفت إلي الرفيق صفاء قائلاً ستأتي معنا إلى مهرجان الشباب الرائع ، وأضاف قائلاً : [رفيق المهرجان يسوى إعدام ] .
وبادرته قائلاً سأتقبل الأمر بكل سرور لأنني ينبغي أن لا اعرض حياة احد الرفاق للخطر ، وأخذت البريد وكان كبيراً يصعب إخفائه في الجيب، لكني حملته في حقيبتي ملفوفاً ببعض الملابس وعدت إلى بغداد على أمل العودة مع الوفد إلى دمشق وتم الاتفاق على الفندق المعين للقائنا من جديد .
وسلمت الخطاب إلى الرفيق عطشان الأزيرجاوي الذي سافر بالطائرة على هلسنكي فيما بعد، ومثل العراق في المؤتمر . وعدت إلى بغداد وأوصلت المعلومات حول المهرجان وسافرت إلى الموصل حيث قضيت يومين هناك مع أهلي ثم قفلت راجعاً إلى بغداد ومنها توجهت مرة أخرى إلى دمشق ، وبدأ أعضاء الوفد العراقي يتقاطرون إلى دمشق استعداداً للرحلة إلى واشو والمشاركة في المهرجان العالمي الخامس للشباب والطلاب.