من اسرار السيرة السياسية لمزاحم الباجه جي..هل اتصل بالالمان والايطاليين في الحرب العالمية الثانية ؟

من اسرار السيرة السياسية لمزاحم الباجه جي..هل اتصل بالالمان والايطاليين في الحرب العالمية الثانية ؟

■ د. فهد امسلم زغير
بعد ان قطعت الحكومة العراقية علاقتها الدبلوماسية مع فرنسا في تشرين الثاني 1941 واعلنت الحرب على المانيا وايطاليا واليابان، أخذ مزاحم الباجه جي الوزير المفوض للعراق في ايطاليا يتنقل بين المدن الاوربية ولم تتسن له العودة الى العراق ، كما ان الحكومة العراقية رفضت مقترحه بأحداث مفوضية عراقية في مدينة ( برن) السويسرية بعد اغلاق المراكز الدبلوماسية العراقية في المانيا وايطاليا وفرنسا

رغم انه ثبت في مقترحه أهمية فتح مثل هذه الممثلية الدبلوماسية في سويسرا كونها كانت محايدة في الحرب العالمية الثانية فضلاً عن مركزها المتوسط، مما يجعلها قادرة على تقديم الخدمات العامة الى جميع الجاليات العراقية الموجودة في أوربا.
كما انها تبقي العراق على اتصال دائم مع ما يجري في أوربا من تطورات ولا تفقده صلته بالمجتمع الدولي، وطلب منه العودة الى العراق دون تأخير، الا ان عدم عودته لممارسة عمله في بغداد جعل وزارة الخارجية العراقية تنهي خدماته من السلك الخارجي اعتباراً من الحادي والعشرين من نيسان 1942 قبل الظهر .
بدأ مزاحم الباجه جي، بعد قطع العراق علاقاته الدبلوماسية مع حكومة فيشي في تشرين الثاني 1941 بإجراء اتصالات في العشرين من تشرين الثاني 1941 مع وزارة الخارجية الفرنسية والطلب منها رسمياً اتخاذ الإجراءات اللازمة لتسهيل سفره وبعض الرعايا العراقيين الذين كانوا يرغبون بالعودة إلى العراق، إلا أن وزارة الخارجية الفرنسية التي كانت منشغلة بتطورات الحرب تباطأت في الموضوع، فكرر مزاحم الباجه جي طلبه ، فكتبت الخارجية الفرنسية الى لجنتي الهدنة في المانيا وايطاليا لاستحصال الرخصة منهما على مروره من ايطاليا والمانيا والبلدان التي تحت احتلالها في البلقان، وتخوفت الخارجية الفرنسية من عدم وصول الجواب على ذلك بسرعة، لاسيما من ايطاليا التي قد تضع بعض العراقيل امام عودة مزاحم الباجه جي الى العراق.
لم تكن عملية عودة مزاحم الباجه جي الى العراق سهلة لان طرق المواصلات بين ايطاليا والمانيا من جهة، ودول البلقان من جهة ثانية كانت شبه منقطعة بسبب حصر النقل بالجيوش الايطالية والألمانية إلى الجبهة الروسية ، وكان النقل بالسكك الحديد ما بين (صوفيا) أو(استانبول) ممنوعاً، ولم يسمح بالسفر الا عن طريق السيارات وفي حالات خاصة جداً، وفي ظل ظروف غير آمنة وقد يتم التعرض لأخطار لا تحمد عقباها، فضلاً عن التخوف من بقاء مزاحم الباجه جي محصوراً في المناطق التي يمر بها مابين سويسرا وتركيا بسبب الاختلال الحاصل في السكك الحديد، والاضطرابات التي كانت تزداد في يوغسلافيا التي شهدت تطورات سياسية هامة.
كان هناك طريق آخر فكر في استخدامه مزاحم الباجه جي وهو طريق بحري يبدأ من (لشبونه) في البرتغال الى ( موزمبيق) ومنها الى مصر أو الهند ، الا ان هذا الطريق ، فضلاً عن كونه محفوفاً بالمخاطر، فانه يستغرق اكثر من شهرين، ولا تبحر السفن الا مرة واحدة في الشهر، فابرق الى وزارة الخارجية العراقية يعلمها بذلك مقترحاً عليها " احداث مفوضية عراقية في سويسرا (برن) بنفس مخصصات باريس وبدون اضافة أي موظف آخر " الا ان الحكومة العراقية رفضت اقتراحه وطلبت منه العودة الى العراق فوراً ودون تأخير.
جاء رفض حكومة نوري السعيد السادسة لمقترح مزاحم الباجه جي في استحداث مفوضية عراقية في سويسرا رغبة منها في عدم بقائه خارج العراق ومنحه منصباً دبلوماسياً يبقيه بعيداً عن سيطرتها ومحاسبتها له بسبب تأييده لرشيد عالي الكيلاني عام 1941 وعلاقته غير الودية بنوري السعيد شخصياً ، فقد تعهدت هذه الوزارة في منهاجها بفصل كافة الموظفين المؤيدين للكيلاني. بإزاء ذلك كان مزاحم الباجه جي يحاول البقاء في سويسرا بسبب حيادها في الحرب العالمية الثانية، وكونها بعيدة عن احوال الحرب ومخاطرها، وتؤمن له عدم العودة الى العراق وما قد يترتب على عودته من احتكاك بحكومة نوري السعيد ومحاسبتها له على موقفه السابق وتأييده حكومة الكيلاني ومعارضته للسياسة البريطانية في العراق ، ففي الوقت الذي كان فيه مزاحم الباجه جي يحاول اختلاق الذرائع لعدم العودة الى العراق وكانت الخارجية العراقية تدعوه للعودة فوراً الى بغداد ولعل البرقيات المتبادلة بين مزاحم الباجه جي ووزارة الخارجية العراقية تسلط الضوء على ذلك فقد اقترحت عليه الوزارة سلوك طريق ( لشبونه موزمبيق)، واوعزت اليه بالسفر مباشرة الى البرتغال للعودة الى بغداد فوراً، واستطاعت المفوضية الافغانية في فرنسا التي تولت شؤون العراق هناك بعد قطع العلاقات الدبلوماسية بين العراق وفرنسا ان تحصل لمزاحم الباجه جي على تأشيرة دخول الى البرتغال، الا ان الحكومة الاسبانية رفضت منحه سمة المرور من اراضيها بحجة ان العراق يعد من الدول المشتركة في الحرب العالمية الثانية ، لذلك لا يتسنى لها ان تمنح أحد دبلوماسييه سمة المرور عبر اراضيها للذهاب الى البرتغال. كان مزاحم الباجه جي خلال هذه الفترة يعيش في حياة صعبة ويعاني من قلق نفسي غير قليل، فبعد قطع العلاقات العراقية الفرنسية، غادر مدينة فيشي وسكن في (الريفييرا) متنقلاً ما بين (نيس) و(موناكو) بانتظار انتهاء قضية سفره وعودته الى العراق بعد ان رفضت الحكومة العراقية تعيينه في سويسرا ، فكتب في السادس عشر من آذار 1940 معلقاً على وضعه " اني في اشمئزاز عظيم من هذه الحياة الخالية من العمل، لا أدري ما أعمل والطرق جميعها مسدودة ولا استطيع الوصول إلى العراق " ثم عاد بعد أسبوع ليكتب انه متضايق للغاية من حالته وفي حيرة من امره ، لان " البقاء هنا غير مناسب والسفر منه متعسر " وفي السادس والعشرين من آذار 1942 كتب منتقداً بشكل غير مباشر رئيس الوزراء نوري السعيد، فجاءت كلماته وهي تعبر عن معاناته الإنسانية العميقة قائلاً " اني غير مرتاح من وضعي الذي خلفه لي من في بغداد برفضهم تعييني بسويسرا" واستطرد قائلاً " قاتل الله الأغراض التي تعمي وتصم".
كانت اخبار العراق وتطوراته السياسية بعيدة عن مسامع مزاحم الباجه جي حتى زاره في الثاني من نيسان 1942 المسيو لكوبيه وزير فرنسا المفوض في بغداد، وعلم منه ان بعض السياسيين العراقيين امثال ناجي السويدي وموسى الشابندر وعبدالقادر الكيلاني اعتقلوا، وان الرأي العام في العراق متعاطف مع المانيا، وتزداد كراهية العراقيين لبريطانيا والمؤيدين لسياستها امثال نوري السعيد الذي يمقته الناس بسبب سياسته المعادية للوطنيين العراقيين، ونصح الدبلوماسي الفرنسي ، مزاحم الباجه جي بعدم الرجوع الى العراق وبالبقاء في فرنسا لان المحافل الحكومية والبريطانية تعد مزاحم الباجه جي" من اصحاب الميول نحو دول المحور".
وفي الثالث من نيسان 1942 أبلغت المفوضية الافغانية في فرنسا مزاحم الباجه جي بانها علمت من القنصلية الالمانية العامة ان طلب سمة مرور مزاحم الباجه جي عبر البلقان قد تم رُفضه ، واذا تقدمت وزارة الخارجية الفرنسية مجدداً بطلب التأشيره من وزارة الخارجية الالمانية في برلين فان منح التأشيرة قد يكون ممكناً.
وفي الوقت الذي كان فيه مزاحم الباجه جي منشغلاً في موضوع التدبير لسفره الى العراق، وتفضيله السفر عن طريق البلقان الى تركيا بدلا من السفر عن الطريق البحري المار من لشبونه الى موزمبيق لان الطريق الثاني محفوف بالخطر بسبب اغراق عدة بواخر بريطانية وبرتغالية فيه بواسطة الغواصات اليابانية،فانه تلقى في الثالث والعشرين من نيسان عام 1942 برقية من وزارة الخارجية العراقية تفيد بان مجلس الوزراء العراقي في جلسته المنعقدة في الحادي والعشرين من نيسان 1942 قرر انهاء خدماته من السلك الخارجي اعتباراً من الحادي والعشرين من نيسان 1942، الأمر الذي عزاه مزاحم الباجه جي وأكد أن سببه الحقيقي هو " الحقد الدفين الذي تحفظه علي بعض الصدور في الوزارة القائمة في بغداد ورئيسها نوري السعيد".
وصدرت الارادة الملكية المرقمة ( 243) لسنة 1942 التي صادقت على قرار مجلس الوزراء العراقي الخاص بانهاء خدمات مزاحم الباجه جي من السلك الخارجي ، فاصبح موضوعاً محسوماً، مما جعل مزاحم الباجه جي يرسل برقية وكتاباً مفصلاً الى وزارة الخارجية العراقية احتج فيهما على قرار انهاء خدماته ومستغرباً من خلوه من الاسباب والمبررات التي دفعت مجلس الوزراء الى اصدار قراره الذي عده بشكله ظلماً واجحافاً بحقه لان وزارة الخارجية العراقية لم توجه له اسئلة أو استفسارات له قبل اتخاذ مثل هذا القرار المصيري بحقه، ثم أن الطريقة التي " تنصب الوزارة من نفسها ومجلس الوزراء مدعياً وقاضياً والمتهم غائب في محل يبعد الاف الاميال، وفي طريق رجوعه شق الموانع ، ومن ثم تبلغه بالحكم الصادر من مجلس الوزراء ، وذلك بعد ما تم لها ما أرادت، فطريقة غير صحيحة ومردودة ومن شأنها ان تجعل الشكوك والريب الكثيرة تحوم حولها " وثبت مزاحم الباجه جي في احتجاجه الرسمي حقيقة مهمة وهي " ان الاهواء المغرضة والحقد الدفين وحب الانتقام الذي يغلي في صدور البعض" هي التي أسهمت بإصدار هذا القرار ضده ، واستطرد قائلاً " ان بعض اللئام اراد أغاضتي ودفعي إلى ما قد يشفي بعض حقده الدفين، ويبرر غله المتأصل في العروق فسعى ودس ضدي كما كان شأنه في جميع الظروف" وأختتم كلامه مؤكداً انه جعل مصلحة بلاده وكرامتها فوق جميع الاعتبارات الاخرى، لذلك فانه سيكتفي بالاحتجاج، وسيحتفظ بجميع الحقوق والمطاليب والاضرار الادبية والمادية التي ضمنها له القانون والنظام والعرف بعد ان قاسى " من تعنت وغطرسة اللئام – الذين لا يتورعون في استغلال المناصب الحكومية في سبيل اهوائهم الشخصية- شيئا ًكثيراً ".
أدى انهاء خدمات مزاحم الباجه جي من السلك الدبلوماسي وخلافه مع حكومة نوري السعيد السادسة التي عدها مزاحم الباجه جي المسؤولة عن ملف انهاء خدماته الى ان يصبح متقاعداً مدنياً حسب الأمر الاداري ( 22042) الذي صدر في الثاني من تشرين الثاني 1942 بعد ان تشكلت وزارة السعيد السابعة (8 / تشرين الأول/ 1942 – 3 / حزيرن/ 1944)، وابتداءً من الحادي والعشرين من نيسان 1942 وهو تاريخ انتهاء خدماته ، وبراتب قدره أربعة وثلاثون ديناراً وثلثمائة وخمسة وسبعون فلساً ، واستمر مزاحم الباجه جي يتسلم راتبه التقاعدي حتى تعيينه رئيساً للوزراء في حزيران 1948 فقطع راتبه التقاعدي.

محاولات كسب مزاحم الباجه جي الى جانب دول المحور

حاولت بعض الاوساط المعادية للحلفاء استغلال انهاء خدمات مزاحم الباجه جي من السلك الدبلوماسي وخلافه مع حكومة نوري السعيد لضمه الى جانبها والإفادة من امكاناته السياسية وخبراته التي اكتسبها في مجال العمل الدبلوماسي في السلك الخارجي، فسعت السلطات الالمانية المحتلة في فرنسا استمالته الى جانبها عندما اتصل به القنصل الالماني العام في مدينة ( فيشي) الفرنسية في الثالث من آب عام 1942، واخبره ان رشيد عالي الكيلاني يود مقابلته في ميونخ طالباً منه ابداء رأيه في السفر الى هناك في أي وقت يرغب به للقاء الكيلاني.
كان رشيد عالي الكيلاني قد وصل الى برلين، والتقى هناك بمفتي فلسطين محمد أمين الحسيني وعملا معاً ضد الحلفاء ، فحاولا كسب اكبر عدد ممكن من رجال السياسة والسلك الدبلوماسي العراقي من الناقمين على السياسة البريطانية في العراق أو الذين كانت لديهم مشاكل مع حكومة نوري السعيد الموالية لهم، وكان من هذه الشخصيات التي أرادوا ضمها اليهم مزاحم الباجه جي الذي كان موجوداً في مدينة (فيشي) الفرنسية إلا أن مزاحم الباجه جي أدرك غاية الكيلاني من تكليف القنصل الالماني العام في فرنسا للاتصال به ، فاعتذر عن السفر الى المانيا بحجة المرض، لكن السلطات الالمانية لم تقتنع بحجته، فعاودت الاتصال به ثانية في السابع عشر من أيلول عام 1942 وحاولت ان توصل له مبلغاً قدره أربعون الف فرنك مرسلة من رشيد عالي الكيلاني، إلا أن مزاحم الباجه جي رفض استلام هذا المبلغ لانه ليس بحاجة اليه، ورجا المبعوث الذي أرسله القنصل الالماني في مارسيليا ان يشكر رشيد عالي الكيلاني على مبادرته ويؤكد له عدم حاجته الى المال بتاتاً.
وعلى الرغم من هذا الرفض المتكرر لمحاولات الالمان اقناعه بالسفر الى بلادهم ولقاء رشيد عالي الكيلاني في ميونخ ، فأن السلطات الالمانية في فرنسا لم تتركه واستأنفت الاتصال به مرة اخرى في الأول من تشرين الثاني 1942 عن طريق ارسال عسكريين المانيين الى غرفته في مدينة ( نيس) الفرنسية واخبراه ان القنصلية الالمانية هناك تطلب جواز سفره لمنحه سمة المرور من المانيا في طريقه الى العراق عبر البلقان، فرجاهما مزاحم الباجه جي ان يطلب ذلك بواسطة وزارة خارجية فرنسا.
أدرك مزاحم الباجه جي بثاقب بصيرته ان الالمان ومعهم رشيد عالي الكيلاني لن يتركوه بعيداً عن مخططاتهم ، وان ما عرضوه عليه من منحه سمة مرور من المانيا وطلبهم جواز سفره ما هو الا مجرد استدراجه للذهاب الى المانيا ، فقرر ترك مدينة ( نيس) والذهاب الى ( مونت كارلو) التي كانت تتمتع باستقلال اسمي لغرض التخلص من المحاولات الالمانية وضغوطها عليه للعمل مع دول المحور .
لم يستمر الوضع في فرنسا على ما هو عليه ، اذ أدت هزيمة الالمان في معركة العلمين ، ونزول قوات الحلفاء في شمال افريقيا في السابع من تشرين الثاني 1942 ، الى ان تحتل المانيا جميع الاراضي الفرنسية، واحتل الايطاليون ساحل الريفير الفرنسي بما في ذلك ( نيس)، فازداد موقف مزاحم الباجه جي حراجة لانه أرسل جواز سفره الى القنصلية الالمانية في مارسيليا لمنحه تأشيرة المرور من المانيا، وأبلغ من الوزير الالماني المفوض المسؤول عن رعاية المصالح العراقية في فرنسا بان الحكومة الالمانية وافقت على منحه التأشيرة المطلوبة، الا ان القنصلية الالمانية احتفظت بجوازه ولم تعده اليه، فتأكدت لديه شكوكه من ان الالمان يسعون لدفعه الى السفر لالمانيا والالتقاء برشيد عالي الكيلاني، فزاد احباطه وكتب في دفتر مذكراته في الرابع عشر من تشرين الثاني 1942" مللت هذه الحياة ولا ادري ما العمل حتى الآن لم ترسل القنصلية الالمانية جواز سفري واني في غاية الاستغراب من عملها هذا".
استمرت دول المحور في محاولاتها لاستمالة مزاحم الباجه جي اليها ودفعه للسفر الى المانيا ولقاء رشيد عالي الكيلاني ، ففي السابع عشر من كانون الأول 1942 زاره قنصل ايطاليا في موناكو بدون موعد مسبق واخبره انه تلقى اوامر من حكومته لاجراء التسهيلات اللازمة له اذا ما اراد زيارة روما ، فشكره مزاحم الباجه جي وادرك ان ذلك من عمل رشيد عالي الكيلاني الذي كان يريد لقاء مزاحم الباجه جي في أي دولة من دول المحور،ان يأس من مجيئه الى المانيا فحاول هذه المرة الإفادة من احتلال الايطاليين للمدينة التي يسكن فيها مزاحم الباجه جي للضغط عليه وتسهيل مهمة سفره الى روما لغرض مقابلته .
ازدادت مشاكل مزاحم الباجه جي وتعقدت اوضاعه بعد اعلان العراق الحرب على دول المحور في السادس عشر من كانون الثاني سنة 1943 فاصبح وضعه اكثر حرجاً لانه أصبح من رعايا دول الاعداء بالنسبة لالمانيا وايطاليا ، واضطر بسبب الضائقة المالية التي ترتبت على انهاء خدماته الى بيع ما يمتلكه من سجاد ايراني نفيس كان يمتلكه بابخس الاثمان لمواجهة متطلبات معيشته الباهظة في مونت كارلو.
عادت السلطات الالمانية والايطالية الى الاتصال بمزاحم الباجه جي في الثالث والرابع من شباط 1943 ، فقد استلم القنصل الايطالي في مونت كارلو في الثالث من شباط برقية من روما تطلب فيها الحكومة الايطالية من مزاحم الباجه جي الذهاب الى روما بدلاً من مكوثه في مونت كارلو، وفي الرابع من شباط 1943 حضر الى غرفته في ( مونت كارلو) اثنان من الدبلوماسيين الالمان وهما الهر سونر نائب القنصل الالماني في مارسيليا ، والهر هانس شيه واخبراه ان الحكومة الالمانية قررت ارساله الى المانيا وابقاءه هناك حتى نهاية الحرب العالمية الثانية لان العراق أعلن الحرب على المانيا وحجز الدبلوماسيين الالمان في العراق.
كان جواب مزاحم الباجه جي للدبلوماسيين الالمانيين يتضمن ان الحكومة العراقية لم تحجز على أحد من الدبلوماسيين الالمان ، بل انها سهلت سفرهم الى خارج الحدود العراقية منذ اواخر عام 1939 عندما قرر العراق قطع علاقاته الدبلوماسية مع المانيا، بينما أمتنعت المانيا عن منحه السمات اللازمة لرجوعه الى العراق في الوقت الذي منحتها لغيره من الدبلوماسيين ، واكد مزاحم الباجه جي ان وزارة الخارجية العراقية انهت خدماته من السلك الدبلوماسي منذ نيسان 1942 ، وهو يقيم في (مونت كارلو) بصفته الشخصية وليست له أي صفة رسمية، ومثله مثل الالاف من الرعايا الاجانب الذين أعلنت دولهم الحرب على المانيا، ويسكنون في ( موناكو) وجنوب فرنسا دون ان يتعرض لهم أحد، فضلاً عن ذلك فانه ساكن في اراضٍ محتلة من قبل ايطاليا حليفة المانيا ، لذلك فان وجوده في (مونت كارلو) هو تحت اشراف السلطات العسكرية الايطالية، وهذا يعني انه موجود في منطقة كوجوده في المانيا نفسها، فرد الدبلوماسيان الالمانيان على كلامه بالقول انهما سمعا من مصدر موثوق ان الحكومة الايطالية تنوي القاء القبض عليه وتسفره الى روما حتى نهاية الحرب، لذلك ، وحسب رأيهما، ان من الأفضل له الذهاب الى المانيا ومقابلة رشيد عالي الكيلاني هناك.
أدرك مزاحم الباجه جي ان الضغوطات الالمانية والايطالية عليه كانت بوحي من رشيد عالي الكيلاني الذي لم يترك وسيلة ضغط الا واستخدمها من أجل استدراج مزاحم الباجه جي للقاء به والتأثير عليه من أجل كسبه الى جانبه ضد الحكومة العراقية التي كانت توالي بريطانيا ، الا ان الباجه جي لم يخضع لهذه المساومات والضغوطات وبقي مصراً على رأيه بعدم الانجرار للعمل مع دول المحور والمعادين للسياسة البريطانية في العراق .
واستباقاً للاحداث وخوفاً من القاء الايطاليين القبض عليه وأرساله الى روما اذا ما دخل القنصلية الايطالية في (مونت كارلو) فان مزاحم الباجه جي كلف احد اصدقاءه مرافقته الى القنصلية الايطالية والوقوف قريباً منها بعد ان جمع اغراضه ووضعها في صناديق عدة، واخبر صديقه بانه اذا ما القي القبض عليه في القنصلية، فيجب ان يذهب حالاً الى ( نيس) ويخبر الوزير الافغاني المفوض بذلك لانه المسؤول عن الرعايا العراقيين بعد قطع العلاقات العراقية مع حكومة فيشي الفرنسية.
وفي الخامس من شباط 1943 قابل مزاحم الباجه جي القنصل الايطالي في مقر القنصلية في ( مونت كارلو)، الذي اخبره انه تسلم كتاباً من وزارة الخارجية الايطالية فحواه ان الحكومة الايطالية ترغب في رؤيته في روما وانها ستسهل أمر سفره الى سويسرا، الا ان مزاحم الباجه جي اكد للقنصل الايطالي عدم استطاعته السفر الى العاصمة الايطالية ولا يجد سبباً لذلك لانه يعيش الآن في بلاد واقعة تحت الاحتلال الايطالي ، وخلال حديثه مع القنصل الايطالي فهم مزاحم الباجه جي ان رشيد عالي الكيلاني هو الذي يلح على الايطاليين لجلب مزاحم الباجه جي الى روما للقاءه هناك بعد ان يأس من جلبه الى المانيا، فحاول الإفادة من وجوده في منطقة خاضعة للاحتلال الايطالي لكي يتم الضغط عليه وتسفيره الى روما وتحقيق اللقاء معه.
وعندما فشلت كل المحاولات والضغوط التي استهدفت دفع مزاحم الباجه جي الى السفر الى روما حضر القنصل الايطالي الى الفندق الذي كان يسكنه مزاحم الباجه جي في (مونت كارلو) في الثامن والعشرين من شباط 1943 واخبره انه استلم برقية من حكومته اكدت فيها ان مزاحم الباجه جي له ملء الحرية في البقاء في ( مونت كارلو) أو المجيء الى روما أو الرجوع الى العراق عبر ايطاليا ، وان الحكومة الايطالية لا تنوي أو ترغب بالتضييق عليه.
أيقن مزاحم الباجه جي ان المخرج الوحيد له هو ترك ( مونت كارلو) والذهاب الى سويسرا والاقامة فيها حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، لاسيما بعد ان كان يخشى من غدر السلطات الايطالية به ، وبالفعل لم تمنحه السلطات الايطالية سمة الخروج من (مونت كارلو) الى سويسرا، وانما منحته سمة للخروج منها الى ايطاليا في الثاني من آذار 1943، وهذا الامر جعله يتصل هاتفياً بالقنصل الايطالي في (مونت كارلو) ويخبره انه لا يقبل هذه السمة ، وطلب ابطالها، وتم ذلك بعد ضغوط عديدة والحاح مزاحم الباجه جي على عدم السفر الى روما واصراره على الذهاب الى سويسرا للمكوث فيها الى نهاية الحرب، وجاءت التطورات الدولية في شمالي افريقيا وانهيار المقاومة الالمانية هناك واستسلام القوات الالمانية في تونس للحلفاء في آيار 1943اضطر مزاحم الباجه جي والمقيمون في الساحل الجنوبي من فرنسا بالنزوح الى شمالها فترك ( مونت كارلو) وقرر السفر الى مدينة ( سافو) القريبة من سويسرا بانتظار الأذن من السلطات الفرنسية للمكوث هناك، وخلال هذه الفترة وصلته موافقة الحكومة الايطالية على منحه سمة المرور عبر ايطاليا للذهاب الى سويسرا ، كما حصل على سمة الدخول الى سويسرا، فغادر ( مونت كارلو) في العشرين من تموز 1943 ، ووصل الى جنيف في اليوم التالي وبقي هناك حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.