فكتوريا.. قصة وجدانية و فوارق طبقية

فكتوريا.. قصة وجدانية و فوارق طبقية

الكتاب : فكتوريا
المؤلف : كنوت هامسون
ترجمة : د 0 خالد أقلعي
الناشر : دار المدى
الحجم : المتوسط ( 151 ) صفحة
الطبعة الأولى : 2013
عرض : عبدالزهرة الركابي

1

رواية ( فكتوريا ) للكاتب النرويجي كنوت هامسون الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1920 ، تتداخل فيها عوامل وجدانية و طبقية ، كما تخللتها مراحل من التجاوب و الاستقرار و التقلب و النفور و النهاية المأساوية ، و كذلك عكست مشاهد لنفوس مضطربة ، و قد جاءت نهايتها على عكس ما كان يتوقعه القارئ بعدما حدثت منعطفات في هذه القصة الوجدانية التي جمعت يوحنا ابن الحطاب من جهة ، و فكتوريا وحيدة أسرة ثرية ، حيث أن يوحنا اقترن بأخرى هي كاميلا ، بينما ترتبط كاميليا بالملازم الأول أوطو الذي يرحل عن الدنيا ، حتى أن القارئ راح يتوقع أن فكتوريا ستعود الى يوحنا ، بيد أنها تلحق بخطيبها و تغادر الدنيا أيضا" ! 0
كُتبت الرواية بلغة شعرية من هامسون ، و قد ترجمها القاص المغربي خالد أقلعي الذي تعامل معها بلغة موفقة ، عندما نقل أسلوب السرد بمقاربة لغوية قريبة من أسلوب المؤلف ، مستعينا" في ذلك بأسلوبه القصصي ، كي يمنح السرد الشعري في هذه الرواية ، دفقا" ساخنا" في نصها المعرّب 0
مراحل يوحنا
تبدأ الرواية في مشهد استرجاعي لبطل الرواية يوحنا 00 يمضي أبن الطحان حالما" ، صبي في الرابعة عشرة من عمره ، لفحته الرياح و أشعة الشمس ، ذهنه يغلي بالأفكار على الدوام : في المستقبل ، سوف يصبح و قادا" ، ستضمن له هذه الحرفة اللذيذة الخطرة احترام الأصدقاء ، و بما أن آثار الكبريت سوف تعلق بأصابعه ، فإن أحدا" لن يجرؤ على مصافحته 0
ترتكز الرواية على مراحل مثلما أسلفنا ، عبر المراحل التي يمر بها يوحنا ، و سيرة الأخير هنا ، هي أساس الرواية ، حيث تنطفئ الشخصيات التي كانت تماثله بشكل أو بآخر ، بينما يبقى في ختام الرواية يقرأ رسالة فكتوريا التي كتبتها له قبل أن تموت ، فالرسالة كانت بمثابة اعتذار ، بيد أنها أوصت أن تُسلم له بعد موتها ، و ربما بقاء يوحنا و موت فكتوريا و قبل ذلك خطيبها ، له دلالة طبقية أكثر مما هي دلالة مأساوية 0
2
حاول كنوت هامسون ، أن يلمح في أكثر من مشهد الى الفوارق الاجتماعية أو الطبقية ، عبر رموز عدة ، تتمثل في الملابس أو الكلمات أو حتى الأماكن 00 التقى الجمع أخيرا" ، على مقربة من القارب الراسي ، كان يوحنا قد جمع من البيض أكثر من الآخرين أحتفظ به داخل قبعته بحذر شديد 0
كيف استطعت أن تعثر على كل هذا البيض ؟ ! سأل أوطو – أعرف موضع الأعشاش ، أجاب يوحنا مزهوا" ، ثم أضاف مخاطبا" فكتوريا ، خذي ضعيها مع بيضك 0
توقف صاح أوطو ، لماذا تفعل هذا ؟ ، تفرس فيه الجميع فتابع كلامه موضحا" – من يضمن نظافة هذه القبعة ؟ 0
تتميز عملية السرد لدى المؤلف هامسون ، بجمل شعرية طويلة ، ثم يُعرج الى أسلوب الحوار القصير و المزحوم بالانتقالات و التقاطعات ، و قد يكون الحوار بين يوحنا و فكتوريا و الذي أعرضه في ما بعد ، نموذجا" للإسلوب المذكور 0
(( نظرت إليه ، جرحتها ابتسامته فاسترسلت مغتاظة : في النهاية ، ألا تفهم أن أبي سوف يرفض ارتباطك بيّ ؟ ، لماذا تضطرني الى قول هذا ؟ أنت تعلم هذا جيدا" ، ماذا سيكون مصيرنا آنئذ ؟ ألست على حق ؟ ، بلى أجاب بعد صمت طويل )) 0
الشخصية المحورية
الرواية و عبر مراحلها ، متمثلة في مراحل يوحنا التي يرتكز عليها المؤلف ، فشخصية يوحنا ، هي محور الرواية و ارتكاز مراحلها ، و حتى شخصية فكتوريا ، و بما حملت من دلالة وجدانية و طبقية ، لم تستطع أن تقابل في الأهمية شخصية يوحنا 0
إذ أن كنوت هامسون ، فرّغ كل مكنونات خياله في هذه الشخصية التي منحها وهجا" شعريا" في استعراضها 00 ألقى نظرة على أوراقه و قرأها ، ها قد صرف خياله مرة أخرى بعيدا" عن النص 000 ليس لديه ما يفعل بالموت و السيارة التي مرت 0
كان إثر وصف حديقة مخضرّة على مقربة من بيت ولادته : حديقة القصر ، في هذه الساعة ، كانت الحديقة متوارية أسفل الثلج ، و لكنه يتخيّل أن ليس ثمة وجود لشتاء و لا ثلج 0
اعتمد هامسون على القطع الشعرية في التمهيد و التوصيف ، ثم يعقب ذلك بحوار قصير تداخلي و استدلالي على هذه المرحلة أو تلك ، من خلال شخصية يوحنا كما أسلفنا ، و هذا الأسلوب الذي نحا إليه المؤلف ، أراد توظيفه لغرض أو هدف ، أعتقد من وجهة النظر الشخصية ، هو إبعاد الضجر عن القارئ ، خصوصا" و أن يوحنا ، هو الركيزة التي تقلع من خلالها الرواية ، و للتأكيد تبدأ الرواية بهذه الشخصية ، و تنتهي بها أيضا" ، و هذا المحور ، جعل هامسون يعمد الى تعميق و تجميل هذه الشخصية بقطع شعرية توصيفية و ذات هالة خيالية ، تتشابك معها انتقالات الرواية
3
المكانية و الزمانية و التراجيدية ، الى حد بتنا نرى نفس المؤلف الشخصي طاغيا" في القطع الشعرية السردية ، و حتى في العبارات الفلسفية في مقاطع الحوار (( استغرق إبداع يوحنا الشتاء بأكمله بدون انقطاع ، ليلا" و نهارا" ، أغصان الحور المجردة من اللّحاء تحدث صريرا" و هي تحتك بجدار المنزل ، مع قدوم الربيع ، كانت العواصف ابتعدت و حملت معها صريف الأشجار )) 0
بينما تظهر حرفة هامسون في الحوار الذي نوهنا الى منحاه الفلسفي في المعنى و الإشارة و البوح 0
فكتوريا و الطحان الأب
كان يوحنا في ديار الغربة ، غير أن أحدا" لم يكن يعلم أين هو بالضبط و قد أنصرم أكثر من عام قبل أن يعلم 0
يُخيل الى انني سمعت دقات على الباب ، قال الطحان العجوز ذات مساء ، أرهف زوجته السمع ، لا لم يكن شيئا" ، ثم أضافت بعد برهة ، إنها العاشرة ، لم يبق كثير على منتصف الليل 0
و مرت الدقائق ، و أرتفع إيقاع الدقات القوية على الباب ، كأن الزائر أتخذ قراره أخيرا" ، فتح الطحان الباب ليفاجأ بفتاة القصر 0
لا تخافا ، هذه أنا ، قالت و على ثغرها بسمة خشية 0
دخلت ، و أعدا لها مقعدا" فرفضت الجلوس ، لم تك ترتدي غير شال يغطي شعرها ، و نعلين صغيرين منخفضين ، على الرغم من أن فصل الربيع كان لا يزال بعيدا" ، و الطريق موحلا" 0
جئت فقط ، لأخبركما بأن الملازم أول سوف يأتي في فصل الر بيع 000 الملازم أول خطيبي ، ربما يرغب بقنص الحجل هنا ، و رأيت أن أخبركما قبلا" ، حتى لا يصيبكما الذعر 0
فكتوريا ، حسبما أرادها المؤلف ، أرادت من وراء إعلام والدي يوحنا بقدوم خطيبها ، أن تؤكد لهما على أن علاقتها بابنهما يوحنا انتهت بعدما تمت خطبتها هذا من جهة ، و من جهة أخرى تنبيههما بضرورة احترام خطيبها و أخذ علم بذلك ، في وقت كان يوحنا غائبا" و لا يعلم والداه بمحل غيابه ، مع أن هناك اعتقادا"لدى القارئ ، من أن فكتوريا تعرف سبب غيابه الذي يتعلق بعلاقتها به ، من جراء ابتعادها عن يوحنا و خطوبتها التي تمت من الملازم الأول أوطو ، بفعل الفوارق الطبقية أو الاجتماعية ، كما هو واضح من كلام فكتوريا مع يوحنا في ما تقدم من الرواية 0
(( مكث يوحنا زمنا" قصيرا" بمكانه ، و أن بدا له زمنا" لا متناهيا" ! أبله و حزين كما يحيط به ، الآن أضحى غريبا" 0
الملازم أول يشك في أنه يغازل فكتوريا ، و هي تحاول أن تشرح الوضع 000 قالت كل ما يريد سماعه ليطمئن قلبه )) 0
نهاية فكتوريا

4
و أكثر ما تنتهي إليه الرواية في الإثارة و المأساوية ، هو نهاية فكتوريا ، و رسالة الندم و الاعتذار التي كتبتها فكتوريا قبل أن تموت ، و في توصيف المشهد الأخير من أحداث الرواية ، يأتي السرد التوصيفي للحظة تسلم يوحنا رسالة فكتوريا 000 بقي يوحنا مسمّرا" في مكانه ، و الرسالة في كفه 0
كانت فكتوريا جثة هامدة ، ردد أسمها بصوت جاف ، و بدون نبرة أكثر من مرّة ، ثم نظر الى الظرف : هذا خطها فعلا" ، تتابع الحروف المكبّرة و المصغّرة ، يشكل سطورا" مستقيمة بدقة ، غير أن من كتبتها لم تعد على قيد الحياة 0
(( و الآن أزفت لحظة الوداع : لم أعد أبصر شيئا" ، لأن الليل حل 000 الى اللقاء ، يوحنا شكرا" على كل يوم ، عندما أرحل عن هذه الدنيا ، سوف أشكرك مرة أخرى ، حتى النهاية ، و سوف أتلفظ بأسمك طوال الرحلة ، من أجلي أنا وحدي ، عش حياة طيبة و سامحني على ما سببته لك من ألم )) 0
رواية ( فكتوريا) من الروايات التي اعتمدت على المنحى الوجداني و السرد الشعري ، كما أنها أشرت على الفوارق الطبقية و الاجتماعية ، و انحازت الى الطبقة الدنيا على حساب الطبقة الأرستقراطية ، من دون أن تقوم يتشريح انتقادي للطبقة الأخيرة ، و مرد هذا ، يعود الى أن الكاتب ، لم يبخل في توصيفاته المشهدية ، عن يوحنا أبن الحطاب ، بل جعله خالدا" و متميزا" ، الى حد أن الرسالة التي كتبتها فكتوريا ، هي اعتراف صريح بتمايز طبقة يوحنا عن طبقتها ، و هي حقيقة لم تستطع البوح بها على الملأ ، لكنها اعترفت بها في رسالتها الى يوحنا قبل وفاتها بفترة وجيزة ، مع التنويه أن فكتوريا اشترطت على ساعي البريد توصيلها بعد وفاتها ، و بالتالي لا أحدا" يحاسب الموتى سوى الله ! 0