استحضار الموتى.. سكورسيزي يدين الرأسمالية

استحضار الموتى.. سكورسيزي يدين الرأسمالية

أحمد ثامر جهاد
ناقد سينمائي
في الشوارع الخلفية للمدن الكبيرة نلتقي كاميرا المخرج (مارتن سكورسيزي) باحثة عن أبطاله وضحاياه, تلتقطهم بذكاء يستجيب لإصراره على إدانة المجتمع الرأسمالي.
سنرى منذ بداية فيلمه استحضار الموتى (BRINGING OUT THE DEAD - 1999) كيف أن شذوذ التركيبة المجتمعية التي يتابعها (فرانك) سائق سيارة الإسعاف,

تجعله ضحية ملازمة لها وناتجة عنها, فردا معزولا غارقا في وحدته أو حالة إنسانية مؤسية تقف على الطرف الآخر من المعادلة الصعبة لعمله المسئول عن ضحايا كُثر للإدمان والتشرد والمرض, يحاول إنقاذهم بعيدا عن الموت, لكن بعد فوات الأوان, دون جدوى.
يؤهله ذلك الأمر مرة وأخرى لاكتشاف حقيقة ذنبه المؤبد بعدم فاعليته, فضلاً عن إدراكه جنون مهنته الملائكية التي يرقب بعينيه تطاير مثلها النبيلة, كتطاير أرواح الموتى الذين يسعى انضباطه الذاتي, لا المهني, للإبقاء على رمق حياتهم.
مثل (فرانك - الممثل نيكولاس كيج) صورة واقعية مقنعة عن تلاشي (البطل النمطي) بالنسبة إلى وجهات نظر مختلفة, كذلك بالنسبة إلى رجل فَقدَ - على حين غفلة - المزاج الملائم لعمله. من ناحية الأداء الفني, يبدو اختيار الممثل (نيكولاس كيج) لتأدية هذا الدور دقيقا إلى حد بعيد جعل أداءه متفوقا على أدواره السابقة ومؤثرا بدرجة ملحوظة.
أما كيف يوظف مخرج عبقري أتم مواهب ممثليه, فيكون - على سبيل المثال - للممثل الشاب (روبرت دي نيرو) عام 1976 مستقبل من النجومية يندر أن يضاهيه أحد فيه, فذلك مما يسهل معرفته عند مشاهدة فيلم (سائق التاكسي) لسكورسيزي, كما يلاحظ جليا خلال إسناد البطولة للنجم (نيكولاس كيج) في فيلم (BRINGING OUT THE DEAD).
الفيلم وإيقاعه اللاهث
يبدو إن الزاوية الأساس التي منها قدم (سكورسيزي) موضوع فيلمه هذا, تشعبت إلى قضايا عدة, أظهرت طبيعتها ولعَ المخرج في نيل مرتبة (رجل التصريحات الخطرة) مثلما في معظم أفلامه التي صاغها بطريقة مؤثرة جعلتها جولة مريرة في شوارع ليلية مجنونة أو تقريرا موثقا ومضادا لإعلاميات الصحافة الأمريكية فكانت على الدوام مثارا للجدل والاختلاف حول قيمتها.
وقد نجح (سكورسيزي) بجدارة في سعيه الفني الخاص, منذ فيلمه (سائق التاكسي) الحائز على الجائزة الكبرى في مهرجان (كان) عام 1976 مرورا بأفلامه الأخرى (ألس لم تعد تسكن هنا) (الثور الهائج) (بعد ساعات) الذي حصل فيه على جائزة افضل مخرج في مهرجان (كان) عام 1986.
أما الانطباع الذي يتركه فيلمه هذا, فهو استعادة مشروعة لنجاح ذلك المسار السينمائي المتمحور في أكثر من محاولة سينمائية على (صورة انتقادية) تقاربت في رصدها حياة سائق يجوب الشوارع ليل نهار مكتشفا أساه فيما يرى! بفارق أن سائق سيارة الإسعاف في الفيلم بالمقارنة مع (سائق التاكسي), قُدِمَ كشخص لا إرادة له فيما يكلف به.. بينما ينتقل (سائق التاكسي) بمشيئته الخاصة الحافلة باكتشاف الواقع أيضا, إلا أن ذلك الهامش البسيط من التباين الظاهري يذوب مرة واحدة -على يد المخرج - في ملتقى التماثل العجيب لإحساس البطلين, فكلاهما يذهب إلى القول: (الوحدة تطاردني في كل مكان, ولا مهرب لي بتاتا) (ما بين الأقواس يشير إلى جمل حوارية من الفيلم).
يشعر (فرانك) أن الضحايا الذين تأخر في تقديم العون لهم, باتوا أمواتا, أشباحهم ما تنفك تطارده أينما ذهب فيتساءل مع نفسه مشككا: (هل تعرف حقيقة شعورك وأشباح الموتى, بل عيونهم تحدق بك في كل لحظة وفي أي مكان? أما أنا فأعرف أنني سألقى حتفي يوما ما بطريقة لا تختلف كثيرا عن هؤلاء الموتى..) وكلما توغل (فرانك) أكثر في تنفيذ الأوامر التي يُبلغ بها خلال نشاط دورياته الليلية, يكتشف عمق مأساته ونفوره الدفين مما يضطرب في داخله.. فالخطر قريب تماما, يحيط به وبضحاياه على حد سواه, وليس فينا من يعتقد أنه بمأمن مما يدور حوله!

يظهر المشهد السينمائي: جثثا ملقاة في الشوارع, عيونها تحدق متسائلة, وقلقها الحبيس يرسم صورة قاتمة لمصائرها, فيكون الأذى نصيب الذات المرتبطة بقيم محيطها. وأذى (فرانك) أنه يحب مهنته - على الرغم مما يحصل له بسببها - ويتعلق بها بصدق ورغبته أشد في أن يؤديها بإخلاص ومثابرة (إن إنقاذ حياة شخص ما, أشبه بخوض تجربة حب..) هذا بالضبط ما يفكر به (فرانك) مع أنه لا أحد يمكن له أن يتحمل الشعور الناجم عن إحساسه بالعمل مع مجموعة من اللامبالين, تثير أفعالهم الدنيئة الجنون الكامن في نفسه.
يعتقد (سكورسيزي) بإمكان التوصل إلى جذور الهستريا في القيم الفردية للمجتمع وفي النظم والعادات - كناية عن الموت المجاني - خاصة وهي تلازم الإيقاع الحياتي للفرد الأمريكي, من دون أن تترك مكانا لنجاة أو أملا برأفة أو استثناء لطبيعة أو عدولا عن تصميم, فيؤكد المخرج على (بقاء الأحياء) بجمل صورية تقول: اليوم وكل يوم, اعتن بنفسك, بنقائها وببقائك, لربما تصبح آمنا على حياتك.. وتذكر دائما أنك من يتوجس الخطر لوحده, ووحدك فقط أسهل الضحايا, حيث لا مواجهة ولا مفر من غير التشبث بقدر ضروري من الدم!! إن مأساة (فرانك) الحقيقية ليست مع الموتى, بل مع أقرانه من البشر العاملين معه بلامبالاة لافتة للنظر تدفعه للتساؤل: (إذ لم تفعل شيئا بمستطاعك لإنقاذ رجل في طريقه إلى الموت, فأنت أحمق -لا ريب).
من جهته لا يكتفي (سكورسيزي) بإظهار هذا المرتكز الأخلاقي للشخصية ولا بروادعها الذاتية, كأساس موضوعي لصناعة فيلم سينمائي مؤثر عن الحاضر الأمريكي, إنما يقرر تجاوز وضع تقارير رافضة للموت المتداول من قبل الجميع بأشكال وصيغ مختلفة, ليتخطى حماسه حدود التسلية والفرجة, متجها بإحالات (الصورة السينمائية) إلى قاع المدينة, نحو مختلف مظاهر الضياع والإهمال وانعدام الأمل. فيقع الاختيار على تلك الأحياء الفقيرة الصاخبة وبقصدية تظهرها ظلا لصيقا وحضورا دالا على غياب نموذج الحياة الأخرى. حينئذ يتسع الخيار الفني بالوصول إلى معترك السياسة والأخلاق وما يتردد بينهما من احتدام معلن أو خفي.
الخراب النفسي
من تلك الصورة التي تنشد العدالة برسم نقيضها, يبدو الخراب النفسي أو غيره بمنزلة التشريع المطابق لرأسمالية مؤتمتة ومسيسة, في حين أن الأفراد مع انزياحات اعتقادهم بها (أي الرأسمالية) يتفانون - بلا استثناء كبير - في خدمة حركتها العملاقة. فيقودنا التأويل اللاحق للأحداث إلى قراءة موقف رافض للمعادلة المهيمنة التي ليس لها في النهاية سوى أن تصهرَ الفرد في محيط سلطتها من أجل أن يناسب طموحها في وفرة التقدم.
يقترب (سكورسيزي) بذلك الجدل الفني من حقل الجمهور السينمائي لينال من همومه, حينما يلمس معه تفكك البنية الاجتماعية الذي يلتهم المدنية الغربية ويتسيد حاضرها. وطريقه إلى ذلك نوع من استرجاع السؤال الوجودي للذات, لاسيما وهي تكافح منذ قرون عدة, شتى ضروب الاستلاب, مدفوعة بآمال كبيرة تُلخص رغبتها المشروعة في حيازة موطن آمن يوجه طموحها في حياة غير شوهاء. وقد يبدو من الانحسار العابث لتلك الذات أن تستعيد هنا المقولة (الكاموية) (نسبة إلى الأديب والمفكر الفرنسي ألبير كامو), وهي تنطق بأوجاعنا صارخة: (لماذا يعاقب فاعل السوء إذا كان فاعل الخير لا يكافأ). إن المعطى الفيلمي من خلال أساليب طرحه ومعالجته لا يتيح أحيانا فرصة كافية لتناول التفاصيل الدقيقة في حياة الشخصيات, لكن امتداد التساؤل (على مدى ساعتين عادة) بوسعه أن يرصد النماذج الرئيسة للمحتوى, فيقرر بنفسه بؤر الثيمة الفيلمية باعتماده المساحة الحوارية مثلما في توظيفه الإشارة الصامتة.
لقد تحدّث (الحوار) عن أفضل ما في الفيلم, وهو ما يرينا غرابة أن يتساءل (فرانك) مُلخصا أفكاره بحدة (ما معنى الواجب, المسئولية والإخلاص في العمل, ما معنى أن يوجد أمرؤٌ ما غيرَ آثم?). تلك إشارة حاسمة في مرمى السلوك, جعلت (فرانك) غير مكترث بالجميع عندما يُهدد بالفصل من عمله. فقلقه الدائم يجعله كائنا مغتبطا بأساه, في الوقت الذي يبدو زميله (ماركوس) - زنجيًا كبير السن - ناصحا له من موقع خبرته في العمل, أن يترك تلك المهنة, فهو يتمنى اكثر منه أن يودع هذا العمل المميت قائلا: (عليك أن تُلبي جميع رغباتك بعيدا عن هذه المهنة الغبية)
وحين يستمر (فرانك) يشكو حاله, يُعلمه (ماركوس) بحقيقة بسيطة للخلاص تكمن في ألا يتأمل الأمر كثيرا!

إن هذا الفيلم الذي يخالف - بنسبة ما - باقي أفلام المخرج (سكورسيزي) من ناحية إيقاعه الغريب والمشوش وعدم إعطائه فرصة كافية للمتلقي يلتقط أنفاسه فيها, يصبح مثل كابوس ثقيل يهدد برود استقبالنا للصورة. فيستحق منا - تباعا - قراءة جادة في محاوره بقدر يتماشى مع كونه محاكمة جريئة للضمير الأمريكي في أجلى صوره, كلية الارتباط بتحايل العصر على ضوابطه.
بالنسبة لكل تلك العناصر الموزعة إنْ في الأداء أو التصوير أو السيناريو فهي مما لا يتوافر للفيلم إذا ما أخفق في طريقة مزجها المؤثر, وجودة هذا الفيلم تمثلت في العناية الواثقة بضرورتها الفنية التي من خلالها يتعين الأسلوب السينمائي.
أما والناحية الإخراجية تواصل منحَ الأسلوب طاقته الخاصة في الخروج عن الرسم المتواضع للمَشاهد في المفارقة أو التراجيديا أو اللمح البليغ, فتلك صنعة رصينة يضعها سكورسيزي ليثري فيلمه بإيقاع منسجم ودال, يسهم بدوره في تمرير التصورات والمضامين إلى الجمهور المتلقي ضمن الإعداد الجمالي العام للشريط السينمائي.
على مستوى (الإيقاع) مثلا, يراهن (سكورسيزي) على قدرة الإيقاع السريع المتواتر في انتزاع أقصى الانتباهات الشعورية للمُشاهد, بوصفها مدخلا حسيا ينشط في تسريب الجو الانفعالي (للصورة), بالذات حين يُميزها بحركة الكاميرا أو اللقطات المكررة أو بعضا منها وبتشكيلات دلالية مختلفة. يُوصلها ذات الإيقاع البنائي إلى درجة مربكة يُقصد من ورائها الوقوف عند عدم استطاعة (العين البشرية) معاينتها بوضوح أو استقرار خطي إلا بعدِّها ارتجاعا فنيا مماثلا للطابع التهكمي في الحياة الواقعية, أو تصحيحا لاقتصار البناء الفني للفيلم (في التيمة) على متابعة مسارها الدرامي فقط. فأن نكون منفعلين تمام الانفعال بهذه التوليفة الإخراجية, قد يعني الأمر ابتكار حيلة فنية ناجحة وهيمنة لأسلوب إخراجي محترف على توظيف الفكرة في الإيقاع لتصعيد تأثيرها المصاحب. ويصح مثل ذلك إذا ما أولينا عناية أخرى بطرائق (الصورة السينمائية) حينما توثق الأحداث بإيجاز موح, لا يبخل سكورسيزي في رفدها بموسيقى معبرة تتناغم مع الإيقاع الداخلي للمشهد حينا, وتناقضه -عن قصد - حينا آخر (كما حدث في المشهد الذي يجمع بين فرانك وفتاة تحظى بإعجابه هي ابنة لأحد مرضاه, ويظهران جالسين في مؤخرة سيارة الإسعاف وهي تنطلق بكامل سرعتها لتتواصل الموسيقى في الخفوت مع بروز مشهد ساكن يقابل في (الصورة) بين فرانك وصديقته, وكأنه يشير إلى معادلها الملفوظ: أية مشاعر يمكن لها أن تقال في مكان يفوح بروائح الموتى?!).
مما يُحسب لصالح سيناريو الفيلم, حسن اختيار المواضع التي منها يسرد (فرانك) تداعياته وانثيالاته حول ما يرى من حوادث وبتشويق يُسبغ عليها أهمية خاصة في تطور الحكاية. ففي أوج ارتياحه لإنقاذ حياة أحد الأشخاص, يوجه (فرانك) كامل العزاء لنفسه (على المرء أن يتعلم كيف ينسى تلك الفظاعات وإلا قضت عليه). وباعتماد منطق الأشياء, لا يستمر ذلك الإحساس طويلا, حيث (الشوارع لم تعد كسابق عهدها, وإنقاذ شخص ما, بات أمرا نادرا, فأدركت أخيرًا أن دوري الحقيقي ليس في إنقاذ حياة إنسان, بل أن أكون شاهدا على ذلك حسب..) هكذا ردد (فرانك) جملته الأخيرة. أليست بلاغة (سكورسيزي) شاهدا حقيقيا على الطراز المرضي لعصرنا المعولم? ربما (لفرانك) حق أن يكون الشاهد الأوحد على جرائم كبيرة يرتكبها الجميع بحق الجميع, والبعض بحق نفسه, بمناورة تتبادل (الكناية) فيها الدلالة بين صورة للواقع مؤسية وأخرى للخيال جميلة.

لَيسَ فِي الغَابَاتِ سكرٌ
مِن مُدامٍ أَو خَيال
فَالسَّواقي لَيسَ فِيهَا
غَير إِكسيرِ الغَمام
إِنَّما التَّخديرُ ثَديٌ
وَحَليبٌ لِلأَنام
فَإِذا شاخُوا وَماتُوا
بَلَغوا سنَّ الفِطام

(جبران خليل جبران)