حذف الأصفار.. ومعطيات الواقع

حذف الأصفار.. ومعطيات الواقع

د. احمد ابريهي علي
نائب محافظ البنك المركزي العراقي
توطئة:
بالنظر للمطالبات الكثيرة التي وردت الينا من النخب الاقتصادية والسياسية وعدد من الاوساط الاعلامية والثقافية الاخرى، نعيد نشر المقالتين اللتين خصنا بهما الدكتور احمد ابريهي نائب محافظ البنك المركزي العراقي، التي أجاب فيهما على كثير من الاسئلة التي تخص جدلية حذف الاصفار التي أعلن البنك المركزي عن قرب تطبيقها:

(المحرر الاقتصادي)
أولاً: الواقع الاقتصادي وحذف الاصفار
اعلنت وسائل الاعلام يوم 5/12/2010 ان مجلس النواب ناقش امكانية حذف الاصفار من العملة العراقية، ويبدو انها مناسبة لاعادة التذكير ببعض الاساسيات عسى ان ينفع ذلك في تفادي المبالغات والانطباعات الخاطئة.
والعنصر الاكثر ايجابية في هذا الصدد ان عموم المجتمع وخاصة اصحاب الاعمال والاموال تعاملوا مع المسألة بهدوء وكأنها لا تعنيهم، عمليا"، وهو الموقف الصائب، لان حذف الاصفار، بذاته، لايحقق مكاسب ولا يرتب خسائر، ولا يعني سوى تغيير وحدة القياس وليس الشيء نفسه.
ان 2000 متر ليست اكثر ولا اقل من 2 كم، هي المسافة ذاتها لكن وحدة القياس في القراءة الثانية هي اكبر. وان 1000 كغم ليست اكثر من 1 طن ولا اقل من 1000000 غرام، بل اختلفت وحدة قياس الوزن. وكذلك بعد حذف الاصفار لا تصبح كتلة السيولة اقل ولا أكبر والذي يتغير هو العدد المعبر عنها. والعملة ايضا"يستند نظامها الى وحدة قياس هي وحدة اساسها التي تتخذ اسما لها مثل الدينار والدولار والين... وهكذا.
وان قوة العملة لا تعتمد على الحجم النسبي لوحدتها الاساسية، لان القوة حقيقة مستقلة عن وحدة قياسها، بصفة عامة، وكذلك في العملة. ولنضرب على ذلك امثلة من اسعار صرف عملات مختارة بقصد الايضاح، وسعر الصرف، في التالي، يعبر عنه بوحدات من العملة الوطنية في مقابل دولار واحد.
ومن البيان آنفا"نجد ان الدولار يساوي 5.79 جنيه مصري بينما يساوي 8992.5 ريال اندونيسي، وهذا لا يعني ان العملة المصرية اقوى من العملة الاندونيسية لان الريال الاندونيسي يساوي جزءاً صغيراً من السنت (واحد من تسعين) في حين يساوي الجنيه المصري 17 سنتاً. وكذلك الريال السعودي قرابة 27 سنتاً، في حين ان الدينار الكويتي 357 سنتاً، ولا يفهم منه ان العملة السعودية اضعف من العملة الكويتية. وكذلك يقال عند مقارنة عملة كوريا الجنوبية التي وحدتها الاساسية صغيرة القيمة ايضا"مع العملة اليابانية.
فالربط بين قوة العملة وقيمة وحدتها الاساسية هو انطباع خاطئ سرعان ما يصحح بالانتباه والملاحظة. ومن المفروض ان عقلاء الناس لا يحاولون ولا يتوقعون تحقيق مكاسب، ايا كان نوعها، استنادا"الى هذا الوهم ان وجد.
وقد تردد كثيرا"ان حذف الاصفار يقلل من كمية الورق وهذا الفهم يعتمد على خطأ حسابي واضح. ونبين ذلك بسؤال بسيط كم هو اقل عدد من الاوراق تحتاج لدفع مبلغ مليون دينار؟ الجواب: عندما تختار اكبر فئة من العملة وهي 25 ألف فان 40 ورقة منها تؤدي الغرض. ولو فرضنا ان الاصفار حذفت فسوف يصبح المليون ألفا"بالوحدات الجديدة ولان فئة العملة آنفة الذكر تحذف اصفارها، ايضا، تصبح 25 فقط، وعند قسمة 1000 على 25 يظهر ان العدد المطلوب من الاوراق هو 40 كما كان الوضع قبل حذف الاصفار لا اكثر ولا اقل.
ان حذف الاصفار بذاته لا يقلل كمية الورق، بل تعتمد كمية الورق على فئات العملة فلو استحدثت الان فئة اكبر بمبلغ 50 ألف دينار تحتاج 20 ورقة لدفع مبلغ مليون دينار واذا استحدثت فئة 100 ألف دينار تكفي 10 أوراق لتسديد المبلغ. ونفس الشيء يقال عند حذف الاصفار اذا ما اضيفت فئات جديدة 50 و 100 من العملة الجديدة.
ان تبديل العملة بين تشرين الاول 2003 وكانون الثاني 2004 يختلف جذريا"عن المقترح المتداول حاليا". في المرة السابقة لم يتغير نظام العملة، الدينار هو الدينار، والذي حصل استبدال الطبعة القديمة بطبعة جديدة. ولذلك يمكن مقارنة كمية الورق المطلوب لدفع مبلغ المليون دينار اواخر التسعينيات مع ما اصبح الوضع عليه الآن. عندما كانت اكبر فئة 1000 دينار تحتاج 1000 ورقة لدفع المليون و 4000 ورقة عندما كانت الفئة الاكبر 250 دينار، ولذلك كانت كميات الورق المستخدمة في التداول ضخمة، وهذا لاعلاقة له بقيمة العملة بل فئاتها، ولكن الناس لا يلاحظون دائما"اثر الفئة المستخدمة من العملة وانك عندما تنتقل من فئة 250 ديناراً الى25000 تختصر كميـة الورق بنسبة واحد الى مئة.
صحيح ان سعر صرف الدينار قد تحسن اذ كان الدولار في اواخر عام 2000 يساوي 2000 دينار والان 1170 ولكن وباستثناء عدد قليل من السلع المستوردة تحتاج الى مبالغ بالدينار اكبر لشراء قطعة الارض نفسها او الكمية من الخضراوات واللحوم، لكن كمية الورق المستخدمة اقل وهذا بسبب فئات العملة الكبيرة. كل تلك الامثلة البسيطة والاستطراد من اجل عزل اثر الفئة عن قوة العملة ووحدة اساسها. وعادة كلما كانت وحدة العملة الاساسية صغيرة استخدمـت فئات اكبر. وفئـات العملة العراقية الحالية مناسبة الى حد كبير.
في كوريا الجنوبية وحيث وحدة عملتها مقاربة لوحدة العملة العراقية في القيمة اكتفت بفئة خمسة الاف الى وقت قريب وعند نهاية عام 2009 اضيفت فئة عشرة الاف.
ويقال ايضا"ان حذف الاصفار يجعل الاعداد التي تكتب بها المبالغ اكثر اختصارا"وهذا ايضا"غير صحيح. الان تقول 10400 عشرة آلاف واربعمئة دينار، وبعد حذف الاصفار تقرأ عشرة دنانير واربعمئة فلس. وذلك لان الوحدة الجديدة (الدينار الجديد) كبيرة هي 1000 مرة بقدر الوحدة الموجودة الان ولابد من التعامل مع اجزائها.
اي مع النظام المقترح سوف نتعامل مع اجزاء الدينار الجديد في الحسابات وفي المعاملات اليومية، وسوف لن تكون المعالجات الحسابية ابسط مما هي عليه الان، بل هو مجرد وهم.
وبقي ان نشير إلى ان حذف الاصفار يحتاج الى تشريع وجملة من الترتيبات للانتقال الى النظام الجديد اضافة على التسهيلات الادارية والتقنية لاستبدال العملة وهي ضخمة.
ثانياً: حذف الأصفار والعمل المصرفي
لقد تبين ان حذف الاصفار لا يقلل كمية الورق لان الحذف يطال المقسوم والمقسوم عليه او البسط والمقام. وان كمية الورق تعتمد على فئة العملة فلدفع مبلغ مليون دينار تحتاج 40 ورقة من فئة 25 ألف ولدفع المبلغ نفسه بالوحدات الجديدة وهو 1000 تتطلب المعاملة 40 ورقة من فئة 25 دينار جديد ايضا"، بل ان الحذف اصلا"سيظهر في الاوراق النقدية لينسحب على المبالغ والاسعار.
وفي حالة التعاقد مع مقاول لانجاز مشروع بمبلغ مليار دينار سيكون هذا المبلغ مليون دينار جديد بحكم القانون. ولا يمكن مساومة المقاول بين مليار دينار قديم و 900 ألف دينار جديد، او يقال له فيما بعد ان الدينار اصبح اقوى، حسب تصريحات الخبراء، وعلى الرغم من ان القانون عين نسبة التبادل دينار جديد في مقابل 1000 دينار قديم ولكن عليك ان تقبل بمبلغ اقل. وفي فترة تزامن العملتين لا يسمح القانون ولا الدوائر المعنية بأن يخير المتعاملون في السوق بين عشرة ملايين من الدنانير القديمة في مقابل مبلغ اقل او اكثر من 10 آلاف من الدنانير الجديدة. هذا تحايل واذا كان البعض يتصور ان الاسعار يمكن ان تنخفض او ترتفع في اجواء مفترضة من التلاعب وتخريب الوعي وترويج توقعات لا عقلانية لاحداث هزة شبيهة بما حصل اواخر عام 1996 فأنهم واهمون. واذا كان الناس يتصورون ان الدولة تريد التأثير في الاسعار او سعر الصرف خفضا"او رفعا"في سياق حذف الاصفار فهذه انطباعات لا اساس لها من الصحة. لاتوجد دولة في العالم تلجأ الى هذا الالتفاف، ومن غير المتوقع ان يعمد مسؤول في الدولة الى اشاعة وعي زائف عن الحياة الاقتصادية والترويج لاوهام تشيع الاضطراب والبلبلة.
ان حذف الاصفار لا علاقة له بالاسعار ولا بسعر الصرف، كما ان اضافة فئات أكبر للعملة لا يتطلب حذف الاصفار. وابسط العراقيين لا تلتبس عليه الامور الى هذا الحد بحيث يقتنع بعدم امكانية ادخال فئة 50 ألف دينار على السلسلة الحالية الا بعد حذف الاصفار لتسميتها 50 بدلا"من 50 ألف.
وما أثير في هذه الصدد اضافة المسكوكات. لقد حاول ادخال مسكوكات البنك المركزي لفئات دون 250 ديناراً وقد اعدت بالفعل وبكلفة، طبعا"، ولم ينجح في تسويقها واضطر الى بيعها اخيرا"بعد ابطالها. لقد رفض المتعاملون استخدام الورقة من فئة 50 ديناراً، وكانت انيقة وطبعتها جيدة، وظهر الرفض والاستغناء عنها قبل وصول الاسعار الى مستوياتها الحالية، مثلما رفضــت المسكوكات من فئات دون 250 ديناراً. ما يعني ان السوق لايريد الفئات الصغيرة. ويظهر ان سوق المسكوكات غير مرغوبة بغض النظر عن فئاتها حتى من فئة 250 ديناراً و 500 دينار واعلى. لقد ألف السوق الورق ومن الصعب اقناعه الان بالمسكوكات ومن الافضل الانتظار لحين تبدل الاجواء الاجتماعية واجراء مسح بالعينة لمعرفة مدى قبول الناس لها من دون التورط في تهيئتها بتكاليف، وهي ايضا"بملايين الدولارات، اضافة إلى مشكلة الخزن وتداولها بين المتعاملين والمصارف والبنـك المركزي اما القول ان المسكوكات مستخدمة في عملة الدولار واليورو وهي جميلة كما كانت ايام زمان في العملة العراقية فهذا كلام لطيف ولكن الناس، عمليا"، لا تريد المسكوكات.
من المناسب الاشارة الى ان النقود تعني العملة مضافا"اليها الودائع في المصارف وانواع اخرى من المطلوبات في ميزانيات المؤسسات المالية. وان اضيق تعريف للنقود يشمل العملة مضافا"اليها الودائع الجارية، والتي تسمى احيانا"الحسابات الجارية، والمقصود بها تلك الارصدة في المصارف ذات السيولة التامة بمعنى الفورية.
والعملة اي المسكوكات والاوراق النقدية تمثل جزءا"من النقود وفي العراق، هذا الجزء كبير يتجاوز ثلثي النقود وحسب التعريف الضيق لها ولكنه في دول متقدمة ماليا"قد ينخفض الى 10% اونحو ذلك.
ان ميل العراقيين للعملة والتعامل بالنقدي Cash والذي يسمى احيانا"نقداً له اسباب تتصل باساليب الادارة المصرفية ومنها الاعتماد بالدرجة الاولى على الصكوك في تحريك الحسابات المصرفية، اضافة على الطريقة البدائية اليدوية لنقل الصكوك واجراءات التحقق والمقاصة والتسوية.
وعليك ان تقدر المدة المطلوبة لتسوية صك مسحوب على حساب الزبون في احد مصارف أقضية البصرة لحساب طرف آخر لديه حساب مفتوح في مصرف آخر في قضاء تابع لمحافظة نينوى او ديالى مثلا".
وحتى ان اجراءات سحب مبلغ من حساب الشخص بنفسه لم ننجح في تبسيطها لجعلها مقنعة وجاذبة.
كما ان حرفية تطبيق التعليمات الملزمة بموجب قانون مكافحة غسل الاموال وتمويل الاجرام وغيرها وبروحية اسقاط الفرض، والميكانيكية المبالغ بها، قد تسهم في تحاشي المجتمع الاهلي وربما بعض رجال الاعمال للمصارف. والسؤال كم هو حجم الجهد المطلوب لتطوير العمل المصرفي من اجل اقناع المستثمرين الاجانب لفتح حسابات لدى المصارف العراقية يتطلب الامر بيئة عمل مصرفي مختلفة وتقنيات واساليب ادارة احدث ومهارات اعلى واستجابة سريعة مع ارادة التغيير في المضامين والجوهر.
ونعود الى كمية الورق ومن المشروع الاهتمام بتقليصها وقد تكون هذه الرغبة هي ما يفسر تساهل بعض الزملاء مع وهم ان ازالة الاصفار تؤدي تلك المهمة وما كان ينبغي تخصيص مقالة تتناول ابسط المعارف في الصيرفة لولا اقصاء ثقافة الحساب والتمادي في المنطق الكمي في الاقتصاد والصيرفة. وقد اتضح ان الانتقال الى فئات اكبر هو الحل في سياق الظروف الحالية والتي خلاصتها ان العراق مجتمع نقدي Cash Society بمعنى الميل الدائم لاجراء المعاملات وابراء الذمم بالعملة الورقية حتى مع الصفقات عالية القيمة. وذلك في مقابل العزوف عن التعامل بالحسابات المصرفية.
ومن المعلوم ان القطاع المصرفي في العراق قاصر جديا"عن الاستجابة لمتطلبات النهوض الاقتصادي. وليس من المتوقع تحقيق منجزات ملموسة في هذا المجال قبل ان توليه السلطات اهتماما"حقيقيا".
ومن دلالات ذلك الاهتمام تجنب صرف الوعي عن مشكلات بقيت كما هي مطلع عام 2004. لازالت المصارف الحكومية الكبيرة، الرافدين والرشيد، لا تستطيع اجراء تحويلات عبر الحدود ولا تزاول صيرفة التجارة الخارجية، كما ان علاقة الموازنة المالية بالمصارف الحكومية يكتنفها الكثير من الغموض والتخلف الزمني للمعلومات. والمصارف الخاصة مثقلة بالمشاكل. يتأخر علم السلطة الرقابية بالمركز المالي للمصرف الحكومي او الخاص كثيرا". ولم نتمكن، حتى الان، من انضاج وثائق متكاملة تلقي الضوء على حجم المخاطر الائتمانية والتشغيلية بما يساعد على التحسب لها. ان السلطات المختصة لم تظهر الاستعداد المطلوب للانتقال بالقطاع المصرفي الى وضع افضل، كما لم تسهم المصارف بالتطوير التنظيمي لقطاع الاعمال، ولم تسأل الحكومة كم من التجارة الخارجية التي يزاولها القطاع الخاص تجري بأعتمادات اصولية وعن طريق المصارف. ان مجموع الودائع الخاصة في المصارف في نطاق 12% من الناتج المحلي الاجمالي، والائتمان المقدم للقطاع الخاص دون 10% منه، ومع ذلك تشكل المصارف الخاصة اكثر من ثلثي نشاط سوق العراق للاوراق المالية والحجم المالي للشركات الداخلة فيه مما يؤكد التخلف المؤسف لقطاع الشركات في العراق الى جانب القطاع المالي.