مــــــدار الســـرطـــــان.. تقديم للحياة من دون رتوش و زخرفة!

مــــــدار الســـرطـــــان.. تقديم للحياة من دون رتوش و زخرفة!

رواية مدار السرطان، هي انعكاس شخصي لجوانب من حياة مؤلفها هنري ميللر في نيويورك، حيث سرد هذه الجوانب الحياتية بتلقائية، و من دون زيادة أو نقصان، أي أنه أستخدم السرد الحياتي التلقائي، متخذا"من انعكاس شخصيته على أحداثها، بدفق عاطفي هادر، حتى راح يمعن في المبالغات و الحدة في الاندفاعات من دون تكلف أو قصد، و قد يكون هذا الأسلوب من سجيته في السرد و الكشف و الوضوح.


و في إعتقاد النقاد، أن أجود ما كتبه ميللر، كان في روايته (مدار السرطان)، العمل الأول و الأبرز، و فيه تتمثل كل مقومات أدب ميللر، بل إن أجود ما كتبه هذا المؤلف و أسوأه في آن، موجودان جنبا"إلى جنب في هذه الرواية.
و بذلك يكون ميللر قد حقق ما نادى به دائما"، و هو أن يقدم الحياة كما عرفها دون تشذيب أو زخرفة، و أن يترك نفسه على سجيتها لكي تنطلق و تعبر عن ذاتها في شطحات تحتوي الغث والسمين، على الرغم من أن الرواية هي خيال أكثر منها حقيقة، بيد أن هذا الأمر لم يقلل من قيمتها، و لهذا السبب أضحت الرواية أعلى قيمة و أكثر رغبة لدى القارئ في الإنغماس مع مجريات السرد التي جمعت المتناقضات و المبالغات و التلقائيات.
و يُذكر في هذا الجانب، أن كتابات هنري ميللر ظلت ممنوعة لسنين طويلة في بلاده (أمريكا)، و قد قُدم الكاتب إلى المحاكمة في أوائل الستينات، بسبب تلك الكتابات، حيث حوربت كتبه و حوكم هو، لأنه يعري بلا حياء و لا شفقة المجتمع الأمريكي المعاصر، إنه يعري حتى العظم، الآلة الرأسمالية الأمريكية بدفق فني عجيب، و بتلك اللغة المكشوفة الوحيدة القادرة على التعبير عن مجتمع كالمجتمع الأمريكي.
و لقد اضطرت هيئة المحكمة إلى أن تقر بفائدة هذا النوع من الكتابة، وإن كانت لم تحبذ انتشارها، لكنها في نفس الوقت أقرت بفائدتها و جدواها، و إن جاء هذا الإقرار على مضض!

الاستمتاع بالطعام
الاستمتاع قد يكون نظريا"و حسيا"و حتى خياليا"، بيد أن ميللر يمنحنا مشهدا"معتادا"لديه، و يتمثل في الاستمتاع بالتهام الطعام ((الطعام هو أحد الأشياء التي استمتع بها أيّما استمتاع.
و في فيلا بورغيز الجميلة هذه نادرا"ما يظهر له أي أثر.
و أحيانا"يكون فظيعا"تماما".
طلبت من بوريس مرارا"و تكرارا"أن يُحضر خبزا"للإفطار، لكنه دائما"ينسى.
يبدو أنه يتناول الطعام في الخارج، و يعود و هو يُخلل أسنانه و قد علّق بيضة صغيرة من طرف لحيته المشذبة.))
هذه الصورة اللمحة تكشف عن اهتمامات الكاتب بالمشاهد التي تعكس جانبا"أو جوانب من موائد الطعام، و لربما يكون الكاتب يتحدث عن نفسه من خلال دفع هذا الواقع على غيره، كما يقول: إنه يتناول طعامه في المطعم دون أن يحسب حسابي، أو مثل قوله: يؤلمه أن يتناول وجبة دسمة بينما أنا أكتفي بالنظر.
ميللر، يحاول أن يعرض علينا من خلال هذه الرواية بعضا"من عاداته في تناول الطعام، بيد أنه يرميها على جانب آخر، حتى لا تكون من عاداته المعروفة لدى الملأ، أو قد يكون مندفعا"الى الكشف عن هذه العادات المحببة إليه، في محاولة منه لإضفائها على الآخرين، لكنه في كل الأحوال، يتعمد في إضاءة هذه الجوانب من عاداته أو من العادات التي يستسيغها، متصورا"أو حتى متوهما"بأن الأمر طبيعي في مثل هذه العادات.
بل هو ما انفك عن عرض صور فيها أشياء مبالغة في التوصيف و السرد ((أول ما يوحي به مولدورف هو أنه صورة ساخرة لرجل، له عينان درقيتان، و شفتا ميشلان، و صوت يشبه شوربة الفاصوليا، يحمل تحت بزته ثمرة أجاص صغيرة، و كيفما تنظر إليه ترى المشهد الشامل نفسه: صندوق النشوق، المقبض العاجي، رقعة الشطرنج، مروحة، رسم كنيسة)).
بهذه المشاهد التوصيفية، يكون هنري ميللر، قد إنتهج في السرد الروائي إسلوب (الواقعية القذرة)، و هو الإسلوب الذي بدا طاغيا"في معظم رواياته، وفقا"لإعتبارات السرد التي توزعت على التلقائية و السخرية و المبالغة، و الميل الى تناول الأجزاء المثيرة في تسمياتها، و خصوصا"على الصعيد الإنثوي.
أن التسميات الجريئة و الصريحة، كانت إحدى الركائز التي يقوم عليها السرد الروائي لميللر: جيرمين عاهرة، قلب عاهرة، عشق عنكبوت ((و رأيتها تجلس ليلة بعد أخرى في مكانها المعتاد، بردفيها الصغيرين، الريّانين، و المستكينين على المقعد المترف، شعرت بنوع من الثورة يُعصى على الوصف نحوها)).
يعمد الكاتب الى الدخول الفوضوي في تناول كل ما يظهر أمامه، حتى يُخيل للقارئ، أنه أمام صور متضاربة في المعنى و ليس لها رابط في المشهد المتناول و الموصوف، ربما أراد ميللر من وراء هذا التناول و هذا التوصيف، أن يضفي على صوره و مشاهده، غرابة و تنافرا"و استغرابا"الى حد يجعل قارئه أما خيارين لا ثالث لهما: الإيهام أو الإقناع!

الجو المسموم
أن التوصيفات السردية المحببة لدى المؤلف حسبما تتكرر في صوره و مشاهده، تنطوي على عبارات في المقاربة لأوضاع ضاجة في المتعة و الحساسية ((و في الوقت الذي نصل فيه الى مقطوعة ديبوسي يكون الجو قد بات مسموما"تماما".
و أجدني أتساءل كيف يكون شعوري لو كنت امرأة أثناء المضاجعة – و فيما إذا كانت المتعة أكبر، الخ)).
ينعطف الكاتب في أسلوبه السردي الى محاولة التقمص للحالات المثيرة و الحساسة، و أزعم أن مثل هذا التقمص، ربما يكون ينطلق من نزعة شاذة، و إن كنا نقر بخيالية الرواية و كل ما هو متناول فيها من الخيال، بيد أن هذا الإقرار، لا يعني أن الكاتب أنتهج فرصة الخيال الروائي، كي يبث عرضا"مثل هذا الإحساس أو هذا النزوع لديه، حيث هامش أو حتى مجال الفضاء الروائي يشجعه و يحضه في التعبير عن مكنون رغباته التي لا يستطيع الإفصاح عنها في المحيط الطبيعي و المألوف.
و الأكثر إفصاحا"في انتقالات ميللر التوصيفية، هي التي تتفجر من دون تمهيد أو تهيئة ((فكنت أوفر لهم الأعمال و أجد لهم المأوى بل و أطعمهم عند الضرورة.
و أعترف بأنهم كانوا ممتنين جدا"، الى درجة أنهم جعلوا حياتي بائسة برعايتهم، أثنان منهم كانا من القديسين، إن كنت أعرف ما هو القديس، و لا سيما (جوبت) الذي وجدوه ذات يوم منحورا"من الأذن الى الأذن.
فقد وجد في صباح أحد الأيام في نُزُل في قرية غرينش ممددا"على السرير عاريا"تماما"، و نايه الى جانبه و حنجرته مقطوعة، كما قلت، من الأذن الى الأذن، و لم يُعرف فيما إذا كان قُتل أم أنتحر، إلا أن هذا ليس أمرا"ذا بال)).
هذه اللغة التي استخدمها المؤلف بكل انفتاح و عدم اكتراث بكل تقاليد سائدة، تعكس في حقيقتها، الحالة المضطربة التي لجأ إليها ميللر في التقمص و الإيهام كما أسلفت، و مرد تعمده هذا، يعود الى موقف منه، أراد أن يجاهر به بأعلى صوت، و هو الصوت الذي تعرض الى الكبت و المنع و التهميش، و مع كل هذا أستطاع صوته أن يتحدى الخرس و المنع و التكميم .
((و حين يصل الشاب الضخم، جائعا"كالذئب، تحيطه بذراعيها و تقبله بنهم – تقبل عينيه، و أنفه، و خديه، و شعره، قفا رقبته.. و قد تقبل مؤخرته إذا استطاعت ذلك علنا")).
في سرده المزحوم بعبارات جريئة، تخالجها أمنيات، يوغل ميللر في توصيفاته التي تقترب من القذارة حينا"، و من الجنس حينا"آخر، و كأنه يتلاعب بغريزة القارئ، بقصد أو بآخر!.

الهلاك قدر
أراد هنري ميللر من أحاديثه الجانبية و الاستذكاري و التخيّلية، أن يقول، أن الإنسان هو مجموعة من تشكلات متنافرة و متوائمة في آن واحد، أي أن الإنسان، أي أنسان، يظل عرضة لكل التأثيرات و المتغيرات، و هو بالتالي انعكاس لما يجري و يدور حوله، فهو العاقل و المجنون، و المستغرب و المألوف، و الطبيعي و الشاذ، و البارد و الحار، و المنطلق و المنزوي.
هي لغة الحياة و الشارع و البيت، بكل واقعيتها و أغطيتها و فضائحها و أستارها المزعومة، هي اللغة التي أستعان بها ميللر، في توصيف ما يريد توصيله أو حتى التقرب من غرضه و مبتغاه.
((لعل الهلاك قدرنا، و ليس لدينا، لدى أي منا، أي أمل، و لكن إذا كان الأمر كذلك دعونا نطلق صرخة أخيرة معذبة)).
بدت في المسارات الأخيرة من الرواية، الرسالة التي أراد ميللر إيصالها في التعميم، و إن كان قد أفصح عن بعض التخصيص.
الرواية عبر مؤلفها هنري ميللر، تجسد صرخة رافضة للسائد و المألوف من النفاق، هي صرخة رجل و امرأة، تعبر في مكنونها، عن رفض و احتجاج للهيمنة الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية، هي رواية كسر المحرمات، مثلما هي رواية إشهار الموبقات سخرية و سماجة، كي يتيح المؤلف الفرصة لنفسه، في إعلان موقفه و إشاعة مبدئه.
رواية (برج السرطان)، أختزل هنري ميللر من خلالها، كل همومه و طموحه و مضمومه غير المباح.
رواية باذخة في التوصيفات و المقاربات و التناقضات الفارغة، اعتمدت على السرد المتخلخل في الاتجاه و المعنى، و قد أراد المؤلف من وراء ذلك، أن يفصح عن خوالجه الرافضة للنمط و القالب السائدين في المعترك، بعدما و جد المؤلف نفسه على محك الحقيقة و التمني، محك لا يمكن الوصول إليه، إلا من خلال البيان المضطرب و المتناقض، و الخارج عن ضجر الحياة!