أسعد عبد الرزاق: المحامي والفنان

أسعد عبد الرزاق: المحامي والفنان

د.عقيل مهدي يوسف
ولد أسعد عبد الرزاق في جانب الكرخ من بغداد في عام (1923 – 2013 ) وتتلمذ في مدارسها , حتى تزامنت دراسته في معهد الفنون الجميلة ، "تخرّج فيه" عام (1949 ) مع دراسته للحقوق تخرج عام (1950 ) , ثم انخرط بعد ذلك في بعثة الى ايطاليا ليتخرج من معهد ( شاروف ) في روما لدراسة المسرح عام 1958)


وتدرج بين مراتب ادارية وتربوية من رئيس قسم المسرح , حتى معاون , ثم عميد اكاديمية الفنون الجميلة من (1968 – 1988 )
حدثني الاستاذ أسعد مرةً عن مغامرات طفولته بأنه حين يكون الفصل صيفاً , ينام العراقيون فوق سطوح منازلهم , تسلل وهو صبي الى نقطة الكهرباء دافعاً بلسانه الى داخلها , ليكتشف بحسه الطفولي آنذاك , انه لولا العناية الالهية , والقدر لكان من الهالكين بصعقة كهربائية لا تُبقي ولا تذر .
دفعه حب الاطلاع الى مشاطرة بعض رفاق صباه للذهاب الى السينما ومشاهدة الافلام المصرية بشكل خاص,
مثّل في تلك المرحلة مسرحية " مجنون ليلى " من اخراج مدرس اللغة العربية المصري ( ابراهيم عبد الفتوح ) , كانت الفكاهة قد استهوته في المسرح .
ما ان عاد الفنان " حقّي الشبلي " من بعثته الدراسية في فرنسا حتى أسّس فرع المسرح في بغداد , الأمر الذي شكّل تحدياً لموقفه , وموقف الأسرة فيما يخص جدوى دراسة الفن المسرحي , تضاربت الاهواء بينهما , هم يريدونه ان يصبح محاميا , وهو يريد لنفسه مستقبلاً فنياً مغايراً لتوقع الـأسرة , لكنه بموازنة دقيقة بين الخيارين , كرّس جهده في التخصص بكلا الحقلين , الفن والحقوق على السواء .
تعرّف منذ فترة مبكرة على زملائه أمثال : ابراهيم جلال , جاسم العبودي , جعفر السعدي , حيث شاطرهم الطموح في تأسيس حركة مسرحية تنهل من التجربة التربوية والعربية والعالمية في بعض دروسها على وفق الظروف الاجتماعية المتحكّمة حينذاك , وطبيعة " القدرات " التي يتوفر عليها ذلك الجيل من مواهب , ومعارف , وتقنيات , واحتكاك مع آفاق ذلك المسرح الوافد , بنظمه واستراتيجياته ومقارية أهدافه .
حين نسأل الاستاذ أسعد عن الفترة التي عاصرها منذ الملكية حتى الجمهورية , يسترسل مع " ذاكرته " , مستحضراً شخصيات سياسية تشغل القمة في ذلك الزمان , من ملك في بلاطه الى زعيم في قصره الجمهوري , الى رؤساء وزراء ومسؤولين , كلهم كانوا يتبارون في حضور عروض المعهد المسرحية مع غمار الناس , وغالباً ما يعيد على مسامعنا قصة حضور الزعيم عبد الكريم قاسم لمشاهدة العروض التي كانت تقدم آنذاك في المعهد , وجلّها من اخراج الرائد " حقّي الشبلي "
ان الاستاذ اسعد يتذكّر مشاهد الافتتاح والكلمات التي كانت تطلق في مثل هذه المناسبات الخاصة في تلك المرحلة الحافلة بالمتغيرات من تاريخ العراق الحديث , السياسي , والاجتماعي , والثقافي .
اختار الاستاذ اسعد تدريس مادتي : التمثيل , والمسرح العربي , مركّزاً على ( الطريقة ) في تدريب الممثل , وهي اسم المنهج الخاص بستانسلافسكي , مستفيداً من استاذه الايطالي ( شاروف ) الذي كان يقرّب صورة تحليل الدور الى طلابه ويضرب لهم مثلاً : بالديك الرومي , الذي يتكوّن من أجزاء , وكلّ جزء منها يرتبط بهيكل تركيبي , وتكويني أشبه بتلك المتطلبات التي يقتضيها الدور المسرحي , فهو يقوم على أجزاء أيضاً , وبجماع هذه الاجزاء , يتم تصور الدور , وبذلك يتعين الانتقال من الصورة ( الذهنية ) الى الصورة ( الفنية ) المسرحية , حيث يشكل صورة متكاملة , وعضوية تتجه الى ( هدف أعلى ) خاص بها على وفق ضرورتها الداخلية , ونسقها المتفرّد , وهكذا ينتقل الممثل – الطالب , من أفق " التحليل " الذي يرد الدور الى أبسط مكوناته , الى " التركيب " أي اعادة بناءه وتركيبه في العرض المسرحي , منخرطاً في الاحتمالات التي توفرها (الذاكرة الانفعالية) للطالب وهو يتعامل مع دوره , لايجاد محركات نفسية (سايكولوجية) تقنع الممثل بجدواها , وتوفر لديه ثقة ابداعية بـ قدراته الخاصة , ليتوغل أكثر في التقاط الجوانب العاطفية, والجسمانية , ضمن منطق جمالي خاص .
تميّز ابراهيم جلال وجاسم العبودي بمهارة اخراجية متقدمة قياساً بالتجربة الاكاديمية حينذاك , وكانا قد تفاعلا مثله ولكن مع المسرح الأمريكي , ونقلهما الى العراق ما تعلماه في معهد (غودمان ) , والتحق بهما فيما بعد الأساتذة " جعفر السعدي , بدري حسون , بهنام ميخائيل , خالد سعيد وحسن الناظمي . وجعفر علي والأخير درس الفن في كلية الآداب .
بعد عودة الاستاذ سامي عبد الحميد من دراسته في انجلترا اغتنت التجربة التربوية المسرحية باتجاهات اخراجية جديدة ومبتكرة , وهو بدوره أيضاً قد ذهب للتخصص المسرحي في أمريكا .
حين تشكلت " الفرق الأهلية " كانت بمثابة شريان جماهيري يغذي هذه " النخبة " من الاساتذة , وهم بدورهم يخاطبون الجمهور العام بثقافة مسرحية رفيعة , في تلك المرحلة التأسيسية التي اجتمعت فيها عقول اخراجية كبيرة , ليشكلوا ( كارتلاً ) خلاّقا من المخرجين الذين يتعاملون مع ممثلين وتقنيين ونقّاد وهم أنفسهم الذين ألهموا طلابهم وطالباتهم بالحس الفني الخلاق , والفكر الوطني الملتزم, والتفاعل الابداعي فيما يخص الابعاد التي تجمع الفردي مع الجمعي والخاص مع العام .
كانت " الادارة " تأخذ المبادرة الحاسمة من جهود الاستاذ أسعد التربوية اذ قاد ( الاكاديمية ) لفترة تربو على العقدين من السنين , لتتوسع من قسمي : الفنون التشكيلية , والمسرحية , الى أقسام أخرى .
كانت مساعي الاستاذ أسعد واضحة – أيضاً – في استقطاب كوادر فنية متميزة من كبار المبدعين المصريين أمثال : نبيل الألفي , أحمد عباس صالح , توفيق صالح , محمد توفيق , أحمد ابراهيم , هاشم النحّاس , الهامي حسن , مسعد القاضي , وكذلك لاساتذة اجانب منهم القبرصي – الخزاف , الاستاذ فالنتينوس , وكذلك أساتذة من بولونيا , فضلاً عن أساتذة من جامعة بغداد أمثال : جميل نصيف , مدني صالح , عناد غزوان , ناجي التكريتي , حسام الآلوسي , ثامر مهدي , مالك المطلبي , عبد الاله أحمد، محمد حسين الاعرجي ، علي عباس علوان، ونوري جعفر، فاتن حمدي، اميمة الشواف، وسواهم من اساتذة من اقسام التربية والهندسة والموسيقى.
ماكانت لتتحقق هذه الصورة البانورامية ، لولا مثابرة الاستاذ اسعد ، ومحاولاته الحثيثة لتطوير ما استطاع اجتهاده ، وما وسعه جهده ومعرفته من الانتقال من حال متواضعة الى حال اكثر انفتاحاً ورسوخاً ورصانة.
يتذكر جمهورنا العراقي ادوار استاذ اسعد في المسرح مثل دور المؤلف في مسرحية حفلة "سمر من اجل 5 حزيران " تأليف سعد الله ونوس واخراج جاسم العبودي ، ودوره هولاكو في مسرحية اخرى ، سيما انه حين يؤدي دوره على المسرح تجده ينطق بطلاقة اكثر مما يفعل في حياته اليومية المعاشة.
اخرج الاستاذ اسعد مسرحيات شعبية احتذى فيها تقاليد المسرح المصري التي كان يبثها التليفزيون ، ليبتعد عن الاجواء الاكاديمية التي اصر على مواصلتها الاساتذة من زملائه ، مكتفياً بالتعامل مع المؤلف علي حسن البياتي الذي اخرج له الاستاذ اسعد معظم نصوصه المسرحية ، لفرقته " 14 تموز " ومعه مجموعة من الممثلين : وجيه عبد الغني، قاسم صبحي، قاسم الملاك ، مي جمال ، قائد النعماني، فاضل جاسم ، صادق علي شاهين وسواهم .
هذا النسق من العروض الكوميدية استقطب الكثير من الجمهور وهم يتسلون بالضحكة والقفشة ، والارتكان الى النكتة التي تجتذب وعي الانسان البسيط وتناغي همومه الحياتية وتطامن احلامه اليومية المكبوتة في جو محلي مألوف ومعاش ، حيث تتم السخرية من المتأنق (المتأورب ) المتصنع ، وهو يثرثر بكلمات اجنبية ناشزة ، او السخرية من التاجر الجشع والمسئول المحتال لكن هذه العروض من جانب اخر تبارك المسحوقين من الناس والمعاقين والشطار والاخيار في مواجهة فاضحة بين ممثلي الخير ، وممثلي الشر ، وتنحاز النهاية للاخيار في حلولها الوردية السعيدة وتتم معاقبة الاشرار .
مازالت الذاكرة المسرحية تحتفظ بعروض الاستاذ اسعد المسرحية مثل : الدبخانة ، ايدك بالدهن، جفجير البلد ، جزة وخروف .. وسواها .
اما على الصعيد الاكاديمي فقد اكتفى الاستاذ اسعد بتقديم مسرحية واحدة للاكاديمية بعنوان " هنري الرابع" من تأليف الكاتب الايطالي " لويجي بيراندللو"
"1867- 1936 " ، الذي عاصر الفاشية التي وجدها " تحاكي الارادة " و "الواقع" محاولاً مخاطبة راس السلطة " موسوليني " ببرقية تضامن بمناسبة اغتيال احد اتباعه المدعو " ماتيوتي" ، هادفاً الى التنظير بأفكار تتوزعها الهلوسات ، وتتناهبها الاخيلة الكابوسية بعد ان عانى من مرض زوجته العقلي
لكن مسرحية هنري الرابع وسواها من مسرحيات بيراند للو مثل : " ست شخصيات تبحث عن مؤلف " باتت منعطفاً فنياً كبيراً في البنية الدرامية الجمالية في تاريخ المسرح العالمي والايطالي المعاصر ، ويبرز فيها توظيف المسرح داخل المسرح وتقنية القناع وثنائية الحقيقة والوهم ، سيما حين يتظاهر هنري الرابع بفقدان الذاكرة وهو يسقط من فوق حصانه ليعيش هذا الانفصال بين الواقع ومتغيراته الكاسحة غير المتوقعة حتى يوفر لنفسه البرجوازية خياراً فرديا للعيش كما يهوى ويرغب بعيداً عن ضرورات الحياة ومتطلباتها العملية .
كذلك ملاحقة محاولة الكاتب " بيراند للو" ، لاقتراح " صورة" خاصة ، وشكل فني متماسك راسخ لابطاله الذين يبحثون من خلال هذا الثبات الشكلي، عن وسيلة لاسكات صخب الشارع ، في عالم متغير ، لا يقنع بتفسير حوادثه ، بل يبحث عن تغيير واقعه جذرياً حتى تتوفر له حرية اوسع وكرامة جديرة بالناس وعلى وجه الخصوص البسطاء منهم ، كان بيراند للو يتصرف وكانه احد شخوصه المسرحية كما يقول احد النقاد ، الذي بلغ بهم الضياع حداً جعله يذهب بعيداً ومأخوذاً باوهامه وقد كتب في وصيته ان " ينقل بعربة الموتى الخاصة بالفقراء " وان تحرق جثته.
حين وضعت المناهج في اكاديمية الفنون الجميلة قبل عقدين اشترك الاستاذ اسعد عبد الرزاق في تأليف كتاب عن " فن التمثيل" مع الاستاذ سامي عبد الحميد وكذلك مع الدكتور عوني كرومي يخص " مشاكل العمل المسرحي في المدارس"
وتميز ايضاً - بأنشغاله في البحث عن سمات في المسرح العراقي القديم منذ بدايات الطقوس والملاحم والاساطير في بلاد مابين النهرين في المرحلة السومرية وسواها حتى العصر العباسي ، واكتشاف الفعاليات " شبه- المسرحية" التي تخص : المحاكي ، والسماجة ، والمكدين، والمحبظين، وخيال الظل .. وسواها من مظاهر شبه - مسرحية .
ثم ناقش الاستاذ اسعد، واشرف على كثير من طلاب الدراسات العليا في الدكتوراه والماجستير ، ليترك من بعده طلاباً وطالبات باتوا اليوم اساتذة ومعلمون ، ينشرون ازهاير مسرحية عبقة في العراق من شماله الى جنوبه، تحتفل بالوعي الانساني المثقف وبالوجدان الحي الزاخر بأمثولات وطنية وانسانية اذ كيف ينسون صورة استاذهم الفقيد وهم يشاهدونه في فلم " الجابي" و " النهر" .. متدفقاً حماسة وصدقاً شعبياً ، وجهداً ريادياً ملموساً؟
الرحمة لفقيد مسرحنا العراقي الاستاذ اسعد عبد الرزاق ونحن نعزي اسرته الكريمة، وانفسنا لهذا الرحيل الى غبطة الابدية .. سلام على روحه الطاهرة .