محمد مهر الدين فعل الرسم  بين التجريد والرغبة في البوح

محمد مهر الدين فعل الرسم بين التجريد والرغبة في البوح

هاشم تايه
في معظم أعمال الفنان محمد مهر الدين نواجه فعل الرسم في توجّهين مزدوجين، أحدهما يكون فيه هذا الفعل مخلصاً لنفسه فلا يدخر أية طاقة من طاقاته من أجل أن يسوس مواده ويعالجها بحيوية وحميّة متقدتين مقلّباً إياها في احتمالات تشكيلية ثرّة يقترحها الخيال الحرّ ويشرف عليها العقل ذاهباً بها إلى أقصى إمكانات تشكّلها، والآخر يتخلّى فيه، أو هكذا يبدو، عن بعض إخلاصه لنفسه،

فلا يغلق حدوده بوجه ما يقبل عليها من خارج انشغالات رؤيته، بل يسمح لها أن تعسكر على سطحه ناطقةً بما ترغب فيه إرادةٌ يهمها أن تتبنّى قضية أو تعلن عن موقف، فلا يسع فعل الرسم، وقد ألفاها في مجاله إلا أن يختار بين أمرين، أن يخضعها لمطالبه فتتكيّف على وفق ما تقتضيه بنيته، وهو ما اجتهد مهر الدين في القيام به في عدد من أعماله، أو أن يتغافل عنها في أعمال أُخر فتلتصق على السطح كتصريح أصمّ متعال بين خطوط وألوان انخرطت في نسيج مشتبك من العلاقات دون أن تعبأ به، أو يعنيها أمره. ولهذا تظل عبارات من أمثال (الحرب القذرة) و (أبو غريب) وغيرها مجرّد عنوانات تائهة لا خيط يصلها بما تورطت على القفز فيه ولا يسعفها إلاّ بالخذلان. فما الذي يجعل سطحاً تجريداً محضاً انشغل بعلاقات عناصره وحدها في حياد بارد، يتقبّل قسراً هذه المادة اللغوية التي تصرّح بموقف معين من قضية ما دون غيرها، مادام هو مقسوراً في كل الأحوال، وما دامت قواه الداخلية بالمظهر الذي اتخذته لا تستطيع، بسبب طبيعتها الخاصة وانشغالها بما هي معنية به، أن تقيم علاقة معه، وسيظل ملفوظاً خارجياً يمكن استبداله بأي ملفوظ آخر لا يجد السطح التجريدي غضاضة في استضافته.
وعلى الرغم من انجذاب مهر الدين إلى مفردات أسلوبه الأثيرة ومواد عمله المختلفة وعكوفه عليها في أعماله الأخيرة مستثمراً قواها استثماراً لا يقف عند حدود في تشكيلات تجريدية ثريّة ما أن يفرغ من أحدها حتى ينبثق منه آخر هو محض تعديل أو اقتراح مفتوح لإمكان يتجدد بفعل ذخيرته الحيّة، فإن مهر الدين لم يتخلّ عن نزوعه القديم في أن تتبنّى أعماله قضايا معينة وتتخذ مواقف حيال ما يقع في محيطه. وفي (حوار الأجيال) معرضه المشترك مع الفنان دلير سعد شاكر الذي أقيم في قاعة الأورفلي بعمّان في آذار من هذا العام وضع مهر الدين قضية الاحتلال وتداعياته تحت تصرّف فعل الرسم بعد تجريدها من أي شاخص تمثيلي وتحويلها إلى مادة لغوية تستجيب لمتطلبات نزوعه التجريدي ذي الطابع التصميمي. وهي تتسم بطابع صريح مباشر عبر مقتطفات عبارات ممّا يلتقطه الفنان من الخارج المحتدم تتجاور مع تعليقات مبثوثة على السطح بلغة عربية تتخللها أو تزحمها كلمات لاتينية في صِدام لا يجري حلّه بين لسانين مهمومين منفصلين بانشغالاتهما، أو يتبدى موقف الفنان من قضية الاحتلال في تلميح تشكيلي فطِن حين يجعل لوحته مجرد سطح شاحب غادرته الألوان واحتلته، بسطوة، لغةٌ أخرى هي غير لغته، لغة لا يقوى على فهمها، لأنها ليست كلمات وإنما هي هذا الحرف اللاتيني أو ذاك، وكأنّ تلك الحروف المكرورة المتتابعة هي مجرد أصوات مبهمة أو رطانات كائنات غريبة لا تجوز في المحيط الذي تكالبت عليه. أو يعمد الفنان إلى إفراغ السطح تماماً ويجرّده إلا من لون رمادي تقطعه خيوط مستقيمة أفقية وعمودية مُحوّلاً إيّاه إلى مربعات ترسمها- لتسهيل مهماتها- إرادة من فوق لطائرات مغيرة رُسِمت بخطين قصيرين يتقاطعان في نقطة.
يفصح مهر الدين عن رغبته الشديدة في أن يبزّ منجزه ويتفوّق على نفسه، فانطلق ينجز أعماله الأخيرة مستفيداً كدأبه من لغة التصميم التي طغت على بعضها طغياناً جعله يبدو منتجاً آليّاً تحرّكه مقاصد عملية باردة، فيتغرّب عن الروح الإنساني ليغدو عملاً من أعمال الذهن تُستخدم فيه المسطرة والمقص وتُوضع فيه مادته في مواضع تقاس بينها المسافات بدقّة على وفق ما تقتضيه مطالب التصميم.
ولكي يخفّف من سكون التصميم وطابعه الآلي المحايد استخدم مهر الدين الخطوط بوفرة، وجعلها تتحرك على السطح بحرية هي على الضد من انضباط عناصر التصميم وصرامتها، خطوط رقيقة أو عريضة، داكنة أو باهتة تروح وتجيء مستقيمة عابرة القطع الملصقة والحقول الملونة المتجاورة وكأنها الطرق نستقلّها على السطح التصويري ونمضي حيث نشاء، أو هي تتلوّى وتتعرّج طائشة عشوائية، وهي في دوّامة حركتها تشدّ الرُّقع الملصقة إلى بعضها، وتقوّي أواصرها، وتقوم بجذبها من مواضعها البعيدة لكي تلتحم بالمركز فلا تغفلها العين. ومّما يسهم في تحريك السطح ويقوّض الحس بالرتابة غير الخطوط، عدم تردد الفنان في ثقب أعماله في هذا الموضع أو ذاك أو القيام بقرض حدودها قرضاً حقيقياً أو باللون لتكون بمثابة بوابات متعددة تلج منها العين.
غالباً ما يختتم مهر الدين لوحته بشطبها شطباً حادّاً يمرّ على أعضائها كلّها ويغور فيها كالجرح. الشطب يأتي في لحظة من حياة لا تريد أن تقف يعيشها فعل الرسم، شطب يعطّل جريان العمل، ويوقفه في نقطة معينة من رحلته يرهنه فيها، ليستأنفه الفنان في عمل لاحق. الشطب يعني الإرجاء والتأجيل وفيهما يستعيد الخيال المرهق أجنحته، والوعي اتقاده، واليد دمها. ويعني الشطب أيضاً احتمالاً آخر مايزال قائماً لدى الفنان لوضع جديد ومظهر تتخذهما عناصر لغته ومواد عمله، ممّا يجعل مجموعة أعمال الفنان عملاً واحداً يعكس تجربة موحّدة يجري التعبير عنها بتنوّع.