الجيوش الخفية..حرب العصابات من العصور القديمة إلى الحاضر

الجيوش الخفية..حرب العصابات من العصور القديمة إلى الحاضر

ترجمة / عادل العامل
بالنسبة لخبراء التمرد أو العصيان لقرنٍ مضى، فإن توسع الامبراطورية الأوروبية إلى داخل الشرق الأوسط قدّم إمكانات مثيرة. و قد قصف الإيطاليون الشعب الليبي عشية الحرب العالمية الأولى، لكن تلك كانت البداية فقط. فمن 1919 فصاعداً، كانت القوة الجوية الملكية الحديثة منشغلة بإسقاط القنابل

على قبائل الأفغان، و الصوماليين، و العراقيين. و في عام 1926، أطلقت المدفعية الفرنسية قنابلها على مركز دمشق. و في هذا السياق كانت المقالة التي كتبها أيلبرج كولبي، الكابتن في الجيش الأميركي، و عنوانها”كيفية مقاتلة القبائل الهمجية”، هي لتعليم مواطنيه و تحدي ما رآه إيماناً ساذجاً منهم بالقانون الدولي، كما يقول مارك مازوير في عرضه هذا.
و قد سلكت أميركا طريقاً طويلة منذ ذلك الحين. فحين تجد اليلاد نفسها متورطةً في نزاع غير عادي واحد بعد آخر، فإن المهاجمات الجوية ذات”الدقة”، و الطائرات من دون طيار، و استخدام أسلحة آلية أخرى من النوع المتزايد التعقيد تكون قد دفعت القوات العسكرية بشكل ثابت أبعد فأبعد عن أي شيء يمثّل المفاهيم الكلاسيكية لقوانين الحرب. و اليوم فإن أولئك الذين يسعون لتذكير الأميركيين بأهمية ملاحظة القانون الدولي هم الذين يتخلفون عن ذلك.
و إذا كان هناك مَن يُشكر على ذلك، فهو ابن أيلبرج كولبي، وليام. فقد قاتل خلف خطوط العدو لمصلحة مكتب الخدمات الستراتيجية O.S.Sفي أوروبا التي تحت الاحتلال النازي، ثم أقام الخلايا المتخلفة stay-behind المضادة للشيوعية في إيطاليا (و التي فسد بعضها و راح يفجّر المدنيين)، قبل أن يدير حرب الـ C.I.A في فييتنام و ينتهي الأمر به مديراً لوكالة المخابرت المركزية. و كان كولبي الإبن يعود لذلك الجيل من الأميركيين الذين توصلوا إلى تفاهم مع العالم الذي يمنح الكاتب ماكس بوت عنوان كتابه”الجيوش الخفية”. و قد شكلوا، في الحقيقة. جيوشاً خفية و قاتلوا فيها أنفسهم.
و لم يكن أمر الجيوش الخفية غائباً تماماً في التاريخ الأميركي؛ إذ يذكّرنا بوت، و هو مؤلف عدة كتب منها (حروب السلام الهمجية) أيضاً، بأن الولايات المتحدة تدين باستقلالها للتمرد الناجح الخاص بها. لكن فترة التحرر من الاستعمار هي التي حولتها إلى شرطي عالمي. و منذ ذلك الحين، كوّنت واشنطن بيروقراطية واسعة مضادة للتمرد، كاملة بمدارس تدريبها الخاصة، و برامج تبادلها الأجنبي، و معاهدها البحثية. و حتى قبل التحديات التي طرحها غزو أفغانستان و العراق، كان يتوجب على كثيرين التفكير جدياً بكيفية مقاتلة”القبائل الهمجية”. و كما هي الحال مع ألبيرج كولبي (الذي لا يرد له ذكر هنا)، فإن ماكس بوت يرغب في مساعدتها، لكن خلافاً لكولبي، كانت طريقته من خلال التاريخ.
و النتيجة بانوراما كاسحة تمتد فوق منطقة شاسعة. و هي تبدأ و تنتهي في الشرق الأوسط، لكن هناك ما بين البداية و النهاية جسر طوله أربعة ألاف عام تقريباً و رحلة تغطي الكثير من العالم. و مع أن كتاب (الجيوش الخفية) مليء بقصص جيدة تقال بشكلٍ مقروء، فإنه كان بالإمكان تشذيبه قليلاً بالمقابل. فالتاريخ المبكر يبدو تخطيطياً غير واضح، و استعمال تعابير مثل”مكافحة التمرد”و”رجال حرب العصابات”يتّسم بالمفارقة التاريخية عندما تُطبَّق على الهون Huns أو الرومان و غيرهم. فهناك اختلاف بين الامبراطوريات و خصومها غير النظاميين يُلاحظ عبر الكتاب، و مع هذا ففي الكثير من الألفية التالية لانهيار روما نجد أن امبراطوريات العالم العظمى كانت نفسها تحالفات بدوية سابقة، من بينها المغول و العثمانيون، و أسست دولاً استمرت لقرون، و كانت تعرف، بسبب أصولها، كيف تصل إلى تفاهم مع قوى غير نظامية، أو توحدها.
و لا تبدأ القصة الملائمة إلا في القرنين الـ 18و الـ 19 مع ظهور تقاليد حديثة معينة ــ كالاستعمال الواسع الانتشار للجيوش الدائمة في معارك جزئية؛ و تطور معايير قانونية عالمية ذات قابلية للتطبيق. و بهذا المعنى الدقيق، فإن تاريخ حرب العصابات ليس أكثر من قرنين أو بهذا القِدم، فيصبح كتاب بوت في الواقع أكثر فعاليةً نظراً لكونه يدخل في العصر الحديث. فنجد هنا قصة حرب العصابات و كيف حاول الجنود خوضها، ثم هناك تاريخ الإرهاب.
و لا ينقطع السعي لربط رجال حرب العصابات مع الإرهابيين. و يكون لدى المرء انطباع بأن بوت نفسه كان قلقاً بشأن هذا الربط، لأنه يبدأ ببعض الملاحظات الحساسة ليس فقط حول التماثلات بين الفئتين، و إنما حول الاختلافات أيضاً. و صحيح أن المتمردين يلجأون، أحياناً، إلى تكتيكات إرهابية: و منظمة أيوكا في قبرص، و منظمة التحرير الفلسطينية، و نمور التامبل، ثلاثة أمثلة حديثة إلى حدٍ ما على ذلك. كما أن من المألوف بالنسبة للجيوش القوية أن تدعو خصومها الأضعف منها إرهابيين ــ هكذا وصفت القوات المسلحة الألمانية عناصر المقاومة الأوروبية خلال الحرب العالمية الثانية. لكن الفئتين، في الواقع، لا تمتلكان إلا القليل من الأمور المشتركة. فتاريخ إرهاب القرن الـ 19الفوضوي في أوروبا ينبغي ألا يُربط مع تمرد ذلك القرن. و الأحدث من ذلك، أن فصيل الجيش الأحمر في ألمانيا الغربية و حركة 17 نوفمبر في اليونان كانتا جماعتين إرهابيتين و ليس متمردتين.
أما بالنسبة لمكافحة التمرد counterinsurgency، فنحن محتاجون بالتأكيد إلى تاريخ فكري له. ذلك أن قصة كيف و ماذا تعلم و نسيَه الجنود الأميركيون، و غيرهم، فيما يتعلق بمكافحة التمردات هي أمر مهم من دون شك. و مجموعة بوت من الشخصيات هنا تتألف في الغالب من أشخاص معروفين نوعاً ما ــ رجال عقلاء مثل المارشال الفرنسي هيوبرت لا يوتي، و الجنرال البريطاني سير جيرالد تيمبلَر، و الأميركي الهادئ إدوارد لاندسيل و غيرهم، و انتهاءً بالجنرال ديفيد بيتريوس نفسه. و لا نجد هنا شيئاً ما يتحدى الصورة التقليدية للجنرال بيتريوس، باعتباره الرجل الذي أعاد القوات الأميركية على المسلك الملائم لمكافحة التمردات، و لا أية وسيلة لفهم لماذا كان عليه أن يغير المسار آنذاك بشكل واضح حين انتقل إلى الـ C.I.A لصالح عسكرة المخابرات و الاستخدام الموسع للاغتيالات ذات الهدف المحدد. و هذا التحول ليس بالأمر المتنافر مع سياساته الأسبق، لكن ليس من السهل الانسجام معها أيضاً.
و في الحقيقة، فإن كتاب (الجيوش الخفية) هذا له مؤلفان، يعملان معاً أحياناً، و أحياناً منفصلين. فهناك المؤرخ الشعبي، المفكر، البارع، الفصيح، الذي عينُه على القصة الجيدة و الاقتباس المؤثر. و هناك الناصح السياسي، الزميل الأكبر في مجلس العلاقات الخارجية. فيمكن للمؤرخ أن يرى المسائل من زوايا مختلفة و هو حريص عموماً على ألا ينحاز. أما الناصح السياسي، فيرغب في أن يكون مفيداً و أن يجعل نشر القوة الأميركية أكثر فعاليةً. و هذا هو ما يوضح التأكيد، في القسم الأخير من الكتاب، على مكافحة التطرف الإسلامي. كما أنه يوضح تأكيد بوت المستمر على طرق الكفاح المدركة مقابل الطرق المضلَّلة لهذا الكفاح.
و لهذا فإن (الجيوش الخفية) يشكل جزءاً من محادثة ظل يقوم بها صناع السياسة، و المعلقون، و المؤرخون الأميركيون مع بعضهم البعض الآخر من زمن أيلبرج كولبي و هم يصارعون أعباء السلطة. و فحواها يتّسم بالتفاؤل على نحوٍ معتدل: ذلك أن المؤلف يعتقد بأن الدروس يمكن تعلمها لو أننا فقط نظرنا إلى التاريخ بالطريقة الصحيحة. فالحرب في الظلال يمكن أن تبقى هنا، لكن علينا ألا نيأس، كما يؤكد، لأن الأرجحيات حتى الآن ضد المتمردين، شرط أن تعالج الجيوش العمل بصبر، و فهم جيد و وعي بأهمية الفوز فوق القلوب و العقول. فالإرهاب، بعد كل شيء، انهزامي في الغالب. و أرى أن أيلبرج كولبي كان سيصادق على ذلك.