طريق التأويل.. طريق الحواس في مجموعة (اليد تكتشف) لعبد الزهرة زكي

طريق التأويل.. طريق الحواس في مجموعة (اليد تكتشف) لعبد الزهرة زكي

علي لفته سعيد
منذ البدء يضعنا الشاعر عبد الزهرة زكي أمام طريق التأويل، للولوج الى مواجهة القراءة والبحث عن مغزى العمل الشعري وذلك من خلال عنوان مجموعة شعرية (العنوان هنا ليس مستلا من عناوين قصائد المجموعة، وإنما هو مجتزأ من جملة شعرية وردت في الديوان).


هذا العنوان أزاح رسم صورة وظيفة اليد في الذاكرة الجمعية ليعطيها انزياحا آخر ينتمي إلى المخيلة المبدعة لإنشاء علاقة من نوع ما (تختلف حسب درجة ذاكرة التلقي)، وبما يجعل المتلقي يتأمل بعنوان يحمل رموزا أو تأويلا أو دلالة منضوية تحت رداء الكلمات.
فمن المعروف أن وظيفة اليد ضمن الحواس الخمس هي اللمس، ولكن لو كان وقد وضعها في هذا المعيار الدلالي المتعارف عليه لما خلق عنوان الديوان أي عنصر دهشة للمتلقي، ولكان الشاعر قد عزف على وتر لا يملك دلالة الانزياح المتخيل الذي يبحث عنه قارئ الشعر.
لو كان الشاعر وضع اليد بدلالتها الوظيفية المعروفة لكان قد أفقد المجموعة، ومنذ العنوان، الوسيلة للاستدلال إلى الموهبة الشعرية التي قادها المبدع وتنامى معها خلال أكثر من عقدين كصانع جيد على طريق صناعة الشعر.
(اليد تكتشف)، إذا تأملنا هذا العنوان الرئيس لوجدناه يعطينا المفتاح الأول لبنية الدلالة والبنية الكتابية لأنه سيقود المتلقي بعد تفعيل عنصر الدهشة للبحث عن تأويل أدبي/ شعري وتقليبه خارج الصفة العلمية والمعلومة الذاكراتية الموروثة في الأذهان، وجعله يتأمل ما تفعله اليد في مسيرة الحياة.
يبدأ التلقي المعتاد برسم صور ملونة عن اليد وبأحجام مختلفة، عن دورها الوظيفي، فباليد ننقب ونكشف وبها نكتب ونبدع وبها نفعل الفضيلة والرذيلة ومن خلالها، بعد اندماج العلاقة بين البصر واللمس، يكون أحساس الفضول لدى الانسان لذلك فهو منذ البدء يسحب المتلقي للغوص معه لاكتشاف ما اكتشفته يد الشعر عند عبد الزهرة زكي وسيبقى التلقي الشعري بدلالته مفتوحا حتى يدخل التلقي الى شبكة الشعر لاكتشاف قصدية الشاعر، والشاعر هنا من المشتغلين لزمن طويل في واجهة الثقافة العراقية، إذاً فإن القارئ سيأخذ عدته لاستقبال دال جديد لمدلول العنوان عادّاً إياه الباب الاول الذي يلجه لمعرفة البنية الكتابية واكتشاف القصدية عند الشاعر الذي يعرف تماما كيف يتعامل مع الشعر رغم الحذر والقلق والسعادة التي يعيشها المبدع ذاته اثناء دوران الفكرة في مخيلته حتى خروجها بين يدي التلقي لأنه يريد أن يكون بمستوى تقنياته أو بالأحرى أن يصعّد من التقنيات الى مستوى الشعر لان الشعر فوق كل الاشياء الاخرى التي يصنعها الانسان داخل أطر محددة من الثوابت ويأخذ من المخيلة المتصاعدة المتنامية ليعطي للثوابت شكلاً جديداً وقبولاً وإقناعاً وبمعنى آخر شكلا مقبولاً ومقنعاً وبمعنى آخر وكما يُقال يجوز للشاعر ما لا يحوز لغيره.
ولأننا بصدد ماهية العنوان وعلاقة اليد وما تكتشفه سنكتشف أن اليد حاضرة في كل قصيدة.. ففي بعضها رسمت كلمة اليد بمعناها الجسدي والأخرى كانت تختفي بوضوح خلف دلالة كلمة مجاورة لها أو وقفت أمامها لتحجبها للحظات عن عين المتلقي
(لتكن الأرض التي لم أطأها
جنائن يدي في الفراغ) ص8
(أكف تصفق بلا هواء
تزجية تصادف فضائلها) ص14
(أهتمي بيديك
أكثر وهما تصوغان سوادهما بما تتوهمين) ص31.
وغيرها لنكتشف أن قراءتنا صنعت لها يداً لتكتشف ما تريده يد عبد الزهرة زكي.
قسم الشاعر عبد الزهرة زكي القصيدة الى وحدات تتنامى وتكبر لتلتقي مع بعضها ولتشكل القصيدة التي أرادها، كما في قصائد (مدخرات تكفي للنفي/ آثار الجوع/ القبلة الطائشة) أو جعلها / الوحدات/ في حالة دوران حول المركز من خلال الاشتغال على دوائر صغيره تدور بحركة واحدة متناسقة لا تصطدم مع بعضها ولا تتجاوز المسافة بين الوحدتين المتحاورتين.كما في قصائد (جنائن فارغة/ النواقص والأخلاق/ الملائكة بين قوسين) على سبيل المثال أي أن في قصائد عبد الزهرة زكي مركزاً واحداً يجعل مهمة اكتشافه عند التلقي بعد استيعاب الوحدات لاستخلاص اشيائه بدءاً من عنصر الدهشة الأول حتى عنصر التأويل ومن ثم التحليل.
ونكتشف أيضا أن البنية الكتابية تنطلق من عنصرين عامرين، الزمان والمكان، ومن هذين العنصرين تنشأ عناصر التكوين الاخرى. فالزمان متحرك غير ثابت، ينتقل ما بين الآني الاستهلال/ ليتحرك قليلاً نحو الماضي أو بالعكس في مسيرة سردية بثوب شعري غاية في الأناقة جاعلاً بين فتراته الزمنية فراغات على شكل مقاطع أي أنه يقسم الزمن الى وحدات منفصلة تدور حول المركز/ الأم بدءاً، كما اوضحنا، من العنوان الذي يشكل الوحدة الكبرى التي تتفرع منه الوحدات الصغيرة مثلا على ذلك قصيدة جنائن الفراغ فأن مما يدهش المتلقي هو دلالة الجنائن العرفية بدليل الفراغ أي أن لفظة الجنائن تسترجع بالمتلقي إلى ما تخزنه عن كلمة جنائن العابرة بكل شيء لكنه هنا جعلها فارغة، بل جعل كلمة الفراغ معرفة ليبدأ بعدها بالتقاط عناصر الفراغ لتشكيل حزن الشاعر وقلقه المتراكمين حتى صار جنائن لا تمنحه سوى الفراغ، فيبدأ باستهلال ذكي (لتكن الشمعة التي أوقدها تمثال مطر) وهو زمن آني..ليعود إلى العنصر الثاني ليمازج ما بين تفتيت الزمان والمكان الواحد الذي لا يتغير
(في المكانِ الذي لا يُرى،
كان يستبدلُ جنونَه..
ويسوّي الآخرون
من حولِهِ وجهاتِ نظرِهم.)
فنلاحظ أن الزمن قد تحرك من الآني (لتكن) إلى الماضي (كان)
وبالتأكيد ليس هو بالجنون المتعارف عليه لأنه سيترك الاخرين متحلقين بجنون الطرح والمناقشات وبالتالي التمسك بوجهات النظر ذاتها، أن الاعتماد على مغايرة المعنى المفضوح بمعنى التأويل هو الذي يقود الى المخيلة وهو الذي يمسك بحبل الدهشة ليعطيه الى المتلقي فلعبته هنا في هذه القدرة على الدوران حول المركز من خلال تصادم المفردة مع انزياحها المتخيل
(ثمة أدلاء لا يصلون) ص12،
فلعبة التراكيب اللفظية الشعرية تستهوي الشاعر لان عنواناته أخذت صيغة المعرفة الواضحة أذا عليه أن تكون بنية الكتابة غير مفضوحة المعنى، تخلع عرشها مع أول دلالة، فالإدلاء هم الادلاء لهم المكان/ الطريق ولهم الزمان/ الوقت، لكنهم فقدوا الزمان وبقي المكان في دائرة التيه فتحركت عناصر الوحدات المتصلة ليصل الى مغزى عنوان القصيدة (النواقص والأخلاق) لتشكل عناصر القصيدة المتفرقة وجمعها للخروج بقصيدة يتمناها أن تصل الى المتلقي
(تحت الأيقونة الكونية
يقف الخدم الجياع دون أن يتضوروا) ص 28
إن ملفوظات كهذه تمتلك انزياحها الدلالي وتأويل التخيل لدى المتلقي لان الشاعر جعله في حالة تصادم المفردة مع القصيدة المبيتة داخل جسم القصيدة فهو لا يريد من متلقيه أن يأخذ العلّة ويترك المعلول بل أن يأخذ الشعر ويمنحه التأويل ومن هنا ينشأ عنصر الدهشة في الشعر
(في قوة الظلام
الليل يفضح الأسرار) ص 59.
يكتشف المتلقي أشياء أخرى ما اكتشفتها يد الشاعر لأنه سيتأمل أضافة إلى ما تحتويه القصائد من أفكار (هذه متروكة للمتلقي في تقبلها ورفضها)، فأنه سيعرف أن الاعتماد على الجملة المختزلة هي الطريق الواسعة التي تمنحه قدرة على التأمل دون الاصطدام بالحواجز فضلاً عن مفرداته البسيطة التي تحمل من الانزياح ما يجعلها قادرة على انت يتقبلها المتلقي دون انزعاج لأنه لا يتركه في التيه بل سيكون دليله الذي سيصل به إلى أعادة تشكيل رؤيته وبالتالي التأمل لان في التأمل القدرة على تجميع الوحدات الزمانية الدائرة في ذات المكان للخروج بمعطف يحميه من برد القصيدة تارة ويكون ظله من حرّها تارة أخرى.